صمود وانتصار

الدقيق المحلي المركب.. خطوة لبقاء رغيف الحياة

يسكن الجميع مخاوف البحث عن رغيف الخبز الذي له علاقة بالحياة على درجة من المتانة والعمق جعلت الشعوب البدائية تنسج منها الحكايا والأساطير ، وقد يختلف شكل الرغيف ولونه ومذاقه من مكان الى أخر إلا أنه يبقى موحداً في التراث والتاريخ والتقاليد الإجتماعية .. وسرعان ما تتلاشى نوبات قلق غياب الرغيف بحضور حبوب تجود بها أرض اليمن الزراعية ، تحصدها سواعد فلاح ، يتحدى بمنتجه المحلي حصار المستورد وتهديدات تحالف العدوان بمنع الدخول ، يترجم ذلك التحدي توجيه وزارة الصناعة للمخابز والأفران بضرورة استخدام منتجات الدقيق المحلي المركب بنسبة 25% تشجيعاً للإنتاج المحلي من الذرة.

ثقافة غذائية قديمة:

 سطور “سبأ” تجولت في عددٍ من المخابز والأفران للتحقق من مدى قابلية المستهلك والجهة المنفذة للتوجيه ودور وزارتي الزراعة والصناعة وجمعية حماية المستهلك في دعم المزارع والتخفيف من الدقيق المستورد للوصول الى الاكتفاء الغذائي في ظل العدوان والحصار.

 الدقيق المحلي المركب هو خليط من عدة انواع من الحبوب المحلية يتم تداول ما نسبته 25% من طلبيات الخبز الاسمر المركب حسب التوجيه الوزاري تشجيعاً للإنتاج المحلي من الذرة لما فيه مصلحة للمواطن والاقتصاد الوطني.

في أحد المخابز التي هي نتاج لثمرة مشروع استثماري لمجموعة من الفتيات في شارع تونس تقول افراح : إن التوجه الحكومي بتشجيع المنتج المحلي يعود بالفائدة على المزارع والمواطن وايضاً أصحاب العمل في المخابز والأفران خاصة وان المخبز الذي تعمل فيه لا تتوقف طلبات زبائنه على “الخبز البلدي والذمول والقفوع” وجميعها يتطلب في عجنها مجموعة من الحبوب وكثيراً ما يشترط مرتادي المخبز ان يكون الخبز خالي من الدقيق الأبيض والذي يتجنب الصحيين ومرضى السكر تناوله لما له من اضرار ومخاطر صحية .

وهذا ما أفصحت به الأستاذة وفاء ناشر ، مديرة إدارة التدريب في الادارة العامة للارشاد والاعلام الزراعي بوزارة الزراعة ، أن من الثقافات الغذائية في المجتمع اليمني في تحضير الخبز خلط انواع من الحبوب المختلفة لتحضير نوع واحد من انواع الخبز، اي ان مفهوم الدقيق المركب موجود في الثقافة الغذائية لدى الكثير من السكان في مختلف مناطق اليمن مثلا (ملوج البر مع الشعير، ذمول البر مع الذرة بأنواعها ، قفوع الذرة مع البلسن وخبز الكدم المكون من اكثر من محصولين) ونتيجة للتغيرات المناخية والبيئة والمجتمعية التي طرأت على المجتمع اليمني وتراجع مساحات زراعة الحبوب وتغير النمط الغذائي التقليدي المرتبط بمحاصيل الحبوب المحلية لكثير من السكان ، بدأت كثير من هذه الوجبات وأنواع الخبز بالاندثار والاعتماد على الحبوب المستوردة ” القمح” وإهمال زراعة الحبوب المحلية.

سمير ، الشاب الثلاثيني ، الذي يشرف على عملية العجن بمخابز السنابل الآلية والتي تنتج الكثير من الخبز الاسمر والأبيض ، يرى ان هذه الخطوة تشجيع للمزارع وللمواطن المقبل على شراء الخبز الاسمر مؤخراً اكثر من اي وقت مضى .

وينصح سمير الجهات المختصة بتكثيف التوعية للمواطن عن اهمية هذا الخبز صحياً واقتصادياً على البلاد ، لان المواطن يتساءل عن سبب تغير لون الخبز وطعمه بعد ان تم خلطه بالدقيق المركب مع القمح المستخدم في العجن .

وضع عبدالله فاضل يختلف كثيراً عن سمير ، فهو لم يغامر بعد في مخبزه الذي ينتج الكدم بشكل يومي للمواطنين في استخدام الدقيق المركب وذلك تخوفاً من نتائج يحكم عليها الزبون تؤثر على عمل المخبز خاصة وان العجان لم يقم بأي تجارب مسبقة تؤكد لعبدالله نجاح العملية لكنه لا يمانع في استخدامها مستقبلاً خاصة وان مخبوزات الكدم تعتمد على عدة انواع من الحبوب .

