نص كلمة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي بمناسبة يوم الولاية 1442هـ
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
ونبارك لكل إخوتنا وأخواتنا من المؤمنين والمؤمنات بهذه المناسبة المباركة السعيدة: مناسبة عيد يوم الغدير.
وكالعادة في هذه المناسبة نتحدث عنها، عن الاحتفال بها، عن البلاغ النبوي الذي بلَّغه الرسول “صلى الله عليه وعلى آله وسلم” فيها؛ لأنه مما ينبغي الحديث عنه في هذه المناسبة، ولو في كل عام، أن يتحدث الإنسان عن المناسبة، عن أهميتها، عن قيمتها على المستوى الديني، وعلى مستوى أثرها في واقع الأمة، عن البلاغ النبوي نفسه؛ حتى يُعلَن في كل مرة، وحتى يتجدد سماعه، والتأمل فيه، والاستفادة منه.
شعبنا اليمني هو يحتفل بهذه المناسبة كموروثٍ إيمانيٍ في كل تاريخه عبر الأجيال، فليس احتفاله بهذه المناسبة عادةً جديدةً، أو أمراً طارئاً في واقعه، بل هو موروثٌ- كما قلنا- إيمانيٌ استمر عليه شعبنا جيلاً بعد جيل، من ضمن موروثه الإيماني، الذي ورثه في إيمانه، في هويته الإيمانية، التي أشاد به الرسول “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” عليها، عندما قال: ((الإيمان يمان، والحكمة يمانية)).
وهذه المناسبة هي جديرةٌ بالاحتفال بها؛ لأن الاحتفال بها أيضاً هو تعبيرٌ عن الشكر لله “سبحانه وتعالى”، والإقرار بنعمته العظيمة، التي قال عنها في القرآن الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: من الآية3].
فالاحتفال بمناسبةٍ يعبِّر عن:
الإقرار بتمام النعمة، الإقرار لله “سبحانه وتعالى”؛ لأنه بالفعل أتمَّ نعمته، وأكمل دينه.
وهو أيضاً شكرٌ تعبيرٌ من تعابير الشكر لله “سبحانه وتعالى” على هذه النعمة العظيمة.
كما أنه أيضاً شهادةٌ للنبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” بالبلاغ لأمرٍ كان بالغ الأهمية في تبليغه، إلى درجة أن يقول الله له بعد قوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة: من الآية67]، هذا البلاغ الذي استشهد النبي أمته عندما بلغهم إياه بقوله لثلاث مرات: ((أَلَا هل بلغت؟)) وهم يعترفون له ويقولون: نعم، ونشهد لك أنك بلغت الرسالة، فيقول: ((اللهم فاشهد))، بلاغ في غاية الأهمية.
نحن نشهد للنبي في كل عام، وفي كل مناسبة، وفي كل مقام نتحدث فيه عن هذا النص النبوي، عن هذا البلاغ النبوي، نشهد للرسول “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” بأنه قد بلَّغ، وهذه الشهادة لها أهميتها، ويُبنَى عليها التزامات عملية في واقع الحياة.
ثم هو أيضاً مما يساهم في حفظ هذا البلاغ، في أن يبقى أيضاً في الأجيال متردداً صداه في الأمة جيلاً بعد جيل، في ألَّا يُنسى في إطار محاولات التعتيم من البعض من أبناء الأمة، الذين يستاؤون حتى من الحديث عن هذا البلاغ، بالرغم من إقرارهم به، فمن المساهمة في حفظ نصٍ نبويٍ من أهم ما في السنة النبوية: أن نحتفل بهذه المناسبة، أن نتحدث عن هذا البلاغ، أن نتحدث عن دلالاته، عن أهميته، عما يعنيه هذه، مسألة لها أهمية، وقيمة كبيرة، وفائدة مهمة جداً.
وأيضاً من التعبير عن الإيمان بمحتوى هذا البلاغ، وعن الإقرار بمحتوى هذا البلاغ، وعن التفاعل الإيجابي مع رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” فيما يتعلق بهذا البلاغ، هذا فيما يتعلق بالاحتفال.
أمَّا فيما يتعلق بالمناسبة في أصلها، وهي اجتماع النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” بالمسلمين في الثامن عشر من شهر ذي الحجة، في آخر السنة العاشرة للهجرة النبوية، فهذا أمرٌ متفقٌ عليه بين الأمة، وأمرٌ ثابتٌ، ومتواترٌ، ومقطوعٌ به، لا شك فيه أبداً.
ونأتي إلى الحديث عن أصل هذه المناسبة، وعن موضوعها المهم جداً، الذي هو أيضاً ليس موضوعاً وقتياً، يعني: لم تكن المسألة اجتماع لموضوع يختص بتلك الظروف، بذلك الوقت، بتلك المرحلة، ثم لا علاقة له بالأمة في امتداد مستقبلها جيلاً بعد جيل، حتى- مثلاً- يقول البعض: [خلاص، ذلك اجتماع حصل، كان له موضوع يتعلق به، انتهى الموضوع، ما الفائدة في أن نتحدث عن هذا الموضوع سنوياً، أن نحتفل به، أن نعقد اجتماعات كبيرة، وتجمعات ضخمة للحديث عن هذا الموضوع الذي قد مضى وانتهى]، ليست المسألة كذلك، هذه مسألة لم تكن وقتيةً حصريةً على مرحلةٍ معينةٍ وزمنٍ معين، الموضوع موضوعٌ يتعلق بالأمة، لمستقبلها على امتداد مستقبلها إلى قيام الساعة، وهذا ما سيتضح أكثر في سياق الحديث- إن شاء الله- عن هذا البلاغ، وعن الآيات القرآنية المباركة، والنصوص النبوية الأخرى ذات العلاقة.
النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” في السنة العاشرة من الهجرة، وما قبل وفاته بأقل من ثلاثة أشهر- يعني: في مرحلة حسَّاسة وخطيرة جداً، وذات أهمية كبيرة، وحساسية كبيرة، ومرحلة لها علاقة بمستقبل الأمة- حجَّ حجة الوداع، وعرفت بحجة الوداع، لماذا؟ لأن النبي صلى الله وسلم عليه وعلى آله أشعر أمته، وبيَّن لأمته أن وفاته قد قربت، وأنَّ رحيله من هذه الحياة الدنيا قد أزف، وأنه على مقربةٍ من اكتمال مهمته الرسالية في ظل حياته، وهو يعيش في أوساط البشر، وفي أوساط الأمة؛ ولذلك سميت بحجة الوداع.
والنبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” عندما استعد للحج، سبق ذلك: بلاغات ورسائل إلى بقية أبناء الأمة، إلى بقية المسلمين في مختلف المناطق التي قد دخلت في الإسلام، يحثهم على أن يحضروا في ذلك الحج، في ذلك العام، حضوراً استثنائياً، بحيث يشمل هذا الحضور مجاميع كبيرة جداً، ويكون حضوراً حافلاً جداً من أبناء الأمة، على نحوٍ غير مسبوق؛ لأن ذلك الحج في ذلك العام سيرتبط به مواضيع في غاية الأهمية للأمة، في مستقبل الأمة، وهو مناسبة استثنائية، وأيضاً ستشهد فيه الأمة هذا الوداع من النبي لها، الذي سيتضمن تعليمات مهمة جداً تتعلق- كما قلنا- بمستقبل الأمة.
وفعلاً كان الحضور كبيراً، توافد المسلمون للحج من مختلف المناطق التي قد دخلت في الإسلام، على نحوٍ غير مسبوق، وبلغ عدد الحجيج- حسب التقريب في بعض الروايات- بما يقارب المائة وعشرين ألفاً من الحجاج، وهذا كان عدداً كبيراً مقارنةً بأعداد السكان آنذاك في إطار المناطق التي قد دخلت في الإسلام، حتى أنه قد يصل إلى نسبة مئوية ضخمة، نسبة كبيرة من المسلمين من الذين استطاعوا أن يحجوا وحجوا، وحضروا في ذلك العام.
والرسول “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” حضر الحج، وأقام شعائر الحج بالمسلمين، ثم قدَّم لهم كثيراً من التعليمات، وأشرف على عملية الحج، وإقامة الحج في ذلك العام وفق الطريقة الإسلامية المتكاملة، بحيث يكون لهذه الفريضة أثرها ودورها المهم على كل المستويات: التربوية، والثقافية، والفكرية، ولتعزيز الروابط بين أبناء الأمة، وحسب أهداف ومقاصد الحج، التي كان الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” يؤديها بالوفاء والتمام والكمال.
ولكن يتضح ويتجلى أنَّ المسألة لم تنته عند ذلك المستوى، لم تنته باكتمال أداء فريضة الحج، فالرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” بعد اكتمال الحج، تحرَّك ومعه بقية الحجيج إلى أن وصل إلى منطقة قريبة من مكة، لا تزال أقرب إلى مكة منها إلى المدينة، وهي قبل أن يتفرَّق الحجيج إلى مختلف بلدانهم، هذه المنطقة هي عبارة عن وادٍ يسمى خماً، ويدعى بخم، هذا الوادي لا يزال أقرب إلى مكة منه إلى المدينة، وفي هذا الوادي لا يزال كل الحجاج الذين حجوا في تلك السنة، لا يزال كلهم أو أكثرهم موجودين مع الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” وسلم.
عندما وصل النبي إلى هذا الموضع، نزل عليه قول الله “سبحانه وتعالى”: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة: الآية67]، هذه الآية المباركة تتميز بأنها بهذه اللهجة، بهذا المضمون الساخن القوي، الذي يعبِّر عن موضوع في غاية الأهمية، وفي غاية الحساسية، له هاتين الميزتين:
أنه في غاية الأهمية
وفي غاية الحساسية.
قوله “سبحانه وتعالى”: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، يعبِّر عن الأهمية القصوى لهذا الموضوع، وقوله جلَّ شأنه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، يعبِّر عن الحساسية البالغة لهذا الموضوع، وهذه مسألة واضحة بأدنى تأمل، بأدنى تأمل واضحة وجلية.
وهذا الموضوع له علاقة بحيوية واستمرارية وفاعلية الرسالة الإلهية في كل مضامينها، في كل مواضيعها، في كل مبادئها، في كل قيمها، في كل أخلاقها، أن تبقى مستمرةً بفاعليتها وأثرها في الحياة، أن تبقى مستمرةً بكمالها، ونقائها، وصفائها، دون أن تتلوث بالتزييف والتحريف، ولتكتمل في أثرها في واقع الحياة، وفي الناس أنفسهم، إذاً هو موضوع في غاية الأهمية.
