اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
نواصل الحديث على ضوء الآيات القرآنية المباركة في سورة الأنفال التي عرضت لنا غزوة بدرٍ الكبرى، وضمَّنتها الكثير من الدروس والعبر المهمة جدًّا، والتي تستفيد منها الأمة في مواجهة كل التحديات والأخطار والأعداء.
تاريخياً: في معركة بدر بعدما التحم الجمعان، واشتبك الفريقان، مكَّن الله -سبحانه وتعالى- المؤمنين من إلحاق الخسائر الكبيرة في صفوف العدو، وقُتِل الكثير من مقاتلي العدو، بينهم قيادات بارزة، وبينهم أيضاً فرسان ومقاتلون أشداء، فكانوا قرابة السبعين قتيلاً، وكانت هذه نكاية كبيرة وموجعة للعدو، وساهمت في هزيمته الهزيمة الساحقة، وكان لها تأثيرها الكبير في ضرب الروح المعنوية للعدو فيما بعد ذلك.
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، يذكرون في كتب السيرة والتاريخ أنَّ رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما اشتد القتال وحمي الوطيس- كما يقال في التعبير عن اشتداد المعركة- أخذ في كفه الحصباء ورماهم بها، وقال: شاهت الوجوه، ودعا عليهم، مع تلك الرمية بدأت هزيمة الأعداء، وكأنه رمى عليهم بالكثير من الصواعق، أو القنابل، أو القذائف الفتَّاكة المدمِّرة، بمعنى: كان تأثيرها كبيراً عليهم على المستوى النفسي والمعنوي، فمع تلك الرمية بدأت هزيمتهم، وحصل انهيارهم فوراً، فكانت هذه الرمية العجيبة عند اشتداد المعركة من جانب النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- رميةً مسددة من الله، أعطاها الله -سبحانه وتعالى- فاعليةً كبيرةً في التأثير على العدو، ولهذا قال هنا: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، فكانت رميةً إلهيةً مسددةً من الله -سبحانه وتعالى-، وبفاعلية عالية من الله -جل شأنه-.
{وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}، أمدَّ المؤمنين المجاهدين في تلك المعركة بمعونته، ورعاهم بجميل رعايته، بما أمدهم به، وبما أيدهم به، وبما أعانهم به، وبما وفقهم له في تلك المعركة، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فهو سمع نداء المؤمنين، واستغاثتهم، والتجاءهم إليه، ودعاءهم، وهو العليم بحالهم، بظروفهم، بمعاناتهم، بصدق نياتهم.
الدروس والعبر من هذه الآية المباركة: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}:
أول درس هو: ثمرة الاعتماد على الله -سبحانه وتعالى-، والتوكل على الله -جل شأنه-، فالله -جل شأنه- يمنح من رعايته ومعونته وتأييده ما يمكِّن عباده المؤمنين في موقفهم الحق من إلحاق الخسائر الكبيرة بالعدو، بالرغم من محدودية الإمكانات على المستوى المادي والعسكري في يد المؤمنين، وما يمتلكه المؤمنون، ولكن الله يمكنهم فيعطيهم فاعلية عالية في المواجهة، ويمكنهم أيضاً من إلحاق خسائر حساسة وكبيرة، تصل أحياناً إلى قتل قادة من صفوف العدو أو في صفوف العدو، والقتل في صفوف العدو في المعركة العسكرية من أكبر ما يؤثِّر عليه، يؤثِّر عليه، ويسبب له الهزيمة، ويترك تأثيراً كبيراً عليه فيما بعد ذلك، ودائماً ما تحسب في مقدِّمة الخسائر العسكرية: القتلى؛ باعتبارهم في حساب الخسائر من أخطر الخسائر، ومن أكبر الخسائر العسكرية التي تترك تأثيراً كبيراً في ميدان القتال، والله -سبحانه وتعالى- يتدخل في هذا الجانب المؤثر أيضاً: التمكين من قتل الأعداء، من قتل قادتهم، من قتل فرسانهم وشجعانهم، فيمثل هذا نكايةً بهم، وتطهيراً للأرض منهم ومن شرهم؛ لأن العنصر البشري هو الأساس في المعركة وفي الصراع، العنصر البشري هو الفاعل، هو المؤثر، هو الذي يتحرك، فعندما يُضْرَب العنصر البشري للعدو، هذا يؤثر عليه، وهذا يفيد أيضاً في مهمة تطهير الأرض من المجرمين والأشرار، الذين يشكِّلون خطراً على البشرية في أمنها، واستقرارها، وصلاحها، وصلاح حياتها…إلخ.
