عن الرئيس الصماد “طيب الله ثراه”
الصمود || مقالات ||أحمد يحيى الديلمي
ونحن نعيش أجواء الاحتفاء بأسبوع الشهيد وردتني بعض الخواطر عن أعظم الشهداء وأكثرهم صدقاً وإيماناً وموضوعية ، وهو الشهيد الرئيس صالح علي الصماد “طيب الله ثراه” الذي اكتسب قلوب كل اليمنيين وتربع على عرشها في مدة زمنية قصيرة لم تتجاوز السنوات الثلاث ، ربما لم يكن الأمر من قبيل المصادفة أن تكون هي نفس المدة التي قضاها الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي في سدة الحكم ، وهناك نقاط مشتركة بين الاثنين لعل أهمها وأبرزها تتمثل في النزاهة ونظافة اليد والإخلاص في العمل التي بها يتربع الإنسان على عرش القلوب ويفرض نفسه عليها دون أن تدري ، وهذا هو ما حدث بالفعل مع الرئيس الشهيد ، لقد التقيته وهو في سدة الحكم بلا هيلمان ودون حرس ، كان إلى جواره ثلاثة أشخاص فقط وقد جاء لزيارة أحد الأمراض وهو قاض علامة كبير وخرجنا معاً من زيارته ، وفي الطريق أصرَّ على أن نكمل المقيل لديه في المنزل وقال: أرسلوا لي قات من البلاد ، اليوم باتخزن معانا مهذري ، أنا عادة لا أتعاطى القات إلا حينما يأتيني من البلاد ، لم يسبق أن أشتريت من أموال الدولة قات أبداً ، انظروا إلى أي حد بلغ حرص الرجل على المال العام ، وفي الحديدة سمعت الأصوات تتعالى تطالب ببدل سفر ، فاستغرب جداً والتفت إلى المسؤولين المرافقين معه قائلاً: لماذا بدل سفر ألسنا في نطاق اليمن وداخل أراضيه ؟! ألسنا مسؤولين عن كل شبر في هذه الأرض ؟! ما هذا الواحد يأخذ بدل سفر حينما ينتقل من مقر العمل إلى المنزل !! هذا عبث واستهتار بالمال العام ، أعجبني كلامه بينما لم يرتح له الآخرون ، الذين كانوا يعتبرون مثل هذه السفريات مغنماً ، والرجل كان لا يُقصر في نفقات المرافقين وتلبية كل احتياجاتهم ، فقط لم يرتح لمسمى بدل السفر واعتبر هذا الموضوع لا يتم إلا عندما يكون الواحد في سفر إلى خارج الوطن .
هذا نموذج واحد من أشياء كثيرة ترجمها الشهيد في كل أعماله وخطواته ومن خلال نزوله الميداني إلى جبهات الصمود والتحدي ، إذ أمضى عيدين متتابعين ليس مع أولاده ، قال لي: لقد استبقت أنا زيارة الأرحام قبل العيد لكي أستعد لزيارة من هم أولى بالزيارة ، لا لنرفع معنوياتهم كما يعتقد البعض لأنهم بالأمانة هم من يرفعون معنوياتنا ، هم الأكثر قدرة على العطاء والبذل في سبيل الله وكلها أعمال ترفع المعنويات وتجعل الأعناق تشرئب وتطال السماء ، لهذا أكون سعيداً كلما كنت معهم وعشت بينهم في أيام الفرح والبهجة “أيام العيد” ، عند ذلك وضعت مقارنة بسيطة جداً لموقف مشابه، حدث أني رافقت قبل ذلك بسنوات أحد المسؤولين بعد العيد إلى أحد المعسكرات خارج صنعاء ، وخلال الزيارة قام المسؤول بتوجيه من المسؤول الأول في البلاد بتوزيع ظروف متخمة بالمال على كل الجنود والضباط ، طبعاً مع فرق كبير بين ما يُعطى للضابط ويُعطى للجندي ، وكانت المفارقة أننا خرجنا من المعسكر والجميع يلعنون المسؤول بشكل غير لائق ، منهم من بارزه إلى وجهه وهو ملتزم الصمت لم يُحرك ساكناً ، حدث العكس مع الرئيس الشهيد صالح الصماد “رحمه الله” بينما الرجل لم يوزع مالاً وربما لم يكن بحوزته من المال ما يكفيه هو ، لكنه ترك المعسكر والكل يُثني عليه والكل يدعو له بطول البقاء ، مجرد كلمات بسيطة استطاع أن يغزو بها القلوب ويتربع على عرشها ليؤكد أن العملية عملية الحب والكره لا علاقة لها بالمال لأن الإرادات فعلاً عصية على المقايضات والبيع والشراء ، إلا من استمرأ بيع نفسه واستسهل الارتهان بها للشيطان ، لكنها سهلة لكل من خاطبها بود وصدق وموضوعية وإيمان عميق بهذا الإنسان الذي يخاطبه ويعتبره جديراً بالثقة وجديراً بحمل المسؤولية .