عندما نزلت هذه الآية المباركة، من المعروف للجميع أنَّ النبي “صلى الله وسلم عليه وعلى آله” كان قد بلَّغ في رسالة الله العقائد، بدءاً من عقيدة التوحيد، ونسف الشرك بكل أشكاله، العقائد بشكلٍ عام وتفصيلي، وبلَّغ الشرائع، وبلَّغ المواقف، وتحرَّك فيها عملياً، جسَّدها في أرض الواقع، انطلق على أساسها في مسيرته العملية، وبشكلٍ يكاد أن يكون مكتملاً، يعني: على المستوى العقائدي: اكتملت العقائد، على المستوى التشريعي: اكتملت الشرائع، على مستوى المواقف: كان قد أتمها، بما في ذلك الموقف من أهل الكتاب، الموقف من اليهود، الموقف من النصارى آنذاك، في مؤامراتهم على النبي والرسالة الإلهية والإسلام والمسلمين، قد بُلِّغت المواقف، واتخذت المواقف، إلى درجة أنَّ المعركة آنذاك قد حسمت مع اليهود، واليهود البعض منهم قد قتلوا، البعض منهم قد طردوا من الجزيرة العربية، البعض منهم قد خضوا لحكم الإسلام، ودولة الإسلام، وأصبحوا يدفعون الجزية، وخنعوا، وكذلك الموقف من النصارى، الموقف من المشركين… الموقف من كل فئات الضلال أعلن واتخذ، حصلت مواقف عملية في أرض الواقع؛ ولذلك ما من جديدٍ يتعلق بهذه المسائل، ما من جديد في إطار مناسبة نزول هذه الآية المباركة يتعلق بهذه الأمور: لا على المستوى العقائدي فيما يتعلق بمعرفة الله “سبحانه وتعالى” وجوانب معينة، وبدءاً بموضوع التوحيد، ولا في مستوى الشريعة: الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، الجوانب العبادية، جوانب المعاملات… إلى غير ذلك، على مستوى المواقف.
ثم إنَّ الموضوع هذا الذي تتحدث عنه الآية، هو موضوع له صلة بفاعلية- كما قلنا- واستمرارية مضمون ومحتوى الرسالة الإلهية، في أن تكون هذه الرسالة قائمة في واقع الحياة، مستمرة في واقع الحياة بكل نقائها، حاضرةً بكل آثارها، وثمراتها، ونتائجها في واقع الأمة، وفي أنفس الناس.
فإذا جئنا لنتأمل هذه النقطة، ثم نتأمل الجانب الآخر، وهو قوله “سبحانه وتعالى”: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فيما يُعبِّر عنه هذا النص القرآني المبارك من حساسية كبيرة تجاه هذا الموضوع، بالرغم من هذه الأهمية له، حساسية واسعة، حساسية واسعة، حساسية موجودة وحاضرة حتى في الساحة الإسلامية، نطاق هذه الحساسية في هذا التعبير القرآني هو الناس، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، يشمل ذلك حتى الكثير من المسلمين، حتى البعض في داخل الساحة الإسلامية، البعض الذين قد تصل بهم حساسيتهم تجاه هذا الموضوع بالذات، إلى درجة ألَّا يقبلوا به، ألَّا ينسجموا مع محتوى ذلك البلاغ، ألَّا يتفاعلوا معه، أن يرفضوه، أن يرفضوه، أن يكفروا به كفر الرفض له، عدم القبول به نهائياً، عدم الاستساغة له أصلاً، عدم التقبل له على الإطلاق، فلذلك ختمت بعد قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، ختمت الآية المباركة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
ويأتي الحديث عن الكفر أحياناً في مقامات عملية مهمة، كما ورد في قصة الحج، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: من الآية97]، فيأتي الحديث في مقامات عملية كثيرة؛ لأنه يَعبَّر أحياناً عن الرفض للموضوع أصلاً، وعدم التقبل له، وهو هكذا في هذا السياق، بعد أن يتحدث عن نطاق الحساسية في قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، يتحدث عن أسوأ ما يمكن أن ينتج عن هذه الحساسية لدى البعض، الذين قد تصل بهم إلى مستوى أن يكفروا بهذا البلاغ، ألَّا يتقبلوه نهائياً، يعني: أنها حساسية شديدة، تصل بالبعض إلى هذه الدرجة، هذا أقصى مستوى للحساسية تجاه هذا الموضوع: أن يكفروا به، والبعض قد يستسيغه مع امتعاض؛ نتيجةً للجهل بقيمة ومحتوى هذا البلاغ، وإيجابياته، وأنه ليس هناك أصلاً ما يبرر الحساسية تجاهه.
الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” بعد نزول هذه الآية المباركة في ترتيباته العملية، وفي بلاغه، يعرِّفنا أولاً بمحتوى هذا البلاغ، وبمستوى أهمية هذا البلاغ، فنجد أهميته داخل الآية، ونجد ما يعبِّر عن هذه الأهمية، وما ينسجم مع هذه الأهمية، من خلال الترتيبات والبلاغ النبوي للنبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” وعلى الفور نادى لاجتماعٍ عامٍ، وشاملٍ، وطارئٍ، واستثنائي، في وقتٍ حساس، في وقت الظهيرة، والشمس على أشدها، حرارة الشمس على أشدها، في مكان عند ذلك الوادي، عند غديرٍ منه، غدير مياه بالقرب منه، في ساحة واضحة ومكشوفة، عندها ثلاث شجرات، وعلى الفور أتى النداء ليبلِّغ كل المسلمين الذين قد تقدَّموا أن يعودوا، والمتأخرين أن يلحقوا، وحتى تم الاجتماع للكل، عندما اجتمع الكل في تلك الساحة، وهم جموعٌ غفيرةٌ جداً، ورصَّت أقتاب الإبل للنبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”؛ حتى تكون منصةً ظاهرةً بارزة يصعد عليها، ليبلغ هذا البلاغ الذي تحدثت عنه الآية المباركة.
وبعد اكتمال الجمع، وحضور الجميع، واصغائهم، في وقت حرارة شديدة جداً، لكن حتى تلك الترتيبات والإجراءات، وأشبه ما تكون بنفير، وأكثر ما تكون أيضاً بإشعار بأن هذا اجتماع في غاية الأهمية، لموضوعٍ مهمٍ جداً، لا يحتمل حتى التأجيل إلى أن تزول حرارة الشمس، وفي وقتٍ كان الجو فيه صافياً، ليس هناك أي عوائق عن الرؤية: لا ضباب، ولا أي حواجب، أي سواتر… أي أشياء تعزل البعض حتى لا يشاهدون رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، لا، الرؤية متاحة، كل الأجواء تساعد على إيصال هذا البلاغ بشكلٍ تام.
صعد النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” فوق أقتاب الإبل، ومعه عليٌّ “عليه السلام”، أخذ معه علياً إلى فوق أقتاب الإبل، وبدأ خطاباً موجَّهاً إلى الأمة، خطاباً مهماً وعظيماً، حمد الله فيه، وأثنى فيه على الله “سبحانه وتعالى”، وتحدث- بما أشار إليه أيضاً أثناء حجة الوداع، وفي عدة مقامات ومناسبات في تلك الآونة الأخيرة- تحدَّث عن قرب رحيله من هذه الحياة، وقال كلمته المشهورة: ((إني أوشك أن أدعى فأجيب))، يعني: أنا على وشك الرحيل من هذه الحياة الفانية، أن أجيب وألبي نداء الله “سبحانه وتعالى”، وألتحق بالرفيق الأعلى، وبكل ما لهذا الموضوع من أهمية كبيرة فيما يتعلق بالأمة، بالنظر إلى حجم ومستوى الفراغ الكبير والخطير، الذي يمكن أن يكون نتيجةً لرحيل النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، هذه النقطة الحسَّاسة، هذه هي النقطة التي تمثل إشكالية كبيرة في واقع الأمة: أنَّ رحيل النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”- بالنظر إلى دوره في هداية الأمة، وقيادة الأمة- سيترك فراغاً كبيراً، وخطيراً في نفس الوقت على هذه الأمة، وعلى مستقبل هذه الأمة.
فكان حديث النبي يتجه لمعالجة هذه المسألة، للحديث عن هذه النقطة بالذات؛ ولذلك كان من ضمن ما تحدث عنه في خطابه في الغدير- كما هو معروف في مصادر الأمة المعتبرة لدى مذاهبها- كان من ضمن حديثه أنه قال: ((وإني تاركٌ فيكم الثقلين))، لاحظوا عبارة: ((تاركٌ فيكم))، يعني: ما بعد رحيل هذا الفراغ الذي سيتركه رحيلي، أنا سأترك لكم لما يسد هذا الفراغ بكل ما يمثله من خطورة، ((وإني تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله))، وسمَّاه بالثقل الأكبر، وتحدث عن عظمته وشأنه الكبير والمهم، ثم قال: ((وعترتي أهل بيتي، إنَّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
وهكذا تحدث النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، إلى أن وصل إلى الموضوع الرئيسي للبلاغ النبوي، والكل قد أصبحوا في تمام الإصغاء والاستماع، بعد المقدمة التي تحدث عنها، الكل جاهز لأن يسمع المحتوى الرئيسي للبلاغ النبوي الذي تحدثت عنه الآية المباركة، وقصدته الآية المباركة: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}.
ثم قال: ((يا أيُّها الناس: إنَّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه، فهذا- وأخذ بيد عليٍّ “عليه السلام” وهو معه، وعليٌّ “عليه السلام” معروف لدى الأمة الإسلامية، لدى المجتمع الإسلامي آنذاك- فهذا عليٌّ- وأخذ بيده ورفع بيده ويد عليٍّ- فهذا عليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله))، فكان هذا هو المحتوى للبلاغ النبوي الذي قصدته الآية المباركة، واستشهد النبي أمته على أنه أقام هذا البلاغ، وشهدوا له بذلك، ((أَلَا هل بلغت؟))، شهدوا وأقروا، ((اللهم فاشهد))، كررها لثلاث مرات.
النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” بترتيباته تلك، بلَّغ بما ينسجم مع الأهمية التي أشارت إليها الآية المباركة، وببلاغٍ مبين؛ لأنه دائماً يؤدِّي وظيفته كرسولٍ لله في البلاغ المبين على أكمل وجه، وأتم وجه، لم يبق أي التباس، أو أي غموض يعود- سواءً- إلى طريقته في تقديم الموضوع، أو في تعبيره عن الموضوع، هو يبلِّغ البلاغ المبين؛ لأن هذا من صميم مسؤوليته “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
عندما نتحدث عن هذا البلاغ الذي أتى على إِثْره مباشرةً النص القرآني المبارك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، نجد أنَّ هناك انسجام تام ما بين محتوى النص المبارك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، وما بين قوله “سبحانه وتعالى وجلَّ شأنه”: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، هناك انسجامٌ تام، وهناك تكامل ما بين النصين المباركين؛ لأنه لا شك أنَّ الموضوع الذي به كمال الدين، به تمام النعمة، هو الموضوع الذي به يُحفظ الدين الإلهي، تحفظ المسيرة الإيمانية للأمة، تستمر الرسالة الإلهية بأثرها، بكامليتها، بنقائها، فهناك انسجام واضح جداً ما بين الأمرين: ما بين أن يكون الموضوع الذي لو لم يبلَّغ؛ لكان ذلك يشكِّل إشكالية كبيرة على مستقبل الرسالة الإلهية، وما بين الموضوع الذي إن بُلِّغ؛ يُحفَظ به الدين، يستمر به الدين الإلهي بكماله، ونقائه، وفاعليته، وأثره.