الدرس الآخر هو درسٌ تربويٌ مهم، وهو: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يذكِّرنا بأنه -جل شأنه- الذي يمكِّن، لولا تمكينه، لولا تأييده، لولا معونته، لولا إمداده المعنوي، لولا تسهيلاته الكثيرة التي يحققها لعباده المؤمنين؛ لما تمكَّنوا من النكاية بالعدو بحساب إمكاناتهم المادية وقدراتهم البشرية، ولكن تأييد الله -سبحانه وتعالى- ومعونته كانت هي الحاسمة، والتي حققت هذه النتيجة، وبدونها لم يكن ذلك ليحدث، ولم تكن تلك النتيجة لتكون، فعلى المستوى التربوي يبقى الإنسان المؤمن معترفاً بالفضل لله -سبحانه وتعالى-، ويبقى مستشعراً فضل الله عليه، ونعمته عليه؛ حتى لا يصاب بالغرور، عندما تكون في ميدان المعركة، عندما يحقق الله على يديك البعض من النتائج، أو التنكيل بالعدو، أو القتل لقادة من قادة العدو، أو إلحاق نكاية شديدة بالعدو، لا تعش حالة الغرور والعجب بالنفس، وتتجه إلى نفسك فتحسب هذا إنجازك، وقدرتك، وخبرتك، وجدارتك… وهكذا تتجه إلى نفسك، بدلاً من التوجه إلى الله -سبحانه وتعالى-، هذا أمرٌ خطيرٌ جدًّا، هو يبعدك عن التوجه بالشكر لله -سبحانه وتعالى-، فأنت بدلاً من الشكر لله، والاعتراف بنعمته، والإقرار بفضله، والتأثر بالإنشداد نحو الله -سبحانه وتعالى- بالتعظيم له، والمحبة له، تخسر كل هذا، وتتجه نحو نفسك لتعيش حالةً سلبية من تضخّم الذات، من التعظيم للنفس، من الاستشعار لعظمة النفس… وهكذا تجعل من نفسك صنماً تتجه إليه، تعظِّمه، تمجِّده، تكبر أنت في نفسك على نحوٍ سلبيٍ، تكبر فيك حالة الغرور، حالة العجب، وحينها تفترض لنفسك مقاماً عند الله -سبحانه وتعالى- أولاً، فترى أنَّ لك حقاً على الله، هذه حالة خطيرة ورهيبة جدًّا، حقاً عليه أن يمنحك، وأن يعطيك، وأن يمكِّنك، وأن يجعل لك موقعاً مهماً في هذه الحياة، وفي وسط الناس، وتفترض لنفسك في واقع الناس كذلك أن يكون لك مكانة مهمة، وموقع كبير، مثلاً: على المستوى القيادي، على مستوى الإمكانات، على مستوى المزيد من الاحترام والتقدير والتبجيل والتعظيم، فتتحول الحالة لديك إلى حالة سلبية خطيرة جدًّا، أنت تجاه الله تفترض منه أن يعطيك أشياء تحددها أنت عليه، أن يجعلك طالوت عصرك، أو داوود زمانك، أو يجعل لك شيئاً معيناً، أو يمنحك شيئاً معيناً، تصبح ناقد على الله -سبحانه وتعالى-، يعني: تعيش حالة الاستشعار بأنَّ لك حقاً عليه -سبحانه وتعالى-، وكذلك ناقماً على الناس، أنت تفترض منهم أشياء كثيرة بحقك، أن يروك كبيراً، أن يروك مهماً، أن يروك عظيماً، أن يقدِّموا لك إمكانات معينة، أن يعطوك ماديات معينة، أن يعطوك مناصب ومواقع معينة، فتفسد نفسيتك، وتتحول إلى صاحب أطماع وأهواء، وتتحول رغباتك في هذه الحياة وتوجهاتك محكومةً بهذا الهواء وبهذا الهوس، وقد يصل الحد بالبعض إلى أن يصاب بجنون العظمة، وبالتمحور والغرق في الذات، فلا يبقى مفكِّراً إلَّا في نفسه، وفي أهمية نفسه، وفي عظمة نفسه، وفي… وهكذا. وغارقاً في نفسه، ويبقى حسَّاساً جدًّا تجاه الآخرين بهذا الحساب، وبهذه النظرة، من هذه التقديرات: [كيف هم؟ هل هم يحترمونني جدًّا أم لا؟ هل يقرون بمكانتي ودوري أم لا؟ هل هم كذا أم لا؟]