نأكل مما نزرع:

عمار تقي الدين ، مسؤول التسويق في المؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب ، يراهن على كبار السن في استيعاب ومعرفة أهمية الدقيق المركب أكثر بكثير من “جيل الروتي” على حد تعبيره ، وأكد ان المؤسسة قامت بعدة تجارب عبر مختبرات وإشراف دكاترة جامعيين وتعاون بعض الجهات مثل مؤسسة الطحن “قنوان” ونجحت التجربة في خلط القمح مع نسبة 25% من مجموعة حبوب زراعية محلية مثل الذرة والشعير وما تم طلبه من الأفران هو وضع نسب محددة لكل كيس قمح سواء كان رغيف اسمر او ابيض او كدم .

 وأضاف تقي الدين ان المؤسسة تسعى لعمل خطة تسويقية تنموية منها رفع الاقتصاد وتخفيف الاستيراد وخدمة المزارع اليمني بدرجة اولية وتشجيعه للوصول للإكتفاء الذاتي الذي يمكن تحقيقه خلال خمس سنوات اذا طبقنا شعار “نأكل مما نزرع “.

الرغيف الصحي:

سطور صحية سردتها خبيرة التغذية ريم الميري لـ” سبأ ” مفادها ان بعض انواع الخبز الأبيض قد يذكرعلى عبوتها أنها غنية بالعناصر الغذائية المضافة ، إلا ان هذا لا يعني انها صحية تماما لأنها تبقى فقيرة بالألياف وعالية بالسعرات الحرارية ويجعل الإنسان يشعر بالجوع بعد تناوله بفترة قصيرة على العكس من الخبز الأسمر الذي يعتبر مصدر للعديد من العناصر الغذائية المهمة وذلك كونه مصنوع من الحبوب الكاملة الغنية بالأحماض الدهنية الاساسية وفيتامينات B وD وE وحمض الفوليك والزنك والماغنسيوم والالياف الغذائية التي تقلل من خطر الاصابة بالسمنة وامراض القلب والسكري.

اهدرت “أم العباس” الكثير من المال في شراء المعجنات والفطائر التي لا تغادر سفرتها في كل مناسبة تلتقي بها مع صديقاتها وجاراتها إلى ان اكتشفت مؤخراً انها تعاني من داء السكري الذي استضافه جسمها دون علمها إلى أن اصيبت بنوبة سكر تم اسعافها على إثرها للمستشفى لتبدأ رحلة علاجية مع قوانين وانظمة غذائية اهمها عدم شراء الخبز الابيض او الروتي وعدم دخول الدقيق الابيض المنزل والتعامل مع القمح الاسمر الذي بدأت بوصف فوائده .

وقريباً من الحاجة فاطمة التي تعود بذاكرتها الستينية لأيام تعتبرها هي الحياة الطبيعية الصحية والتي كانت تقوم هي ونساء اولادها بطحن القمح البلدي الذي يتم حصاده من المزرعة ومن ثم يعجن بالخميرة البلدي وخبزه على الحطب ويتناول الجميع خبزاً طرياً وصحياً واحياناً كثيرة تقوم خلطه بدقيق الشعير وصنع خبز الشعير وعندما يرغب افراد الاسرة في التغيير فالذمول والقفوع الذي تخلطه فاطمة من جميع انواع الحبوب البلدي والبلسن وتقوم بعجنه لتتنوع الحياة البسيطة بكل ما هو صحي ومفيد ومتوفر من المنزل .

خطط توعية للمستهلك:

عبدالله الضاعني ، مدير عام حماية المستهلك بوزارة الصناعة ، يؤكد ان عملية الاستبدال الجزئي لمادة الدقيق الأبيض تدريجياً من خلال خلطه بالحبوب الأخرى تعتمد على التوعية بشكل اساسي ، بل ان دور الإدارة العامة لحماية المستهلك 80% توعية وهو ما تعمل عليه الادارة بالتعاون مع قطاع التجارة الداخلية بوزارة الصناعة والمؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب ووزارة الزراعة ، بعمل خطة إعلامية وسيتم البدء بتنفيذها بشكل عاجل وتشمل ورش عمل ومواد توعوية واعلامية وفلاشات سيتم بثها عبر مختلف وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وفقا لقانون حماية المستهلك وبالتنسيق مع جمعية حماية المستهلك .