ثم نأتي إلى موضوع الولاية، باعتبار أنَّ هناك أيضاً في القرآن الكريم الآية القرآنية المباركة التي أتت أيضاً في سورة المائدة، وسورة المائدة هي من آخر سور القرآن نزولاً، والبعض من آياتها أيضاً من آخر الآيات نزولاً على مستوى الآيات، هي على مستوى السور، ثم هناك فيها ما هو على مستوى الآيات القرآنية.
أتى في الآيات القرآنية قول الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة: 55-56]، الآية المباركة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، وما بعدها آية: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، لها صلة وعلاقة تامة أيضاً مع موضوع البلاغ النبوي في يوم الغدير، فالموضوع هو نفس الموضوع، والتسلسل هو نفس التسلسل.
الآية المباركة أتت أيضاً في سياق مهم، وسنأتي للربط ما بين موضوع السياق، الذي هو يحذِّر من الولاء لليهود والنصارى، واتخاذهم أولياء، وتحدث عن المنافقين، وما يتعلق بذلك، ثم أيضاً ما يتعلق بموضوع الولاية، ومبدأ الولاية، نتحدث عن هذا في سياق الحديث إن شاء الله.
الآية المباركة تتحدث عن ولاية الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ}، وهذا العنوان مهمٌ جداً؛ لأنه يتصل بعلاقتنا بالله “سبحانه وتعالى”، وهذا موضوع يجب أن يكون محط اهتمام لدى كل مسلم، لدى كل مسلم، و كل مسلمة، مسألة في غاية الأهمية، {وَلِيُّكُمُ اللَّهُ}، هذا العنوان المهم جداً، سنسلط الضوء على ما ورد في الآيات القرآنية، على ضوء ما في القرآن الكريم، على بعضٍ مما ورد عنه في القرآن الكريم؛ ليتبين لنا أهمية هذا المسألة جداً.
ولاية الله “سبحانه وتعالى” هي تشمل مجالات حياتنا كافة، كل البشر في واقع الحياة يقرُّون بالله “سبحانه وتعالى”، وبأنه الرب والخالق، والملك، والمالك، والرازق، هذه مسألة يتفق عليها البشر، والحالات النادرة في الإلحاد والجحود، هي حالات مكابرة، مكابرة للفطرة، وحالات سقيمة، لا تستند إلى أي مستند، هي حالات سخيفة، حالات مكابرة، كما لو أتى أحداً من البشر ليقول: لا يوجد ليل، ولا نهار، ولا بشر، ولا شيء من الأشياء التي نعلم بالضرورة وجودها؛ لذلك فالمسألة معروفة في الفطرة البشرية لدى كل فئات البشر: اليهود، والنصارى، والمسلمين، والمشركين… ومختلف الفئات على هذه الأرض.
المشركين بشكل عام يقرُّون بالله، يقرُّون بوجوده، يقرُّون بأنه الخالق، أنه الرب، أنه الإله، هذه مسألة يعترفون بها، وإن كانت مشكلة المشركين في أنهم أضافوا إلى الألوهية آلهةً أخرى، في مستويات ومراتب وفق خرافاتهم وكفرهم، ولكنهم من حيث المبدأ يقرُّون بالله “سبحانه وتعالى”، ومعهم في ذلك حتى إبليس، إبليس (الشيطان الرجيم) يقرُّ بالله، وبأنه الرب، والإله، والملك، والمالك، والرازق، والخالق، هذه المسألة محل إقرار من الجميع، عقدة إبليس: هي تتعلق بولاية الله “سبحانه وتعالى”، وفي استخلافه آدم خليفةً له في الأرض، هذه مثَّلت عقدة لدى إبليس؛ بسبب ما يعيشه من حالة الكبر، فلم يقبل بذلك، فعقدته في امتداد ولاية الله “سبحانه وتعالى”.
أيضاً ولاية الله في إطار معين، فيما يتعلق بالربوبية، والخلق، والرزق، والملك، وتدبير شؤون السماوات والأرض على المستوى التكويني، هذا أيضاً محل إقرار لدى البشر، وحتى لدى إبليس كما قلنا، وهذه مسألة واضحة في القرآن الكريم.
مثلاً فيما يتعلق بإبليس، الله يحكي لنا قصته في القرآن الكريم في سورة البقرة، في سورة الأعراف، في سورة الحجر… في سور متعددة، في سورة ص… في سور متعددة من القرآن الكريم، كيف كان يعترف بالله، هو أصلاً كان يعبد الله، وكان قد وصل إلى مستوى أن يبقى في إطار الملائكة، وهو يعبد الله “سبحانه وتعالى” بينهم، عندما قال الله “سبحانه وتعالى”: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: من الآية30]، ثم خلق آدم، واستخلفه في الأرض، وأمر بالسجود له، استكبر إبليس، ولم يرض بذلك، لم يقبل بذلك، لم يقبل بالسجود لآدم، وكان له موقف مستاء جداً من استخلاف آدم، واستخلاف البشرية على الأرض؛ ولذلك قال كلمته بعد ذلك، بعد أن لُعِن، بعد أن أمر الله بطرده، فماذا قال آنذاك؟ نجد أنَّ إبليس طلب من الله “سبحانه وتعالى” أن يُنْظِره، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الحجر: الآية36]، يعترف بالله، وبأنه الرب، ويقرُّ بيوم القيامة، يوم البعث، هو لا ينكر ذلك، يقرُّ بالله، وباليوم الآخر، وبالبعث، وبالجنة، وبالنار، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[الحجر: 36-40]، إبليس هو يقرُّ أصلاً بأكثر مما يقرُّ به بعض المشركين، وبعض الكافرين، وبعض البشر، هو يقرُّ أيضاً بأنَّ الرسالة الإلهية، وأنَّ الدين الإلهي هو الحق، ويقرُّ بأنَّ ما يعمله هو من جانبه هي عملية إغواء، عملية باطل، يقرُّ أنه على باطل، ويقرُّ بأنَّ دين الله هو الحق، وأنَّ منهج الله هو الحق، وأنَّ رسالة الله هي الحق، ويقرُّ على نفسه بأنه في باطل، وأنَّ كل ما يسعى له هو الإغواء للبشر في عملية الانتقام منهم.
بل هو أيضاً يؤمن بالله “سبحانه وتعالى” أنه عزيز، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ}[ص: 82-83]، يستثني دائماً عباد الله المخلصين، فهو يقسم بعزة الله، يؤمن بأن الله ويقرُّ بأن الله عزيز بكل ما يعنيه هذا الاسم العظيم من أسماء الله الحسنى.
الله يخبرنا أيضاً عن الكافرين والمشركين: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[الزخرف: من الآية87]، يقرُّون بالله بأنه الخالق، أكثر من ذلك: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[يونس: من الآية31]، مسألة الرزق في إطار التدبير الإلهي، في شؤون الخلق، {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}[يونس: من الآية31]، لاحظوا على مستوى التدبير التكويني، وأوسع من ذلك في قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}[يونس: من الآية31]، هم يقرُّون بذلك، {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}[يونس: من الآية31].
فالبشر بشكلٍ عام يقرُّون بالله “سبحانه وتعالى”، يقرُّون بجوانب من ولاية الله “سبحانه وتعالى” في إطار التدبير التكويني، في إطار مجالات من شؤون الحياة: في الرزق، في الحياة، في الموت… في جوانب كثيرة، ولكن مشكلة الكثير من البشر: هي في امتداد ولاية الله “سبحانه وتعالى” إلى بقية شؤون هذه الحياة، إلى الجانب التوجيهي في هذه الحياة، إلى مسيرة الحياة في مختلف شؤونها ومجالاتها فيما يتعلق بدور الإنسان العملي، في مسؤولياته، فيما يتعلق بمسيرة حياته وشؤونه العملية والحياتية، هنا يأتي الموقف من بعضهم، فهم بدلاً من أن يؤمنوا بامتداد ولاية الله “سبحانه وتعالى”، لتشمل هذه الجوانب، هم يرتبطون بولايةٍ أخرى، يعبِّر عنها القرآن الكريم بولاية الطاغوت، {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}، هم ينفصلون عن مصادر الوصل بولاية الله “سبحانه وتعالى”، فيما يتعلق بالجانب التوجيهي والإرشادي والعملي المتصل بشؤون الحياة، ومجالات الحياة المتعلقة بأعمال الإنسان، وأنشطته، واهتماماته، وحركته في هذه الحياة، هنا تكمن المشكلة، هنا تكمن العقدة.
وإذاً نأتي إلى المقارنة بين ما يعبِّر عنه القرآن الكريم بولاية الله في امتدادها في هذا الجانب، واتصالها به، وفي ولاية الطاغوت، وارتباط الفئات الأخرى من المشركين والكافرين والمنافقين بها.
الله “سبحانه وتعالى” في هذا التصنيف، فيما يتعلق بالجانب التوجيهي، وفيما يتعلق بامتداد الولاية في مسيرة الحياة، يقول في القرآن الكريم: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: الآية257]، فنجد هذا الفرز، وهذا التقسيم بين الولايتين.
ولاية الله “سبحانه وتعالى” في امتدادها المتعلق بمصادرها وقنواتها، والمتعلق أيضاً بمنهجها ومشروعها، والمتعلق أيضاً بميدانها ومجالها، يؤكِّد لنا في الآيات المباركة أنها تشمل كل هذه الجوانب، يعني: ولاية الله “سبحانه وتعالى” في امتدادها، هناك من يعبِّر عن هذه الولاية، من هو امتداد في حركته بهذه الولاية، هم رسل الله، ابتداءً هم رسل الله وأنبياؤه، هم المصادر، هم قنوات الوصل بهذه الولاية التوجيهية الإرشادية، التي يلحق بها أيضاً جوانب أخرى من تدبير الله “سبحانه وتعالى” ذات صلة بها، ذات علاقة بها، وأيضاً فيما يتعلق بمنهجها: كتب الله “سبحانه وتعالى”، وما هو امتداد لكتب الله “سبحانه وتعالى”، ثم أيضاً في مجالها: أنها تشمل مجالات الحياة، شؤون الحياة المختلفة للإنسان.
الله “سبحانه وتعالى” يؤكِّد هذه الولاية، ولهذا عندما يأتي بهذا التعبير في قوله جلَّ شأنه: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، فالإخراج للذين آمنوا، الذين لهم هذه الصلة بولاية الله “سبحانه وتعالى”، هذا الإيمان بولاية الله “سبحانه وتعالى”، فهم وفق هذا الإيمان، وفق هذه الصلة، يتلقون من الله “سبحانه وتعالى” التوجيهات، التعليمات، الهداية، التزكية لأنفسهم، وهم من خلال هذا الوصل في هذه الولاية الإلهية، يحظون من الله “سبحانه وتعالى” بالرعاية، يحظون منه بالهداية، يحظون منه بالنصر، بالتأييد… بأشكال واسعة من رعايته الواسعة.