، فيحكم علاقته بالآخرين من خلال هذا الاعتبار الشخصي، ويغرق في الشخصنة، في شخصنة الأمور من حوله، المواضيع من حوله، الأعمال من حوله يطبعها بالطابع الشخصي، هو يريد من كل عمل أن يكسب به المزيد من الأهمية، المزيد من تعزيز الموقع والشخصية، فيفقد إخلاصه لله -سبحانه وتعالى-، ولاحظوا كم تكثر الآفات عندما يصاب الإنسان بمثل هذه الحالة: يفقد الإخلاص لله -سبحانه وتعالى-، يفقد الاستشعار للقربة إلى الله -سبحانه وتعالى- بما يعمل، يعيش حالة الغرور، يعيش حالة العجب، يعيش حالة الكبر، يتحول من المختالين، والله -سبحانه وتعالى- كما يقول في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء: من الآية36]، يصبح كثير الافتخار والاعتداد بالنفس، فيكثر من قول: [أنا وأنا وأنا… وأنا الذي فعلت، وأنا الذي صنعت، وأنا الذي حققت، وأنا الذي أنجزت]… وهكذا، وهذه حالة رهيبة جدًّا، يعالجها القرآن الكريم بهذه التربية الإيمانية، التي يعيش الإنسان فيها حالة الذوبان لله -سبحانه وتعالى-، وحالة الاستشعار لفضل الله، وهي الحالة الصحيحة، ليست مسألة مجاملة مع الله، هي الحالة الصحيحة والواقعية، أنَّك بدون الله لا شيء، لاشيء، أنَّك بدون الله أنت الضعيف، أنت العاجز، أنت الذي لا تمتلك لا في روحك المعنوية، ولا في واقعك العملي ما كان من الممكن أن تحقق ما حققه الله على يديك لولا رعاية الله لك، لولا أنه هو الذي هيَّأ لك على مستوى الواقع العملي، وأمدك في واقعك النفسي والمعنوي، وهكذا هيَّأ الأشياء الكثيرة، لاحظوا مثلاً في قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ}، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي ربط على القلوب، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي منح الطمأنينة والسكينة، وهذا العامل المعنوي هو الرئيسي في أن يتم الثبات أولاً، ثم أن يكون الموقف أكثر من الثبات موقفاً متقدِّماً: الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يسدد في الضربات والرمي، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يقذف الرعب في قلوب الأعداء، ويوهن من كيدهم… وهكذا، لولا الله، لولا رعايته، لولا مدده وتأييده ومعونته لما تم شيءٌ من ذلك أصلاً، فالحالة الإيجابية: أن يتجه الإنسان إلى الله -سبحانه وتعالى-، وأن يستشعر القربة إليه فيما وفَّقه له، وأن يتخلَّص كلياً من كل هذه المشاعر السلبية.
هناك أيضاً درس على المستوى الأمني، لا يستحسن أن يتباهى الإنسان بقتل أشخاص مثلاً في صف العدو، فيصبح يتباهى أنه الذي قتل فلاناً، أو أنه الذي تمكَّن من قتل فلان، على المستوى الأمني يمكن أن يركِّزوا عليه شخصياً، وتتحول القضية إلى قضية شبه شخصية وثأر شخصي.
هناك درس أيضاً على المستوى الاجتماعي، وهو أنَّ البعض قد يكون من أسرة معينة، أو من منطقة معينة، أو من قبيلة معينة، والتباهي بقتله قد يورث الضغائن في نفس أسرته، في نفس أصحابه، في قبيلته، وتكون المسألة حسَّاسة، تترك تأثيراً سلبياً على المستوى الاجتماعي، البعض قد يكون من نفس مجتمعك الذي أنت تعيش فيه، فيكون لهذا آثار سلبية حتى على مستوى المستقبل، على مستوى المستقبل قد يؤثِّر على البعض في موقفهم، في هدايتهم، في صلاحهم، فلهذا دروس متعددة، هذا بعضٌ منها.
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، وكذلك يفيدنا كيف أنَّ الاعتماد على الله، والتوكل على الله -سبحانه وتعالى-، والتحرك الجاد في موقف الحق يساعد على التسديد من الله -سبحانه وتعالى-، وإعطاء فعالية كبيرة جدًّا للأشياء الممكنة والمتاحة، حتى لو كانت بنظر الناس بسيطة، فتلك الحصباء التي رمى بها النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- تحوَّلت إلى ذات تأثير كبير في نفوس الأعداء وعليهم، عندما يتحرك الناس في سبيل الله -سبحانه وتعالى- في موقف الحق، بإمكاناتهم وما يستطيعونه، وبتوكلٍ على الله -سبحانه وتعالى-، فالله سيعطيها الفاعلية العالية في مواجهة العدو.