وعززت مديرة ادارة التدريب بالإدارة العامة للإرشاد الزراعي ، ما اشار اليه مديرعام حماية المستهلك  ان للزراعة دور واضح في الترويج للدقيق المركب وتشجيع المجتمع على الاستفادة من انواع الحبوب المنتجة في اليمن فقد قامت الادارة بتنفيذ ورشة عمل لعدد 50 شخصاً من ملاك وعمال المخابز والأفران في القطاعين المدني والعسكري على مستوى امانة العاصمة بهدف التعريف والتوعية بتقنية الدقيق المركب وطريقة تحضيره بالنسب الموصى بها ، كما نوهت الادارة الى اهمية ان يكون للنساء دور في نشر هذه التقنية من خلال انواع الوجبات الغذائية التي تقوم بتحضيرها في المنزل حيث تم انتاج عدد من البرامج التلفزيونية الخاصة بالتصنيع الغذائي .

وتشير مديرة الادارة ناشر ، الى ان وزارة الزراعة قامت بتشجيع عدد من التجار والجمعيات بإنشاء مطاحن للدقيق المركب ومخابز لإنتاج انواع من الخبز والمعجنات المنتجة من هذا الدقيق ، وانه اقتصادياً سيعمل على تخفيض نسبة استيراد القمح الى 30% وتحتاج هذه التقنية الى العمل على رفع وعي المجتمع بشكل اكبر .

وهذا ما يراه كمال ، عامل مخابز السلام ، التي يتوافد اليها الكثير من المواطنين لشراء كافة انواع الرغيف الأسمر والابيض والكدم والروتي والذي لا تتوقف يداه عن الحركة في تفريغ الخبز من الصناديق الخاصة بها ، ان المواطن بحاجة الى توعية مؤثرة عبر اكثر من وسيلة بأهمية ما تقوم به الحكومة ولما له من مصلحة ابتداءً من الحبوب التي يرزعها الفلاح وانتهاءً بالمواطن الذي يستهلكها .

وفي هذا الجانب يؤكد مسؤول التسويق بمؤسسة الحبوب تقي الدين، ان الخطوة بحاجة الى وقت لكي يتقبلها المواطن وكذلك اصحاب المخابز الذين تحفظوا عندما تم طرح الفكرة وكأن هناك فرض عليهم بالشراء مع انها عملية شراء بنفس السعر السابق ، وألمح انه تم البدء بتطبيق الخطة في عددٍ من مديريات امانة العاصمة مثل غرب بني الحارث والصافية وشعوب ومديرية معين وباقي المديريات ستقوم المؤسسة بتغطيتها والعمل فيها خلال الايام المقبلة .

يعمل جميل النقيب مزارعا لعددٍ من المدرجات الزراعية التي يمتلكها في قرية مطلة على جبل عصام مديرية السدة محافظة اب ، ويزرع جميل الذرة والقمح والشعير وتغطي الحبوب الزراعية التي يزرعها كل احتياجات اسرته طوال العام فيما يقوم ببيع عدد منها للكثير ممن يبحثون عن الحبوب البلدي.

ويرى جميل ان ما تقوم به الحكومة من تشجيع للمزارع والسوق المحلية خطوة تدفع بالكثير من المزارعين لزراعة الذرة التي تراجعت زراعتها بشكل ملحوظ في السنوات الاخيرة وتم استبدالها بمحاصيل اخرى .

فاتورة استيراد مرهقة:

وقد ألمحت المجلة الإقتصادية ان قطاع الزراعة يلعب دوراً حيوياً في دعم الأمن الغذائي ومكافحة الفقر في اليمن ، حيث يوفر 25% من الاستهلاك الغذائي ويساهم بحوالي 20% من الناتج المحلي ويشغل 40% من اجمالي قوة العمل وقد شكلت واردات القمح المرتبة الأولى بين اهم ثلاثين سلع مستوردة ، وباتت فاتورة استيراده تؤرق الأقتصاد والعملة الوطنية متجاوزة 700 مليون دولار سنوياً وهذا جعل القوت الضروري للسكان والأمن الغذائي في البلاد عرضة لصدمات سعر الصرف وتقلبات الاسعار الدولية للقمح بمعدل 377% بين يناير 2015م واكتوبر 2018م وواجه المستوردين خلال هذه الحرب العديد من الصعوبات بما فيها ارتفاع  تكلفة التأمين على الشحنات والتأخير في تصاريح الموانئ واجراءات التخليص الجمركي.

ثورة رغيف:

طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر ظل الخبز محور لسلسلة من الصراعات والاضطرابات العنيفة في فرنسا .. وتستمر ثورة الرغيف ومخاوف تأمينه حتى اللحظة ولا قلق في بلد الإيمان والحكمة التي تتميز بأرض زراعية خصبة تحتاج لأيدي عاملة تنهض بالجانب الزراعي والاقتصادي والإنتاج الداخلي وهذه السواعد الزراعية اعتبرها قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي المصلحة الاستراتيجية للشعب اليمني.