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ}، تصل إليهم منه عبر تلك المصادر والقنوات التي هي صلة، امتداد لهذه الولاية، تحمل وتجسِّد هذه الولاية في الواقع البشري، تصل التوجيهات الهادية لهم، وباستجابتهم لتلك التوجيهات، لتلك التعليمات، بتلقيهم لتلك الهداية؛ يتم إخراجهم من الظلمات، الظلمات التي هي عبارة عن مفاهيم خاطئة، عقائد باطلة، ثقافات ضالة، إذا أخذ بها الإنسان؛ تحجبه عن الحقيقة، تعميه عن الحق والحقيقة، تغطي ما بينه وبين الحق والحقيقة، فيأخذ تصورات أخرى، وأفكاراً أخرى؛ وبالتالي يبني عليها توجهات تنحرف به عن صراط الله المستقيم، تنحرف به عن السبيل الذي يصله بالله “سبحانه وتعالى”، يصله بالغايات العظيمة التي وعد الله بها في الدنيا والآخرة، تتيه به تلك المفاهيم وتضيعه، فهي ضلال؛ لأنها ضياع، لأنها حجبٌ عن الحقيقة، لأنها تعمي عن إبصار الحق، وإبصار الحقيقة.
فالله “سبحانه وتعالى” في ولايته للذين آمنوا، يؤكِّد هذه الولاية في مثل هذه الآية المباركة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ}، يؤكِّدها في قوله “سبحانه وتعالى”: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، يؤكِّدها في قوله “سبحانه وتعالى”: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: من الآية68]، يؤكِّدها في قوله “سبحانه وتعالى”: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}[الجاثية: من الآية19].
في هذا التعبير: {وَلِيُّ}، {وَلِيُّكُمُ اللَّهُ}، فيه أيضاً ما يفيد طبيعة هذه العلاقة العظيمة الراقية، والتي أساسها التكريم، التكريم من الله لعباده الذين آمنوا؛ لأن عبارة: (ولي)، لها أيضاً فيما تعبِّر عنه من رعاية، من هداية، من رحمة، من تكريم، لها- ربما- دلالة أكثر وأوسع، حتى أوسع في هذه الخصوصية بالذات من عبارة: (رب)، من عبارة: (إله)، من عبارة: (ملك)، لها أيضاً فيما يتعلق بهذه الصلة: صلة رحمة، رعاية، صلة رأفة من الله “سبحانه وتعالى”.
(وليكم): يرعاكم، يرحمكم، هو “سبحانه وتعالى” يقدِّم لكم الهداية التي تحميكم من أن تظلموا، من أن تذلوا، من أن تقهروا، من أن تهانوا، هو يريد لكم أن تكونوا أعزاء، أن تكونوا كرماء، هو يقدِّم لكم ما يبنيكم لتكونوا أمةً قويةً وعزيزة، هو يصلكم بهذه الصلة من تعليماته وتوجيهاته، التي أيضاً يرفقها بمعونته، وبمعيته، وبنصره، وبتأييده، وبرعايته الواسعة.
ولهذا حتى في التعبير، حتى في كيفية التوجيه من الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم، نجد أنَّ القرآن في توجيهاته التي تتجه إلى الذين آمنوا، الذين لهم هذه الصلة بولاية الله “سبحانه وتعالى”، يأتي بطريقة عجيبة، فيها تكريم، فيها رحمة، لا يأتي- مثلاً- عبارة عن مراسيم ملكية، وأوامر جافة، قرار ملكي، أو مرسوم ملكي: [افعلوا كذا وكذا]، ثم ينتهي الموضوع، قرار وأمر صارم ملكي: [افعلوا كذا وكذا]، وانتهى الموضوع.
تأتي معظم التوجيهات إلى الذين آمنوا في القرآن الكريم، معظم التعليمات تأتي في القرآن الكريم بخطاب فيه تكريم، حتى أنَّ القرآن بكله خطاب فيه تكريم، فيه تعبير عن رحمة الله “سبحانه وتعالى”، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[فصلت: الآية2]، تأتي العبارات التي فيها الترغيب، فيها الوعد بالخير الكبير من الله “سبحانه وتعالى”، فيها التعبير عن رحمته “سبحانه وتعالى”، فيها الثناء، فيها الإشادة، فيها التكريم بمن يتقبلون تلك التوجيهات، وفي نفسها توجيهات كريمة، توجيهات عظيمة، توجيهات حكيمة، تسمو بالإنسان، عندما ينفِّذها، عندما يلتزم بها، هداية عظيمة يسمو بها الإنسان، يكرم بها الإنسان، يعلو شأنه، وهكذا نجد أنَّ هذه العلاقة في معنى الولاية التي تفيد أنَّ الله وليكم “سبحانه وتعالى”، بكل ما يعبِّر عنه ذلك من رعايته، من رحمته، من هدايته، هو عنوانٌ جذَّاب، وعنوانٌ عظيم.
بينما إذا جئنا إلى ولاية الطاغوت، فحتى مسمى ولاية، هو باعتبار أنَّ الذين يتولون الطاغوت، يجعلون منه ولي أمرهم، يرتبطون به لتلقي التوجيهات والتعليمات، يتصلون به في كل شؤون حياتهم، يعتمدون عليه في أمور حياتهم، ومواقفهم، وولاءاتهم، بهذا الاعتبار سميت ولاية.
أمَّا من حيث المعاني الأخرى: في الرحمة، والرفق، والرأفة، والتكريم، فهي مجردةٌ من هذا المضمون، لا صلة لها بذلك، ولاية الطاغوت كما عبر عنها في القرآن الكريم في قوله جلَّ شأنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، الطاغوت هو مصدرٌ للضلال، مصدرٌ ظلاميٌّ، يضل من يرتبط به، يظلم من يرتبط به، يضيع من يرتبط به، ينحرف به عن السبيل الأقوم، عن السبيل الأكرم، عن الطريق الصحيح، عن الصراط المستقيم، يتيه به؛ فيضيعه في هذه الحياة، يضيع جهده في هذه الحياة، وفي نهاية المطاف يصل به إلى نار جهنم، {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
الإتِّباع للطاغوت، والارتباط به، هو على هذا النحو، على هذه الشاكلة: ضلال، ضياع، انحراف على المستوى الثقافي، على المستوى الفكري، على المستوى العملي والسلوكي، على مستوى جهد الإنسان الذي يبذله في هذه الحياة، وجهته في هذه الحياة، كل ذلك في نهاية المطاف يتيه به، يحمِّله الأوزار والذنوب، يشقيه في الدنيا بأنواع متنوعة من الشقاء، ويصل به إلى نار جهنم في الحياة الآخرة والعياذ بالله.
الولاية للطاغوت، الطاغوت: هو كل الجهات أو المناهج التي تفصلك عن امتداد الولاية الإلهية، في منهجها الحق، في قنواتها ومصادرها الحق، في مجالها في هذه الحياة.
المرتبطون بولاية الطاغوت هم أصناف، في مستوى هذه الولاية؛ لأن البعض- مثلاً- حدود الولاية الإلهية عندهم في الإطار التكويني: أنَّ الله هو الخالق، هو الرازق… وما إلى ذلك، وفي حدود معينة من مستوى التدبير الحياتي، كما قلنا: في مسألة الرزق مثلاً، ولكن عندهم في معتقدهم، في ثقافتهم، التي هي أيضاً منشؤها الطاغوت، الذي مصدره الشيطان، وصلته بالشيطان في نهاية المطاف، أنَّ الله لا ولاية له عليهم، ولا امتداد لولايته عليهم في شؤون حياتهم، في مجالات حياتهم المختلفة، في نظم شؤون حياتهم المختلفة، يعتبرون هذا شيئاً لا تمتد إليه ولاية الله، فهم يتصرَّفون في هذه الحياة في أعمالهم، في مواقفهم، في تصرفاتهم، في ولاءاتهم، في عداواتهم، في مسيرة حياتهم، وفق اعتبارات أخرى، وفق أهواء أخرى، وفق أمور أخرى، توجيهات أخرى، تعليمات أخرى، لا صلة لها بالله “سبحانه وتعالى”، هذه فئة، فئة لم تقبل بالمنهج الإلهي في مسيرة الحياة.
وفئة أخرى أكثر منها في ذلك، يعني: إلى درجة أنها لم تقبل حتى بمصادر الهداية، وقنوات الهداية، يعني: الفئة هذه من الذين ينضوون في إطار ولاية الطاغوت، كفروا برسل الله ومنهجه، لا يؤمنون بالرسل والأنبياء كمصادر وامتداد لهذه الولاية الإلهية في الجانب التوجيهي والإرشادي، وما يلحق به، وما يتبعه، وكفروا بكتب الله، الرسل والكتب، واتصلوا أصلاً بشكلٍ مباشر بالطاغوت.
هناك فئة أخرى من الفئات المرتبطة بالطاغوت، التي هي في إطار ولاية الطاغوت، ولم تؤمن بامتداد ولاية الله “سبحانه وتعالى” في الجانب التوجيهي والإرشادي، وما يلحق به، وما يتبعه، هي فئة المنحرفين، فئة المنحرفين المحرفين، ومنهم فئة المنافقين، هي فئة منحرفة، فهم مثل هذه الفئة، إمَّا لها موقف في مستوى امتداد ولاية الله “سبحانه وتعالى” في شؤون الحياة، في المجالات العملية في مختلف المجالات، أو في مصادر الهداية الإلهية، في قنواتها وامتدادها، التي هي امتداد لولاية الله “سبحانه وتعالى”، فعندهم مثلاً نظرة مختلفة إلى مستوى ولاية الرسول، حدود ولاية رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
مثلاً من أمثال هذه الحالة من الانحراف، التي ترتبط بولاية الطاغوت، مع إيمانها ببعض رسل الله، ببعض كتبه، لكن دخلت في ذلك عملية تحريف وانحراف: أهل الكتاب (اليهود والنصارى)، الله قال عنهم: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}[النساء: من الآية51]، مع أنهم يقرُّون بالبعض من رسل الله، وبالبعض من كتب الله، لكنهم في حالة الانحراف والتحريف أصبحوا يرتبطون عملياً وواقعياً في شؤون حياتهم بولاية الطاغوت، وابتعدوا عن ولاية الله “سبحانه وتعالى”.