هناك أيضاً درسٌ مهمٌ من قوله -جل شأنه-: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}، المؤمنون- والإيمان هو صلة عظيمة بالله -سبحانه وتعالى– عندما يتحركون في سبيل الله، عندما ينهضون في الموقف الحق ويتحملون مسؤولياتهم، فالله -سبحانه وتعالى- هو يوليهم من رعايته، من معونته، من تأييده، وهم في مثل هذا الظرف الصعب: وهم يخوضون المعركة، وهم يواجهون التحديات، يوليهم من رعايته، ومن فضله، ومن إحسانه الشيء العظيم والكبير والواسع، ويؤيِّدهم -جل شأنه-، هو يتدخل في الظروف الحسَّاسة والصعبة، ويواكبهم لحظةً بلحظة، فيمنحهم معونته وتأييده ورعايته العجيبة جدًّا، ولكن المهم جدًّا بالنسبة لنا أن نفهم أنَّ هذه الصلة التي تحظى الأمة من خلالها بمثل هذه الرعاية الإلهية، بمثل هذه المعونة من الله -سبحانه وتعالى-، بمثل هذا التمكين والتأييد الكبير من الله -سبحانه وتعالى- هي الإيمان، ولهذا يأتي العنوان هنا: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ}، فالإيمان هو الصلة الهامة والأساسية بالله -سبحانه وتعالى-، التي يحظى الناس من خلالها بمعونة عجيبة من الله، برعاية عجيبة من الله، بتأييد كبير من الله -سبحانه وتعالى-.
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، يسمع للمؤمنين دعاءهم، نداءهم، استغاثتهم، التجاءهم، ويعلم بصدق نياتهم، وإخلاصهم، وجدهم، وجهودهم، وتضحياتهم، وعنائهم، وصبرهم، وأعمالهم، وعطاءاتهم، يعلم بكل ذلك، فيكافئهم في الدنيا، ويكافئهم في الآخرة، ويجزيهم خير الجزاء، ويعينهم، وما يعطي من نعمة، من تأييد، هو في نفس الوقت اختبار إيجابي، إذا تعامل الإنسان معه بالشكر، يزداد الفضل من الله، وتزداد الرعاية من الله -سبحانه وتعالى-.
{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}[الأنفال: الآية18]، {ذَلِكُمْ} ما ذكره من تأييده -سبحانه وتعالى-، من تمكينه من قتلهم في بدر، وما تحقق من النصر عليهم، {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}، الكافرون يعني هم أعداء الله، أعداء البشرية، أعداء الإنسانية، هم المشاقون لله، هو الذين يتحركون في سبيل الطاغوت، هم الذين يستهدفون المؤمنين؛ ليمنعوهم من أن يتحركوا أمةً مستقلةً على أساس منهج الله وهديه، فهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، ويعتمدون على الكيد، على مستوى الخطط، وعلى مستوى الوسائل التي يرون فيها وسائل تساعدهم على ضرب المؤمنين، وعلى السيطرة على المؤمنين، وعلى سحق المؤمنين، فالله -سبحانه وتعالى- في تدخله هو يوهن كيدهم، {مُوهِنُ}، وجاء هذا التعبير: {مُوهِنُ}، اسم الفاعل كما يقولون، {مُوهِنُ}، ليبين أنها سنة من سنن الله -سبحانه وتعالى-، وأنَّ الله -جل شأنه- مستمرٌ في ذلك وفي هذا النوع من التأييد لعباده المؤمنين في كل زمان، وفي كل معركةٍ وتحدٍ، طالما التزموا بأسباب نصره وتأييده، فهو -سبحانه وتعالى- يوهن {كَيْدِ الْكَافِرِينَ}: ما يعتمدون عليه من خطط، ومؤامرات، ووسائل، وإمكانات تمكِّنهم من السيطرة، تمكِّنهم من حسم المعركة، الله يوهنها، فيفقدها فاعليتها، ويفقدها تأثيرها، ويحد من مستوى فاعليتها، وهذا من أهم مظاهر التأييد الإلهي والمعونة الإلهية: أنَّ الله يحد ويضعف ويقلل من صلابتها وتأثيرها وفاعليتها، فتكون النتيجة كبيرة عليهم، تكون نتيجة الوهن التي تهيئهم للهزيمة، وتفشل عليهم في نهاية المطاف الكثير من خططهم، فتكون نجاحاتهم محدودة، وغير مؤثرة لصالحهم بالشكل الذي يحسم المعركة لصالحهم، وهذا يشمل كل المجالات: على المستوى العسكري، على المستوى الأمني، على المستوى الاقتصادي، إذا تحرَّكت الأمة معتمدةً على الله -سبحانه وتعالى-، وعززت الصلة الإيمانية بالله -جل شأنه-، واستجابت عملياً، وتحركت كما ينبغي، فالله -سبحانه وتعالى- يجعل جزءاً من معونته وتأييده لصالح المؤمنين يتجه إليهم كمدد معنوي، وتهيئة، وتسخير… وعوامل كثيرة، وجزءًا من التأييد يتجه إلى ضرب العدو في نفسه، مثل: قذف الرعب، أو أن يوهن كيدهم.