أثناء المقيل في ذلك اليوم الذي أعتبره من الأيام السعيدة في حياتي والنادرة كان ثالثنا فقط الأخ محمد عبدالوهاب شرف الدين، أحد مرافقيه الذي نال الشهادة معه ، حدثني ذلك اليوم بمرارة عن الأشياء التي بدأت تترسخ في ذهنه بالذات ما يتعلق بالفساد ، قلت: يا فخامة الرئيس فغضب مني جداً وقال: قل يا صالح لماذا تضع الفرق بيني وبينك؟ ابتسمت وقلت: فعلاً يا أخ صالح الفساد تحول إلى بُعبُع وغول رهيب يُهدد كل شيء القيم والأخلاق والمبادئ ، لماذا؟! لأنه كان يحدث أمام مرأى ومسمع كبار المسؤولين في الدولة بل إن بعضهم كان يحرض عليه ، دعني أروي لك قصة حدثت واستمعت إليها بنفسي، أحد الأشخاص عُيِّن في إحدى الوزارات كوزير وطلب من شخص آخر أكثر منه قرباً من الرئيس أن يطلب له مساعدة كونه بحاجة لإسعاف زوجته إلى الخارج ، وبالفعل حمل ذلك المسؤول الأمنية وإذا بالرئيس يلتفت إليه وهو في حالة غضب “لماذا عينته وزيرا أنا أشتيه يدي لي فلوس هو” ، مش يطلب مني مساعدة ، وبعد أيام فقط استبعده من الوظيفة ، تصور هكذا كانت تسير الأمور وهكذا وجد الفساد البيئة المجتمعية الصالحة لتغوله وأصبح ظاهرة مُحببة لدى البعض ، وبالتالي التركة كبيرة وثقيلة جداً تراكمت وأصبحت عصية لا يمكن مواجهتها بسهولة لأنها وصلت إلى مرحلة الخطر ، وللأسف نحن نعتمد على وصفات المنظمات والبنوك الدولية ، وهي وصفات ملغومة لأن هذه المنظمات نشأت وقامت على الفساد وهي التي زرعته في الكثير من الدول لكي تصل إلى مراميها الحقيرة ، بل ومن خلال الفساد تتمكن الدول الكبرى من إسقاط بعض الدول وإخضاعها لهيمنتها ، كونها تحتاج في كثير من الأوقات إلى شراء الضمائر والمتاجرة بالأخلاق ، وكل هذه الأعمال تحتاج إلى مقايضة بالمال وإن وصلت هذه المقايضة إلى الأعراض والمبادئ والقيم ، تأوه الرجل طويلاً وترقرقت الدموع بعينيه حتى أشفقت عليه فعلاً وعرفت أنني أجلس أمام شخصية استثنائية كل همه الوطن وأبناء الوطن ، يعي معنى تحمل المسؤولية ، وبالفعل تحملها بجدارة حتى اختاره الله إلى جواره ، وهناك أشياء كثيرة يمكن أن نتطرق إليها في تناولة قادمة عن الشخصية النادرة الذي فقدته اليمن كل اليمن الأصدقاء والأعداء ، فسلام عليك يا صالح الصماد حين ولدت ، وسلام عليك حين تحملت المسؤولية ، وسلام عليك حينما ارتقيت شهيداً ، وسلام عليك يوم تبعث إن شاء الله مع الصديقين والأنبياء والشهداء ، وحسن أولئك رفيقا ، والتحية موصولة إلى كل شهيد قدم وضحى من أجل هذا الوطن وقدم أغلى ما يملك فداءً له ، سلام على الجميع ، وإن شاء الله كل هذه التضحيات لن تذهب سدى وسيكون النصر هو الثمن الذي يستحقه هذا الشعب المضحي .. والله من وراء القصد