ولاية الطاغوت ليس فيها أي جاذبية، هي ضلال هي منبعٌ للضلال، للتيه بالإنسان، وهي أيضاً ظلم، هي مصدر للظلم، مصدر للفساد، مصدر للشر، مصدر للمنكر، مصدر للانحطاط بالإنسان، مصدر لضرب القيم الإنسانية الفطرية؛ ولهذا يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[الجاثية: من الآية19]، هو في سياق ولاية الطاغوت التي هي مصدر للظلم، ثم هي في نهاية المطاف امتداد لماذا؟ امتداد للشيطان، والشيطان كما قال الله عنه: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: من الآية6]، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ}، وحزبه هم يرتبطون به في ولاية الطاغوت، ولاية الطاغوت امتداد للشيطان؛ ولأنها امتداد للشيطان حتى في الموقف، يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}[النساء: الآية76]، فتصل حالة الارتباط بالطاغوت إلى الولاء له، إلى أن تكون القضية التي يقاتل من يقاتل ممن يرتبط بولايته فيها من أجلها، هي تمكين الطاغوت، هي فصل الناس عن ولاية الله “سبحانه وتعالى” في امتدادها في الهداية، والمنهج، والرموز، تصل المسألة إلى هذا المستوى.
نعود إلى ولاية الله “سبحانه وتعالى”، {وَلِيُّكُمُ اللَّهُ}، (وَلِيُّكُمُ): يرعاكم، يزكيكم، يمنحكم من عزته، لا يريد لكم أن تُظلَموا، يتولى شؤونكم، تتلقون منه الهداية، والتوجيهات، والرعاية، والتعليمات، والنصر، في إطار مهامكم ومسؤولياتكم ومسيرة حياتكم، وهذه نقطة مهمة.
الموقع الذي يكون فيه الذين آمنوا في إطار الولاية الإلهية، هو موقع مسؤولية، هو موقع مهام كبرى، هو موقع أدوار أساسية جداً؛ ولذلك هم في موقع المسؤولية يتلقون هذه التعليمات من الله “سبحانه وتعالى”، وهو يستخلفهم في أرضه، وهو “سبحانه وتعالى” يوجههم بتعليماته العظيمة، وهو يريد لهم أن يكونوا أمةً عظيمةً قويةً عزيزة، تقوم بأدوارها ومسؤولياتها ومهامها الكبيرة والعظيمة والمقدَّسة.
امتداد هذه العلاقة، والوصل لنا بالله “سبحانه وتعالى” في إطار هذه العلاقة يأتي عبر من؟ يقول الله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}؛ لأننا عبر رسوله “صلوات الله عليه وعلى آله” نتلقى هذه التعليمات، هذه التوجيهات، يأتي الدور للرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” في امتداد هذه الولاية الإلهية إلى واقعنا البشري في العملية التوجيهية والإرشادية التي نرتبط بها في كل شؤون حياتنا، ليكون دوراً مهماً وأساسياً.
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، ولاية الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” في مسؤوليته بالرسالة الإلهية، يبلِّغ هذه الرسالة يبلِّغنا عن الله “سبحانه وتعالى”، ويجسِّد مبادئ هذه الرسالة، ويقودنا في الواقع العملي في الحركة بنا في مسيرة حياتنا على أساس هذه الرسالة، ويؤدِّي أدواره التي هي امتداد للولاية الإلهية، فيما يتعلق بمسؤولياته تجاهنا، والتي عبَّرت عنها آيات كثيرة في القرآن الكريم، وهو يهدينا بهذا الهدى الذي يصله من الله “سبحانه وتعالى”، وهو يعلِّمنا الكتاب والحكمة، وهو يزكينا، كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[آل عمران: من الآية164]، فهو في إطار ولايته هذه، هو يزكينا، هو يعلِّمنا الكتاب والحكمة، هو يقودنا في مسيرة هذه الحياة، في إطار الالتزام بتلك الرسالة الإلهية، بما فيها من التعليمات، من التشريعات، من الهداية الواسعة، يتحرك بنا على هذا الأساس، وفي إطار هذه الولاية يمتد دوره كمعنيٍّ بقيادتنا، له علينا حق الطاعة، إلى درجة أن يعبِّر الله “سبحانه وتعالى” عن هذا الدور في قوله جلَّ شأنه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب: من الآية6]، له علينا هذه الولاية التي هو فيها أولى بنا حتى من أنفسنا، فأمره علينا فوق أمرنا، فوق خيارنا، فوق قرارنا، فوق حتى اختيارنا، ما يأمرنا به، ما يوجهنا إليه.
وهكذا يأتي القرآن الكريم ليؤكِّد على هذه المسألة كثيراً، وفي نفس الوقت يطمئننا أنَّ النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” هو بنفسه عبدٌ لله “سبحانه وتعالى”، يذوب في العبودية لله، ما يأمرنا به، إنما هو بأمر الله، ما يوجهنا إليه، إنما هو بتوجيه الله “سبحانه وتعالى”، هو “صلوات الله عليه وعلى آله” في المقدِّمة الأكثر عبوديةً لله، الأعظم التزاماً، استقامةً، تطبيقاً لمنهج الله وتعليمات الله “سبحانه وتعالى”.
هو الذي وُصِف في القرآن بعبوديته لله، حتى أنه ليكفي لأن يقول في القرآن الكريم: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}[الفرقان: من الآية1]، لينصرف هذا المعنى إلى رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”؛ لأنه عبَّد نفسه بشكلٍ تامٍ لله “سبحانه وتعالى”، وعلى أرقى مستوى في الواقع البشري، يكفي في بعض الآيات المباركة أن يشير إلى الرسول بهذا التعبير، بأن يصفه بالعبد؛ لأنه فعلاً عبَّد نفسه على نحوٍ تام، {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ}[الأعراف: من الآية158]، كان يقول، وعلَّمه الله أن يقول، وهو يقولها بكل مصداقية: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأنعام: من الآية50]، ملتزماً كل الالتزام بمنهج الله “سبحانه وتعالى”.
ثم هو يجسِّد ولاية الله “سبحانه وتعالى” فيما يحمله تجاه المؤمنين من رحمة، من حرص، من اهتمام، روحية هذه الولاية، أثر هذه الولاية في نفسه، في علاقته بالأمة، في علاقته بالمؤمنين؛ ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: الآية128]، تجد هذه مواصفات عظيمة جداً، لها دلالات كبيرة جداً، ففي إطار ولاية الله “سبحانه وتعالى”، نعرف أنَّ الله رحيم، أنه جلَّ شأنه يخرجنا من الظلمات إلى النور، أنه يرعانا، أنه ينصرنا، أنه يهدينا، أنه ينعم علينا، أنه يرعانا برعايته الواسعة جداً، هكذا رسوله في امتداد ولايته، وهو يتحرك بنا في واقع هذه الحياة، وهو يصلنا بهذه الولاية الإلهية كامتداد لها في عملية التبليغ، وفي عملية التحرك بنا في إطار هذه الولاية، ومنهجها العظيم، هو يحمل هذه الروحية تجاهنا، وهي روحية مرتبطة بهذه الولاية الإلهية، هي امتداد لها في نفس الوقت، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، هو يحمل تجاهكم هذه الرحمة، إلى درجة أنه يعزُّ عليه، يؤلمه أن يلحق بكم أي عنت، أي ضرر، أي مشقة، فهو بكم رؤوفٌ رحيمٌ، وعليكم حريص، حريصٌ عليكم أن تكونوا أعزاء، أن تكونوا كرماء، أن تكونوا عظماء، أن تكونوا أمةً تنهض بمسؤولياتها المقدَّسة، تدعو إلى الخير، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، تنشر الحق والخير في ربوع المعمورة، أمةً قائمةً بالقسط، أمةً صالحة، أمةً تسمو، وتزكو، وتَصلُح، وتُصلِح في أي أرض الله وعباد الله، هو يحمل تجاهكم هذه الرحمة، هذا الاهتمام الكبير بأمركم، لا يريد لكم أن تكونوا أمةً ضعيفة، لا يريد لكم أن تضلوا، لا يريد لكم أن تقهروا، لا يريد لكم أن يلحق بكم أي مشقة، أو أي ضرر، أو أي عنت.
وهكذا يأتي التأكيد في القرآن الكريم على دور النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” كهادياً وكقائد، ويقول الله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}[النور: من الآية54]، يؤكِّد على أهمية الطاعة له، وأنَّ هذا جزءٌ أساسي في علاقتنا به في إطار ولايته علينا، إلى درجة أن يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء: من الآية80]، كان بعض المسلمين لديهم نقص كبير، كان بعضهم لديهم نقص كبير في فهم هذه المسألة: في استيعاب ولاية الرسول عليهم، في امتداد هذه الولاية في شؤون حياتهم، في مواقفهم، في أعمالهم، في توجهاتهم، في ولاءاتهم، في عداءاتهم، فكان عندهم نظرة قاصرة، يرون دور النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” يقتصر على أمور محدودة جداً، فلا يتحرجون من معصيته في أمور ومسائل كثيرة، هذه كانت مشكلة كبيرة.
في إطار هذه الولاية، ولاية الرسول علينا، له علينا حق الطاعة، حق التعظيم والتوقير، ولهذا أتى في ضمن التوجيهات الإلهية في القرآن الكريم، حتى لمن عاصر النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” وعاش في ظله، يقول الله لهم: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}[الحجرات: من الآية2]، فله علينا الحق في أن نعظمه، أن نجله، أن نوقره، أن نستشعر وأن نعرف عظمته وأهميته، وكماله العظيم، ومنزلته العالية عند الله “سبحانه وتعالى”، ننظر إليه بقدسية، ولذلك يحذر حتى من رفع الأصوات فوق صوته، ويهدد بأن ذلك قد يصل في أثره السلبي على عمل الإنسان أن يحبط، {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.
يقول أيضاً: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور: الآية63]؛ لأن البعض كان يدعوهم النبي لاجتماع، فيتهربون من الحضور، وأحياناً حتى بعد أن يكونوا قد حضروا، يبدأ الاجتماع، يتحدث إليهم، فيحاولون أن يتسللوا وأن يخرجوا بطريقةٍ خفية، دون أن يشعر بهم الباقون والآخرون، فكان هذا يسبب مقتاً لهم من الله “سبحانه وتعالى”، كان هذا يدل على قصور كبير في إيمانهم، في وعيهم، في إدراكهم واستيعابهم وإيمانهم بطبيعة هذه العلاقة بالنبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” في ولايته علينا هي ولاية توجيهية شاملة، نرتبط به من خلالها كقائد، وكقدوة، نتأسى به، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}[الأحزاب: من الآية21]، نطيعه، نوقره، نعظمه، نعظم ما يأتينا منه، نتقبل ما يدلنا عليه، ما يأمرنا به، ما يوجهنا إليه، نسعى لأن نسير في نهجه، وهو يتجه ليبنينا في كل جهوده، لنكون أمةً قويةً، عزيزةً، كريمةً، ولنفوز في الدنيا والآخرة، يريد لنا الخير، يريد لنا أن نكون بمستوى النهوض بمسؤولياتنا العظيمة.