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال: الآية19]، {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، هم خرجوا على أساس أن تحسم المشكلة بينهم وبين المسلمين، وأن يحسموا المعركة لصالحهم، وطلبوا من الله الفتح، وتظاهروا بأنهم هم في موقف الحق بالنسبة لقريش والجيش الذي خرج لمحاربة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، وطلبوا من الله أن يهلك المبطل من الطرفين؛ فأهلكهم الله -سبحانه وتعالى- وضربهم، وكانت المعركة بتلك الظروف، بتلك الإمكانات، في تلك الوضعية بحد ذاتها، شاهداً على مصداقية النبي والمؤمنين على أنهم أهل الحق، كانت شاهداً للحق، كانت دلالةً على تأييد الله -سبحانه وتعالى-.
{وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، وهذه نصيحةٌ لهم ليكفوا عن محاربتهم، عن عدوانهم، عن إصرارهم على بغيهم، ومن المهم النصح للعدو والتذكير له بأن الخير له في أن يكف، يكف عن عدوانه، يكف عن استهدافه، يكف عن محاربته للحق، فهذا هو خيرٌ له وأسلم له؛ لأنه بإصراره واستمراره لن يحقق النتائج التي يسعى لتحقيقها، ولن يتكبد إلا المزيد والمزيد من الخسائر.
{وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ}، عادةً يسعى العدو بعد هزيمة معينة، أو في معركة معينة، إلى أن يرتب من جديد ويهيئ من جديد ويستعد من جديد لخوض المعركة مرةً أخرى، في سياق إصراره وتعنته، أحياناً على مستوى المعركة في ظل حرب مستمرة، وأحياناً على مستوى حرب أخرى، في كلتا الحالتين الله -سبحانه وتعالى- يقدم تهديداً ووعيداً للعدو، ويقدم وعداً وطمأنةً لعباده المؤمنين الذين هم في موقف الحق، فإذا عاد العدو من جديد إلى المعركة، إلى معركة جديدة، أو إلى حربٍ جديدة، فإن الله -سبحانه وتعالى- يعود بنصره، بتأييده، بمعونته لعباده المؤمنين، وهذه طمأنه مهمة للمؤمنين.
أحياناً بعد أن تحسم معركة أو تنتهي معركة معينة حصل فيها التأييد والمعونة الإلهية، يعيش المؤمنون والمجاهدون حالة القلق من المعركة القادمة، عليهم أن يطمئنوا، أنهم عندما يستمرون في موقفهم الحق، ويعززون صلتهم الإيمانية بالله -سبحانه وتعالى-، ويستمرون في الأخذ بأسباب النصر المعنوية والعملية، فإن الله -سبحانه وتعالى- لن يتخلى عنهم، لن يتركهم في المعركة القادمة، الله -سبحانه وتعالى- هو القوي العزيز، ومعونته ونصره لعباده المؤمنين المظلومين في موقفهم الحق ليست فقط لمرة واحدة، لن يتعب، هو -جلَّ شأنه- لن يتعب، لن يقول: [مشكلتكم كبيرة، ومعارككم كثيرة، وكم عليّ أن أعينكم، وأساهم معكم، وأتدخل إلى جانبكم، كل يوم وهي معركة، أو كل شهر وهي معركة]. هو -جلَّ شأنه- القوي العزيز، لا يمكن أن يتعب، ولا أن يمل، ولا أن يتغير عليه حال -جلَّ شأنه- هو العلي العظيم، والقوي العزيز، والقاهر المهيمن فوق العباد.
ولذلك لإصرار الأعداء وتعنتهم على الاستمرار في موقفهم الباطل، الظالم، المعتدي، الباغي، ضد الحق وأهله، ضد المؤمنين، هنا الله -سبحانه وتعالى- سيمد عباده أكثر بالنصر والتأييد، كلما تعنت العدو أكثر، وكلما طغى أكثر، وكلما تجبر واستكبر أكثر؛ كلما سبب لنفسه سخطاً أكبر من الله -سبحانه وتعالى-، وكلما كان التأييد الإلهي أكبر، حتى كلما كبرت التحديات والأخطار؛ كلما كبر معها التأييد من الله والمعونة من الله.
المهم دائماً هو: تعزيز الصلة الإيمانية بالله، هذه أهم مسألة، والالتجاء الدائم إلى الله، والاستجابة العملية، والأخذ بأسباب النصر، هذه هي الأمور المهمة جدًّا؛ ولذلك على المؤمنين ألَّا يشعروا بالوهن، ألَّا يكترثوا وتكبر عليهم مسألة أن العدو يعد لمعركة جديدة، أو يريد شن هجوم مجدداً هنا أو هنا، أو يتحرك عسكرياً من جديد من هنا أو هنا، المهم هو أن يركزوا على تلك العوامل الأساسية للنصر، ولمعونة الله، ولتأييده، القضية المحورية والرئيسية جدًّا كيف نكون بحيث يكون الله معنا، بحيث يكون الله معنا، إذا كنا على النحو الذي يكون الله فيه معنا، فلا قلق في مواجهة أي تحديات مهما كانت، أي أعداء مهما كانوا ومهما كانت إمكاناتهم، أي مؤامرات من جانب الأعداء مهما كان حجمها، في كل المجالات، لكن الذي يجب أن نركز عليه جدًّا، وأن ننتبه له جيداً، وأن يكون محط اهتمامنا الكبير: كيف تكون صلتنا الإيمانية بالله -سبحانه وتعالى- قوية؛ حتى يكون الله معنا، أهم عامل وعنصر قوة: أن نكسب معية الله، أن يكون معنا.