بالنسبة لموقف الكافرين من ولاية الرسول “صلوات الله عليه على آله” فهو موقف معروف، كفروا وجحدوا ذلك بشكلٍ كامل، لكن- كما قلنا- كان هناك بعض المنتمين للإسلام لديهم نظرة قاصرة تجاه ولاية النبي، فكان عندهم ضعف في مدى الاحترام للنبي، التوقير للنبي، التعظيم للنبي، حتى لربما- وهذا شيءٌ أكيد- في فهمهم لعظمة رسول الله، لشخصية رسول الله، لمنزلته عند الله، لكماله العظيم، كان عندهم نقص في كل ذلك، كانوا ينظرون إليه، بعضهم كان لديهم ملاحظات، ملاحظات على رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، بعضهم يتهمونه ببعض الاتهامات، يسيئون إليه، يتعاملون معه بطريقة غير مؤدبة، بعضهم أيضاً- مثل: المنافقين- كان لهم أيضاً نظرة مختلفة تجاه ولاية الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم في قول الله “سبحانه وتعالى”: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}[النساء: من الآية60]، فهم على مستوى الانتماء الإيماني يعلنون انتماءهم للإيمان، الإيمان بما أنزل الله إلى الرسول، الإيمان بالرسول، الإيمان بكتب الله، لكنهم مع ذلك، مع هذا الانتماء، مع هذا الإقرار، قال عنهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}[النساء: 60-61]، فهم على مستوى الاحتكام، على مستوى القضايا وشؤون الحياة، يريدون أن يحتكموا فيها إلى من؟ إلى الطاغوت، بعيداً عن الرسول، إلى من هو منفصل عن الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، عن منهج الله الحق، إلى آخرين يريدون أن يرتبطوا بهم في ذلك، من ليس لهم هذا الارتباط بمصادر الهداية الإلهية، لا بمنهج الله، ولا برسول الله، يريدون أن ينفصلوا عن ذلك، وأن يكون لهم تعليمات وحاكمية أخرى، تفصل في شؤون حياتهم وقضاياهم، بعيداً عن ذلك، هذه نظرة، نظرة البعض من المنافقين، ورثها المنافقون في كل عصر، في كل جيل من أجيال الأمة.
هنا عندما نكمل الحديث عن ولاية النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” كامتداد لولاية الله، وبهذا الاختصار، على ضوء بعض الآيات القرآنية، نستكمل على ضوء الآية القرآنية المباركة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: الآية55]، لم يكفِ هنا في الحديث عن ولاية الله وامتدادها أن يقتصر على قوله: {وَرَسُولُهُ}، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، ثم يكفي ذلك، فيكون رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، مع منهج الله الحق، هو الامتداد للولاية الإلهية في واقعنا البشري، لم يكفِ ذلك، أضاف قوله “جلَّ شأنه”: {وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.
يذكر المفسرون أن الآية في هذا النص، قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، تتحدث عن الإمام عليٍّ “عليه السلام”، الذي تصدق بخاتمه وهو راكعٌ وهو يصلي صلاة النافلة، في مسجد رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
الآية القرآنية بالأكيد أنها تتحدث عن مناسبة معينة، وعن شخص معين، سياقها يشهد على ذلك، ثم أيضاً ما ارتبط بها من كلام الرسول؛ لأن الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” بعد نزول هذه الآية بيَّن أن مصداقها هو الإمام عليٌّ “عليه السلام”، مصداقها الذي نزلت فيه وقصدته في هذا النص: {وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.
طبعاً سنتحدث عن بعض ما يفيده قوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، بعض ما يعبر عنه، ما يدل عليه، ولكننا نركز هنا على نقطتين:
في الآية المباركة ركَّزت الآية أن تقدم الامتداد للولاية الإلهية، وهي في إطار مسيرةٍ إيمانية بالعنوان الإيماني، وبالمعيار الإيماني، وبالكمال الإيماني، فالامتداد، امتداد هذه الولاية ما بعد محطة الرسالة {وَرَسُولُهُ} هو في عنوان، امتداد هذه الولاية في عنوانٍ إيماني، في إطار الكمال الإيماني، والإمام عليٌّ “عليه السلام” كان يجسد هذا الكمال الإيماني على أرقى مستوى، وهذا ما سنتحدث عنه بتفصيلٍ أكثر.
لم يكف- كما قلنا- أن يقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، لماذا؟ لأن ولاية الله “سبحانه وتعالى” في امتدادها في الهداية، في امتدادها التوجيهي والارشادي، في امتدادها بحركة هذا الدين، وبالأمة في إطار هذا الدين، والقيام بهذا الدور المهم، في تجسيد مبادئها وقيمها وأخلاقها، لا بدَّ له من الاستمرارية، وإلا فالفراغ نتيجةً لرحيل النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” سيفقد الأمة الصلة برسولها نفسه، برسولها نفسه، بولايته نفسه.
ولهذا نجد أنه قال في نص حديث الغدير، حديث الولاية: ((فمن كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه))؛ لأن علياً يؤدي دور حلقة الوصل برسول الله، دور الامتداد لولاية رسول الله في الأمة، يصلنا برسول الله، بتوجيهات رسول الله، بالمبادئ التي أعلن عنها رسول الله، يواصل هذا الدور في مسيرة الأمة، في تزكية الأمة، في هداية الأمة، في قيادة الأمة، في تجسيد تلك المبادئ، تلك القيم، في الحفاظ عليها نقيةً لا يشوبها التحريف، ولا يشوبها التزييف، وهذا دورٌ محوريٌ مهمٌ جداً، إن فقد هذا الدور، فالفراغ الرهيب جداً، الفراغ الكامل، الذي يفترضه البعض، سينتج عنه كارثة كبيرة جداً في واقع الأمة، سينتج عنه انفصال عن الارتباط بهذه الولاية، في أشياء كثيرة، في جوانب كثيرة.
لو كان بالإمكان الاكتفاء عن هذا الدور، لما أضيف أصلاً، لو بالإمكان الاكتفاء عن هذا الدور، وأن نكتفي بقوله: {اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، لما كان هناك من حاجة إلى أن يقول في هذه الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}، ويقدم تلك المعايير والمواصفات، ثم يقول ثانيةً: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، لما كان بحاجة إلى أن يقول في نص حديث الغدير: ((فمن كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه))، إلا لأن المطلوب أن يستمر هذا الدور في الحركة بالأمة على أساس الهداية الإلهية، بشكلٍ مضمونٍ ووثيقٍ ونقيٍ وسليمٍ وتام؛ لأن هذه مسألة مهمة جداً، ولأنها في غاية الأهمية أتى: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}؛ لأن المطلوب هو الاستمرارية، استمرارية مسيرة الهداية الإلهية في واقع الأمة، استمرارية الدين الإلهي بكل نقائه، استمرارية إقامته في واقع هذه الحياة بشكلٍ سليم، بشكلٍ صحيح، بعيداً عن التزييف والشوائب التي تؤثر على ذلك.
فلذلك لأن ولاية الله ممتدة في واقع عباده، ومسيرة حياتهم، في هذا الجانب الذي يقوم به الرسول في الهداية، وما يتعلق بها من رعاية، وامتدادها أمرٌ ضروريٌ في سنة الله في عباده، وإلا فسيكون للفراغ أثره السلبي جداً ما بعد النبوة، فيأتي الاستمرار ليس من موقع النبوية، ليس من موقع النبوة، وإنما من موقع الولاية.
ونجد أيضاً النصوص التي لها أهمية كبيرة جداً، وتؤكد على هذا المعنى، نصٌ مهمٌ، نصٌ نبوي مهم، معروفٌ بين الأمة جداً، مشهورٌ بين الأمة، ثابتٌ بين الأمة، هو ما يعرف بحديث المنزلة، عندما قال النبي عن الإمام عليٍّ “عليه السلام”، عندما قال رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” لعليٍّ: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعد))، وهذا النص أتى في أكثر من مقام، في مقام أخرى يقول: ((علي مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي))، هذا النص المهم يفيدنا عن منزلة الإمام عليٍّ “عليه السلام”، عن موقعه، هذا الموقع المهم، الذي يمثل دوراً أساسياً جداً في استكمال هذه المسيرة، في النهوض بهذه المسؤولية، في القيام بهذا الدور، في استمرار مسيرة الهداية الإلهية، في كماله أيضاً، أنه أكمل هذه الأمة بعد نبيها، كما كان هارون أكمل أمة موسى في كماله الإيماني، هل يمكن لأحد أن يقول كان هناك من أمة موسى من هو أكمل إيماناً من هارون؟ لا. أو من دوره في النهوض بالرسالة الإلهية مع موسى في مستوى هارون في أمة موسى؟ لا.
ولذلك نجد أن هذا النص العظيم، المهم، الثابت، المعترف به بين الأمة، هو يقدم لنا دلالات متعددة وذات أهمية كبيرة؛ لأنه يبين لنا دور الإمام علي “عليه السلام” من جوانب كثيرة، إسهامه الكبير والعظيم في نصرة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، في مناصرته، ومعاضدته، والقيام معه بدور كبير في نصرته، والحركة بالإسلام، والدفاع عن الإسلام، وعن كماله الإيماني العظيم، ثم أيضاً عن موقعه المستمر والمكمل للدور ما بعد وفاة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، ليس من موقع النبوة: ((إلا أنه لا نبي بعدي))، ولكن من موقع الولاية: ((فمن كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه)).
كمال الإمام علي “عليه السلام” على المستوى الإيماني مسألة معروفة جداً، ولو تحدثنا عنها، فالحديث عنها يطول جداً، إلا أننا يمكن أن نشير بإشارات مختصرة:
الكل يعرف أن علياً “عليه السلام” كان له ميزة في مسيرته الإيمانية: هي بالاختصاص بالنبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، أنه تربى منذ طفولته عند رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، ورباه على مكارم الأخلاق ليله ونهاره، وأنه لم يسبق إيمانه أي شرك، ولا أي شائبة، ولم يتأثر بأي شيءٍ من خارج الإسلام، ولا من دنس الجاهلية، وفي نفس الوقت كان لديه- بإعدادٍ إلهي، وبتهيئةٍ إلهية- قابلية عالية جداً، أن يحظى بتلك التربية المباشرة، المستمرة، من رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، منذ الطفولة، وبذلك الإعداد من جانب النبي، في كل تلك المراحل إلى حين وفاة النبي، ومع ذلك ماذا؟ كان لديه هو فيما هيأه الله له قابلية عالية جداً، للاستفادة مما يربيه النبي، ويعلمه النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
ثم فيما يأتي في القرآن الكريم من حديث، البعض منه في آيات عامة، مصداقها الأعظم والأول هو الإمام علي “عليه السلام”، نموذجها المتكامل والأول هو الإمام عليٌّ “عليه السلام”، فتقدم أيضاً تعريفاً عنه، وتقدمه كنموذج، وتقدمه كقدوة، وتكرر هذا في القرآن الكريم، وتحدث المفسرون، والمحدثون، والمؤرخون، وأسباب أصحاب النزول، عن ذلك، عن علاقتها بالإمام عليٍّ “عليه السلام”.
فنجد مثلاً في بعضٍ من الآيات القرآنية، والنصوص النبوية، التي تتحدث لنا عن كمال عليٍّ، وتجمع ما بين الحديث عن سره وباطنه، مع علانيته وظاهره، وعلى نحوٍ قاطع، خبرٌ من الله، ومن رسول الله عن الله “سبحانه وتعالى”، فمن ضمن ذلك قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: الآية207]، الكل يقر بأن المصداق الأول لهذا النص القرآني، لهذه الآية المباركة، من أمة محمد، هو الإمام عليٌّ “عليه السلام”، النموذج الأكمل والمصداق الأول، فهو الذي باع نفسه من الله “سبحانه وتعالى”، باع نفسه بشكلٍ كاملٍ من الله “سبحانه وتعالى”، واتجه في كل مسيرة حياته وقد باع نفسه من الله، يعمل كل ما يعمله من أجل الله، وفي سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، ولنصرة دين الله “سبحانه وتعالى”، وهو حاضرٌ في كل لحظة، وبدون استثناء، لأن يلقى الله “سبحانه وتعالى”، وأن يضحي بحياته؛ ولذلك انطلق على نحوٍ عظيمٍ ومتميز لنصرة الله “سبحانه وتعالى”.
ثم تبين لنا الآية إخلاصه العظيم لله “سبحانه وتعالى”: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}، فهي تتحدث لنا عن مكنون علي، عمَّا في أعماق قلب علي، عليٌّ الذي عقد العزم في نفسه، في قرارة نفسه، على أن يضحي بنفسه في سبيل الله، وأن يجعل كل حياته في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، يعمل ليله ونهاره، يقف كل المواقف مهما كانت خطورتها وحساسيتها، وهو في تمام الاستعداد والجاهزية العالية للتضحية بروحه، للتضحية بحياته، وبإخلاصٍ تامٍ لله “سبحانه وتعالى”.
{ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}، فهو في كل مسيرة حياته يتحرك ابتغاء مرضات الله، رضوان الله هو هدفه الرئيسي، ليس له أي أهداف أخرى، ليس هناك أي شوائب أخرى، أي دوافع أخرى، أي عوامل أخرى، تؤثر على مقصده، على هدفه، على نيته، على اتجاهه، وهذا إيمانٌ خالص، هذا توجهٌ صادقٌ يشهد به القرآن الكريم.
فكانت تضحياته، مواقفه، بطولاته، التي اشتهرت في التاريخ، التي أصبحت من أشهر المشهورات، ومن أبرز ما نقله التاريخ، بطولاته وتضحياته العظيمة، فكان معروفاً باستبساله العظيم، وتفانيه العظيم، في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، ودوره المتميز في كل مواطن الاستبسال، في كل مواطن التضحية، في كل مقامات الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”.
فبرز هو كجنديٍ أول في نصرة النبي والإسلام:
في بدر.
في أحد.
في الخندق.
في كل المقامات.
فلذلك كان هو الخصم المخاصم الأول في قول الله “سبحانه وتعالى”: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}[الحج: من الآية19]، في واقعة بدر.
ثم هو كان الذي استحق ذلك الوسام الكبير في غزوة أحد، عندما قال جبريل عن ذلك المستوى من التفاني والاستبسال: ((إن هذه لهي المواساة))، وحين هتف الهاتف: ((لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي)).
ثم كان من أعظم ما يعبر عن الموقف العظيم، عن الموقف الإيماني الذي يعبر عن الإيمان، يجسِّد مبادئ الإيمان في كماله العظيم، يجسِّد قيم الإيمان في مستواها العظيم، عندما قال النبي عن خروجه يوم الخندق، وهو يلقى عمرو بن عبد ود: ((برز الإيمان كله، إلى الشرك كله))، هكذا هو علي، يعبر عن الإيمان كل الإيمان، في كمال الإيمان، وعلى أرقى مستوى من الإيمان.
ثم في دوره المحوري في غزوة خيبر، أيضاً يتحدث عن عمق علي: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارٌ غير فرار، يفتح الله على يديه))، يتحدث بخبرٍ عن الله، بما أخبره الله به، عن عمق علي، عن محبة عليٍّ لله ولرسوله، ومحبةً إيمانيةً عظيمة، كان لها ذلك الأثر في روحية علي، في استبسال علي، في فاعلية علي، في دوره العظيم جداً، فيما يفتح الله به على يديه، فيما تحقق على يده من نتائج وثمار عظيمة.
ثم نجد أيضاً في الحديث عن إخلاص علي، عن مكنون علي، عن عطف علي، عن حنان علي، ما يجسد القيم الإيمانية في جوانب أخرى، في مثل قوله “سبحانه وتعالى” وهو يتحدث عن علي وفاطمة الزهراء، تلك الأسرة المباركة: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان: 8-10]، نجد هنا الحديث عن إخلاصهم، إخلاصهم العظيم، عن أن الهدف دائماً هو رضوان الله “سبحانه وتعالى” بالنسبة لهم.
الإمام عليٍّ “عليه السلام” هكذا كان، تتجسد الحالة الإيمانية لديه في كل ما يعمله، في كل ما يقدمه، في كل ما يعطيه، وهو يقدمه من أجل الله “سبحانه وتعالى”، دون أي شائبة، من رياء، أو مقاصد أخرى، مقاصد معنوية، مقاصد… حتى على مستوى الشكور: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}، يقدم ما يقدمه خالصاً من أجل الله “سبحانه وتعالى”، بدافعٍ إيمانيٍ خالص، ليس عنده أي استغلال للآخرين، أي أهداف من الآخرين، ليس عنده أي توظيف شخصي، لمكاسب شخصية، وأطماع وأهداف شخصية، لأي شيءٍ كان أبداً، فهو يقدم ما يقدمه، يعمل ما يعمله، خالصاً من أجل الله “سبحانه وتعالى”، بروحيةٍ إيمانيةٍ عظيمة، تصل به حتى على مستوى الإيثار على نفسه، في طعامه الذي لا يمتلك غيره، في قوته الذي لا يتوفر له سواه، في أن يقدم ما يقدمه وهو يحمل حالة الإخلاص على أرقى مستوى، على نحوٍ كاملٍ وعظيم، الخوف والخشية من اليوم الآخر، محاسبة حساب هذا اليوم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}.
فيتحدث لنا عن أعماق علي، حتى في قوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: من الآية55]، هذا مؤشر والإمام عليٌّ في أعظم مقام، مقام العبادة لله، مقام الصلاة التي يقيمها، يقيمها بخشوع، بتوجهٍ ذهنيٍ نحو الله “سبحانه وتعالى”، في موقفٍ عظيم، ومقامٍ عظيم، وبالنسبة له يختلف الحال عن غيره، قيامه لله في صلاته يختلف عن قيام أيٍّ منا في صلاته لله “سبحانه وتعالى”، حتى في تلك اللحظة الأهم، حتى في ذلك الموقف الأعظم، لا يغيب عن الاهتمام بسائلٍ يدخل المسجد، يطلب الناس، لا أحد يعطيه شيئاً، فيؤشر له بخاتمه، ليستلمه، ويتصدق به، هذا الاهتمام الكبير بأمر الفقراء، بأمر الأمة، بأمر الناس، بروحيةٍ إيمانيةٍ عالية، بدافعٍ إيمانيٍ خالص، هذا هو الذي يقدمه القرآن كمؤهل للإمام عليٍّ “عليه السلام”، مؤهلٍ إيماني، للقيام بهذا الدور، للاستمرار بهذا الدور، في العناية بالأمة، في الاهتمام بأمر الأمة.
كما يقدم لنا هناك رسول الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: الآية128]، هنا يقدم علياً في كمال إخلاصه، في كمال محبته، في دوره العظيم، إسهامه الكبير، في قيام هذا الدين، في نصرة هذه الرسالة، في الرحمة بالأمة، في الحرص عليها، في الاهتمام بأمرها.
مع ذلك أيضاً تأتي كثير من النصوص ذات الأهمية الكبرى، التي تكشف لنا أيضاً جوانب أخرى مما يتعلق بالإمام عليٍّ “عليه السلام”، وتمثل ضمانات تطمئن الأمة، ضمانات كافية يقدمها النبي، يبلغها عن الله “سبحانه وتعالى” في نصوص نبوية، تطمئن هذه الأمة، تطمئنها عن أن هذا الرجل- الذي هو الإمام عليٌّ “عليه السلام”- في جانب الإيمان هو أيضاً على مستوى الهداية الإلهية، على مستوى علاقته بهدى الله، معرفته بهدى الله “سبحانه وتعالى”، معرفته بالحق، والتزامه بهذا الحق، وتمسكه بهذا الحق، على نحوٍ لا ينفك عنه أبداً، فلا هو ممن قد يجهل الحق، في موقفٍ من المواقف، أو موضوعٍ من المواضيع، أو قضيةٍ من القضايا، ولا هو ممن قد يجهل ما يرشد إليه القرآن، أو يهدي إليه القرآن، في مقامٍ تحتاج فيه الأمة إلى هدايةٍ لها بالقرآن الكريم، من خلال القرآن الكريم في ذلك.
فيأتي الحديث عن الإمام علي “عليه السلام” في علمه بالحق، في علمه الواسع جداً، في هدايته، في ارتباطه بالقرآن، في ارتباطه بالحق، بشكلٍ وعلى نحوٍ يفيد أن المقام ليس المقام عن دورٍ محدود، دورٍ شخصي للإمام علي “عليه السلام”، عن مسألة عادية في إطار شخصية الإمام علي “عليه السلام”، بل بحديثٍ يقدم المسألة على علاقتها بالأمة، وعلى أنه دورٌ يرتبط بهذه الأمة، والأمة على علاقةٍ به، وهو أمرٌ يعنيها هي، هي المخاطبة بذلك، هي ضمانات تقدم إليها هي.
فالرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” عندما يعلن للأمة وهو يقول لها: ((عليٌ مع القرآن، والقرآن مع علي))، ليس لأمرٍ يخص علياً في إطارٍ فرديٍ شخصيٍ يعيشه بمفرده، كعضوٍ عاديٍ من أعضاء المجتمع الإسلامي، وكصحابيٍ، كواحدٍ من الصحابة، المسألة ليست كذلك، هو خطابٌ للأمة، الأمة تُقَدَّم لها ضمانة: بأن هذا الرجل الذي سيواصل هذا الدور في هداية الأمة، في الحركة بالأمة على أساس هدى الله “سبحانه وتعالى”، هو مع القرآن، هو يعرف القرآن، هو عالمٌ بالقرآن، هو الذي أتى عنه التعبير في آيةٍ أخرى في قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[الرعد: من الآية43]، هو اهتدى بالقرآن، هو يتمسك بالقرآن، هو لا يفارق القرآن في أي قرارٍ يتخذه، لا يفارق القرآن في أي عملٍ يعمله، لا يفارق القرآن في أي هدىً يقدم، وأي مفاهيم، أي تعليمات، أي توجيهات، هو مع القرآن دائماً، مع القرآن وهو يعلم هذه الأمة على ضوء ما تضمنه القرآن الكريم، وهو يرشد هذه الأمة، مع القرآن وهو يوجه هذه الأمة، مع القرآن في المواقف التي يقف بها، ويدعو هذه الأمة إلى أن تقفها، مع القرآن في كل أحواله، في كل مواقفه، في كل قراراته، في كل توجهاته.