فهو يقول: {وَإِنْ تَعُودُوا} أنتم الأعداء {نَعُدْ}، من؟ الله -سبحانه وتعالى-، الله القوي العزيز، الله العلي الكبير، الله القهار الجبار، وعندما يعود فهو الذي سيحسم المعركة لصالح عباده المؤمنين، {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ}؛ لأن العدو قد يعمد إلى التحشيد من جديد، وإلى أن يزيد من عديد قواته وزخمها البشري، أن يحشد المزيد والمزيد والمزيد من قواه العسكرية، ليشغلها ويحركها إلى المعركة، لو كثرت فئتكم ليست شيئاً؛ لأنه عندما يأتي الله -سبحانه وتعالى-، يتدخل الله -سبحانه وتعالى-، يعود الله -سبحانه وتعالى- بتأييده ونصره، فأنتم لا شيء أمام قوته وجبروته، {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}، وما أعظم هذه الآية المباركة {وَأَنَّ اللَّهَ}! الله -سبحانه وتعالى- بقوته، بتأييده، بمعونته، بنصره، هو القائل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}[آل عمران: من الآية160]، (فَلَا غَالِبَ لَكُمْ): ما أحد أبداً، لا أحد أبداً يستطيع أن يغلبكم، فهو مع المؤمنين، والمسألة المهمة هي هذه: تعزيز الصلة الإيمانية على كل المستويات: على مستوى الطاعة، الالتزام العملي، التقوى، التحرك وفق توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، تعزيز الصلة الإيمانية، والالتزام الإيماني، والعلاقة الإيمانية بالله -سبحانه وتعالى- هو أهم شيء لكي يكون الله معنا.
هذه الآية المباركة (الثلاث الآيات المباركات) هي ركزت على موضوع مهم جدًّا، وجدنا مثلاً فيما سبق كثيراً من التوجيهات المهمة والأوامر المهمة من الله -سبحانه وتعالى- من أول السورة، في أول آيةٍ منها ثلاثة أوامر: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال: من الآية1]، ثم تأتي البعض من الأوامر المهمة، والنواهي والتحذيرات المهمة، التوجيهات من الله -سبحانه وتعالى- هي توجيهات من منطلق رحمته وحكمته، وهو ربنا العظيم، ومن منطلق علمه بما هو الخير لنا، وكلها مهمة، ولها نتائج مهمة في واقع الحياة، ويترتب على الالتزام بها النتائج الإيجابية، من مثل هذه: المعونة من الله والتأييد من الله -سبحانه وتعالى-، وأكبر خلل، وأخطر خلل هو الخلل في الالتزام بمدى الطاعة العملية تجاه التوجيهات الإلهية، التوجيهات تأتي، والأوامر من الله -سبحانه وتعالى- نسمعها، ولكن المهم هو الالتزام، هو العمل، هو الطاعة، هو التنفيذ، والخلل يكون هنا عادةً، الخلل هو في الالتزام العملي، وفي الطاعة، وفي التنفيذ، وفي الاستجابة العملية، وحينها لا نستفيد من تلك التوجيهات الإلهية، ونخسر في نهاية المطاف يفوتنا أشياء مهمة جدًّا، بل يترتب على ذلك نتائج سيئة علينا في واقعنا في هذه الحياة؛ أما في الآخرة فالمعصية لله، والمخالفة لتوجيهاته وتعليماته وأوامره هي جهنم، النتيجة هي جهنم والعياذ بالله.
فالطاعة هي المسألة المهمة والأساسية، والمعيار المهم لمصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، أن يكون مطيعاً فينفذ التوجيهات، فيلتزم بالتعليمات، فيطيع الله في تلك الأوامر، ويلتزم بها على الواقع العملي، هذا الالتزام العملي هو الميزة الصحيحة والصادقة والمهمة للإنسان المؤمن حقاً، وقد تقدم في قوله -جلَّ شأنه-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[الأنفال: من الآية2]، والنتيجة لهذا كله هي ماذا؟ الالتزام؛ حتى لو كان مقصراً في شيءٍ معين فذكر يتذكر؛ فيتلافى تقصيره، حتى لو كان قد خالف في مسألة معينة، أو في توجيهات معينة، عندما يذكر يتذكر؛ فيرجع، وينزجر، ويتقي الله -سبحانه وتعالى-.
قد تكون الأشياء التي تؤثر على الإنسان فلا يطيع، فلا يلتزم عملياً: إما رغبات وأهواء وأطماع، وإما شهوات، وإما غضب وانفعال وكبر وغرور، وإما مخاوف معينة، مثل هذه المؤثرات التي تؤثر على الكثير من الناس، بحسب طبائعهم وتوجهاتهم واهتماماتهم في هذه الحياة، ولكن الشيء المهم الذي يؤكد عليه القرآن الكريم هو: أن الطاعة معيار لمصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، قد يأتي الكثير ليقول عن نفسه أنه مؤمن، وأنه مجاهد، وأنه من أنصار الله -سبحانه وتعالى-، وأنه من زمرة المؤمنين، ولكنه في سلوكياته، أو في مواقفه، أو في التزامه العملي، بعيدٌ عن ذلك، بعيدٌ في التزامه العملي، يصدر منه تصرفات ومخالفات يخالف بها التوجيهات من الله -سبحانه وتعالى-، أو لا يستجيب لتوجيهات مهمة، توجيهات لها أهميتها الكبيرة التي تبني الأمة، وتساعد الأمة لتكون في مستوى مواجهة التحديات، وللنهوض بالمسؤوليات التي عليها، فيأتي هنا التأكيد على الطاعة، وعلى الالتزام العملي، وعلى الاستجابة للتوجيهات، والاستجابة للتعليمات.
{وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}، (وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ): هذا الإعراض، وهذا التنصل عن المسؤولية، هذا التهرب من الاستجابة، التهرب من الالتزام العملي، (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ): تسمعون التوجيهات، وتسمعون الآيات، وتسمعون التذكير، فهي تعتبر من أسوأ الحالات على الإنسان عندما يصل إلى هذا المستوى من الاستهانة بالتوجيهات والتعليمات من الله -سبحانه وتعالى-، وفي كتابه الكريم، والتي تأتي إلى الواقع العملي، إلى الأداء العملي.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}، حالة سلبية جدًّا أن يصل الإنسان إلى هذا المستوى، فهو يصغي أو يسمع، ولكنه لا يلتزم، وكأنه لم يسمع، لا يتأثر وكأنه لا يسمع، لا يتجه عملياً على ضوء ما سمعه من توجيهات وتعليمات من الله -سبحانه وتعالى-، مثلاً: البعض قد يكون سمع قول الله -سبحانه وتعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}[الأنفال: من الآية1]، وهو لا يزال يحمل الضغينة في نفسه على إخوته المؤمنين، وهو بعد لم يتجه عملياً ويلتزم عملياً ليسعى لصلاح ذات البين، فكأنه لم يسمع، البعض قد يكون سمع التعليمات والأوامر من الله -سبحانه وتعالى- عن التحرك في سبيل الله، عن العمل، عن الإنفاق… عن أشياء كثيرة، كم يسمع الناس من الأشياء الكثيرة من توجيهات الله وتعليماته، وكأنهم لم يسمعوا، كما يقال في المثل الشعبي: [دخل من أذن، وخرج من الأذن الأخرى]، كأنهم لم يسمعوا، في واقعهم العملي لم يتجهوا للتنفيذ وللتطبيق وللالتزام العملي.
فيأتي هنا التركيز على الالتزام العملي، وعلى الاستجابة لتعليمات الله وتوجيهاته، وهنا ستحقق الثمرة، ستأتي النتائج لهذه التوجيهات؛ لأن مخالفة هذه التوجيهات وهذه التعليمات له أضرار كبيرة على الأمة في دنياها وفي آخرتها، الأمة تدفع ثمن مخالفة التوجيهات والتعليمات الإلهية ثمناً باهضاً: ذلةً، هواناً، فشلاً، تمكيناً للعدو، خسارةً، مشاكل كثيرة على كل المستويات، أزمات كبيرة في كل المجالات، وكل ما يعيشه المسلمون في واقعهم من حالةٍ سلبية، وأزمات كثيرة، ومشاكل كثيرة؛ إنما هي نتيجة للخلل في مدى الالتزام العملي والاستجابة العملية.
الإنسان إذا وصل إلى هذه الحالة، إلى حالة يستهين فيها بالتوجيهات، لا يقدس أوامر الله، لا يعظم توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، لا يتفاعل معها، فقد وصل إلى حالة خطيرة جدًّا، ولذلك قال الله -جلَّ شأنه-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}، يصبح الإنسان من شر الدواب، يكون الثور أحسن حالاً منه، أحسن حالاً منك إذا وصلت إلى هذه الحالة، الثور، البغل يمكن أن يكون أحسن حالاً منك، عندما تصل إلى حالة لا تتفاعل فيها مع توجيهات الله، مع تعليماته المهمة والتي لها نتيجة مهمة، أنت تذكر عدة أمور: تذكر مصدر هذه التوجيهات، أنه الله -سبحانه وتعالى-، وهذا كافٍ لو بقي فيك خير، لو بقي فيك إيمان، أن تخجل من الله، أن تستحي من الله، أن تخشى الله؛ فتهتم بالتوجيهات التي مصدرها الله، التعليمات التي هي من الله -سبحانه وتعالى-، يكون لها أهميتها عندك، قيمتها عندك؛ لأن مصدرها الله -سبحانه وتعالى-.
ثم أيضاً كل هذه التوجيهات التي تأتي من الله هي لخيرنا، ولمصلحتنا، ولفائدتنا، ولفلاحنا، ولنجاحنا، ولعزتنا، ولكرامتنا، ولصلاح حياتنا، والإخلال بها وعدم الاستجابة لها له نتائج سلبية جدًّا وخطيرة علينا في واقع حياتنا، وراء كل توجيه من الله خير، ووراء الإخلال به وعدم الاستجابة له شر، ونتائج سلبية في الواقع، هذا أيضاً يمثل دافعاً للاستجابة؛ لأن في هذا الخير لنا، وهو لمصلحتنا، وإذا لم نستجب فهو وراء ذلك شرٌ علينا، وهو خطرٌ علينا وليس لمصلحتنا؛ فإذاً المفترض أن يكون هذا أيضاً حافزاً ودافعاً للاستجابة.
ثم ما يأتينا من الله -سبحانه وتعالى- فيه الكثير مما يفيدنا تربوياً: يمنحنا الرشد، التفكير الصحيح، يزكي نفوسنا؛ حتى تكون نفوساً زاكية تتفاعل مع الأشياء الإيجابية في الحياة، مع الأشياء الصحيحة في الحياة، وتحمل الهمم العالية، وتدرك قيمة هذه التوجيهات فيما لها من آثار ونتائج مهمة وإيجابية وكبيرة في هذه الحياة، فالنفوس الزاكية، والهمم العالية، والرشد والنضج الفكري، يساعد الإنسان أن يدرك قيمة التوجيهات الإلهية، أن يدرك أهمية أوامر الله -سبحانه وتعالى-، وما يترتب عليها من النتائج المهمة، فيكون ذلك دافعاً للاستجابة.
فإذا وصل الإنسان إلى مستوى لا يتفاعل فيه مع توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، مع أوامر الله -جلَّ شأنه-، وحتى عندما يسمع كأنه لم يسمع، لا يتأثر ولا يتفاعل؛ فلا يتجه عملياً على أساس التنفيذ، فهو في هذه الحالة أصبح في وضعيةٍ نفسيةٍ خطيرة، وأصبح شر الدواب، أصبح شر دابة تدب على وجه هذه الأرض، كما قلنا يكون الحمار أحسن حالاً منه، والبغل أحسن حالاً منه، والثور أحسن حالاً منه، لقد أصبح شر دابةٍ تدب على وجه هذه الأرض، وكأنه أصم لا يسمع، والتوجيهات والتعليمات من الله -سبحانه وتعالى- وهدى الله فيه ما يكفي في التأثير على الإنسان، ما يخلق قناعةً لدى الإنسان، ما يترك تأثيراً عظيماً لدى الإنسان، فإذا وصل الإنسان إلى هذه الحالة في حالة خطيرة جدًّا، إذا وصل مجتمع إلى هذا المستوى فحاله سيء جدًّا، حاله سيء جدًّا، يفقد الإنسان قيمته الإنسانية فيما أولاه الله وما أعطاه من مؤهلات، تساعده على أن يكون أكثر وعياً ونضجاً وفهماً وتفاعلاً وإيجابيةً في الحياة من بقية الدواب، كأنه أصم وكأنه أبكم لا ينطق، وكأنه لا يعقل ولا يفهم شيئاً.
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ}؛ لأن الإنسان إذا وصل إلى درجة لم يعد يتفاعل مع ما يسمع، فقد فقد الخير في نفسه، ما فيه خير، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}؛ لأنهم في حالة حتى ولو سمع، حتى ولو فهم الموضوع لم يعد يتفاعل معه، يتجه للإعراض للتنصل عن المسؤولية، للتهرب وكأنه لم يسمع، يحاول أن يتجه عملياً باتجاهٍ آخر، وكأنه لم يسمع شيئاً من هدى الله ومن توجيهاته، تعتبر هذه حالة خطيرة جدًّا والعياذ بالله.
والإنسان إذا عود نفسه على الاستهانة بالتوجيهات، وعلى المخالفة تزداد هذه الحالة عنده حتى يصل إلى وضع سيء جدًّا، والعياذ بالله يصل إلى هذه الحالة: (شَرَّ الدَّوَابِّ).
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.