النبي عندما قال للأمة: ((عليٌّ مع الحق، والحق مع علي))، هو كذلك في هذا السياق، في إطار هذا الدور الذي يتحرك به في الأمة، الأمة التي يراد لها أن تكون متمسكةً بالحق، أن تكون عارفةً بالحق، أن تكون ثابتةً على الحق، أن تقف المواقف الحق، أن تكون على الحق في مسيرة حياتها، أن تكون على الحق في مواقفها، في كل توجهاتها، عليٌّ يتحرك بها على هذا الأساس، ((والحق مع علي)) بكل ما يعنيه ذلك، كما قال: ((والقرآن مع علي)).
عندما قال عن عليٍّ “عليه السلام” أنه يقاتل على تأويل القرآن، وذلك في مستقبل الأمة، قاتل مع النبي على تنزيله، وفي مستقبل الأمة، وما بعد وفاة النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، أنه يقاتل على تأويل القرآن، هو يبين طبيعة هذا الدور المرتبط في الحفاظ على المفاهيم القرآنية، بعد أن عجز المحرفون عن تحريف النص القرآني، يتجهون إلى التحريف في التأويل، في المضمون، في المفاهيم، في المعاني، في الدلالات، فيأتي هذا الدور للإمام علي “عليه السلام”: ((فمن كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه))، وهو يحمي هذه المفاهيم، وهو يتحرك بالأمة وفق المفاهيم القرآنية الصحيحة، التي لا يشوبها تحريف، ويتصدى للآخرين، الذين ينحرفون عملياً، ثم يبررون انحرافهم العملي من خلال تزييف للمفاهيم، للتأويل، فقاتل على تأويل القرآن.
وصولاً إلى نصٍ ذي أهمية كبيرة جداً هو: قول النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” عن الإمام عليٍّ “عليه السلام” أنه: ((لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق))، الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” في الإيمان به والمحبة له كان علامة فارقة بين الكفر والإسلام، والإمام عليٌّ “عليه السلام” في داخل الانتماء الإسلامي هو علامة فارقة بين الإيمان والنفاق، بكل ما لذلك من أهمية كبيرة جداً في داخل الساحة الإسلامية، وهذا ما يفيده النص النبوي، فيما يتعلق بحب الإمام علي أنه من الإيمان، وفي بغضه أنه نفاق، مؤشر على النفاق، علامة واضحة على النفاق، دلالة بينة على النفاق، بكل خطورة النفاق، الذي يعبر عن حالة انحراف كبير في داخل الأمة.
الدور المهم جداً للإمام علي “عليه السلام” فيما يتعلق بهذه المسألة يذكرنا في سياق الآية المباركة، آية الولاية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، وقد أتت بعد التحذير الشديد من التولي لليهودي والنصارى، وما يشكله ذلك من خطورة على الأمة، الأمة في إيمانها، وفي دينها، وفي ثباتها على دينها، وفي سلامة دينها، في سلامتها على المستوى المعنوي، على المستوى التربوي، وفي سلامتها على المستوى الثقافي والفكري، وفي سلامة دينها على المستوى العملي، في الآيات المباركة من سورة المائدة، أتت آية الولاية في هذا السياق؛ لتبين لنا كم أن مبدأ الولاية يمثل ضمانة، ضمانة مهمة، لحماية الأمة من الانحراف الداخلي، الذي يشكل ثغرةً كبيرة لصالح من؟ لصالح اليهود والنصارى، ولصالح حركة النفاق، التي تسعى للانحراف بالأمة، وإخضاع الأمة تحت ولاية اليهود والنصارى، وهذه مسألة مهمة في عصرنا هذا بشكلٍ كبير جداً، مسألة تعنينا نحن في هذا الزمن.
ولذلك نلحظ هنا أهمية ولاية الإمام علي، فيما تعنيه من حمايةٍ لنا نحن في هذا الزمن، وأن المسألة ليست وقتية، تجاه هذا الخطر الكبير، الذي يهددنا في الإيمان، يهددنا في الاستقامة على دين الله، في الثبات على دين الله، وفق الآيات المباركة من سورة المائدة، تشكل مسألة الولاء لليهود والنصارى حالة خطيرة جداً على الأمة في واقعها الديني، وبالتالي في واقع حياتها، في أن تبقى أمةً قويةً مستقلةً، تعيش ثمرة الإسلام في واقع الحياة.
والحالة التي هي حالة انحراف هي حالة عبَّر عنها القرآن الكريم في قول الله “سبحانه وتعالى”: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}[المائدة: من الآية52]، حالة اختلال على المستوى التربوي، يُعَبَّر عنه بالمرض، تفقد الأمة سلامتها التربوية، تنشأ في داخل القلوب مظاهر سلبية، تنشأ أشياء سلبية فتاكة، تتعارض كلياً مع الأثر التربوي للإيمان، في نفسية الإنسان، تخسر تلك القلوب الزكاء، تخسر أيضاً المعاني الإيمانية الراقية جداً، التي تسمو بالإنسان وتزكو بالإنسان، تنشأ آفات وعلل تربوية خطيرة، تساعد على الانحراف بالإنسان، من ثمراتها، من نتائجها السلبية جداً: المسارعة في الولاء لليهود والنصارى.
وبالتالي ينشأ عن ذلك- على المستوى العملي- حالة ارتداد عن الدين، قد يصل بالبعض إلى مستوى الخروج عن الإسلام بشكلٍ كامل، والبعض لا، قد يأتي ارتداد عن الدين في مبادئ مهمة من هذا الدين، في قيم مهمة، بحيث يبقى فقط حالة شكلية روتينية، وبعضٍ من الطقوس، في نفس الوقت تتحول تلك الجماهير، تلك الفئات من أبناء الأمة، التي تنحرف هذا الانحراف، في حالةٍ من الطاعة، في حالةٍ من الولاء لليهود والنصارى، فتتجه- وهي تحمل عنوان الإسلام في انتمائها- تتجه في الواقع العملي لطاعة اليهود والنصارى، ولتقديم ما يخدمهم، وللعمل فيما هو مصلحةٌ لهم، فتتحول الحالة إلى حالة نفاق، تتحول الحالة إلى حالة نفاق، ينحرف عن الإيمان.
هنا نجد كم مسألة ولاية الإمام علي “عليه السلام” ذات أهمية كبيرة جداً؛ لأن حبه علامة فارقة بين الإيمان والنفاق، ولأنه أيضاً علامة فاصلة بين الزيف والحق، والحقيقة والأصالة، تبقى أصالة الإسلام متمثلةً بالإمام عليٍّ في منهجه، في مواقفه، في مسيرته، يمثل هو حلقة الوصل السليمة، الموثوقة، التي تصلنا برسول الله، فتقدم لنا الدين نقياً، سليماً من كل الشوائب.
يبقى مبدأ الولاية في الولاء للإمام عليٍّ “عليه السلام”، وبالتمسك بالثقلين، يصوننا على مستوى الولاء، فلا ننحرف في ولائنا، وعلى مستوى المنهج، والموقف، والعمل، والمسيرة العملية، فلا ننحرف، ولا نعيش حالة الفوضى والانفلات فيما يتعلق بالولاء، أو الفوضى والانفلات فيما يتعلق بالجانب الثقافي والفكري والعناوين الدينية.
البديل عن مبدأ الولاية هو ماذا؟ هو ذلك الفراغ، هي تلك الفوضى، هي حالة الانفلات، التي تجعل الأمة ضحية لكل الانتهازيين، لكل المضلين، لكل المفسدين، حينها حتى المعيار الإيماني، إذا لم يكن له نموذجه، إذا لم يكن له من يمثله، حتى هو ممكن أن يتقمص بخداع، ولذلك تأتي مسألة العناوين الإيمانية والدينية في واقع الأمة عبر تاريخها وإلى اليوم، حتى المنافقين يحكي عنهم القرآن أنهم يتحدثون أحياناً تحت عناوين إيمانية: {مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة: من الآية8].
بل فيما يأتي عن النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” أنه يأتي تحت العناوين الدينية، وتحت العناوين الإيمانية، من يصلون إلى درجة ((أن تحقروا صلاتكم عند صلاتهم، وقراءتكم للقرآن عند قراءتهم للقرآن))، يعني: من هم أكثر منكم حتى في مسألة الطقوس الدينية، حتى في مسألة القراءة والتلاوة للقرآن الكريم، من يتفوقون عليكم في ذلك، إلى درجة أن تحقروا صلاتكم عند صلاتهم، فترون صلاتكم لا شيء أمام صلاتهم، وقراءتكم للقرآن لا شيء أمام قراءتهم، إلى هذا المستوى يمكن التزييف للعناوين الدينية، والاستغلال للطقوس والشعائر الدينية، من الفئات المنحرفة، ثم- في نفس الوقت- تنحرف بالأمة في ولائها، وتنحرف بالأمة في منهجيتها العملية عن منهج الله، فلا تصلها بولاية الله في الهداية، وهنا تفتح الثغرة الكبيرة، التي يمكن أن يستغلها اليهود والنصارى.
اليهود- في الدرجة الأولى- هم قديرون على لبس الحق بالباطل، هم ماهرون في عملية التزييف على المستوى الديني، وعلى مستوى المفاهيم والثقافات، وعلى مستوى أيضاً الرموز والولاءات، فيمثل هذا ثغرةً ينفذون من خلالها إلى استغلال الأمة، مع وجود الانتماء الإيماني والديني؛ لأن مجرد الانتماء الإيماني والديني لا يكفي.
هو يحذرنا أن الأمة معرضة لأن تتخذ اليهود والنصارى أولياء مع وجود الانتماء الإيماني، حينما يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}[المائدة: من الآية51]؛ لأن ذلك ممكن، ممكن مع وجود الانتماء الإيماني أن تتخذ اليهود الصهاينة أولياء، في الوقت الذي لا تزال- على مستوى الانتماء- تنتمي للإيمان.
يمكن أن يحصل الارتداد عن الدين، عن مبادئ مهمة من الدين، عن أساسيات من هذا الدين، عن مسؤوليات مهمة في هذا الدين، عن أشياء مهمة في هذا الدين، وأنت- في نفس الوقت- تنتمي للإيمان، ولهذا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}، ثم بعدها يقول: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة: من الآية54]، ويأتي بسلسلة مواصفات تعبر عن الثبات والاستمرارية بشكلٍ صحيح على أساس هذا الدين في كماله ونقائه، يختمها بالآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.
فإذا بنا نرى أن المسألة تعنينا في هذا الزمن، وأكبر تهديد في هذا العصر، وأكبر خطر في هذا العصر، يهدد الأمة في دينها واستقلالها، ويهدد الأمة في دينها ومبادئها وقيمها العظيمة، في المبادئ والقيم ذات الأهمية الكبيرة في الدين، الخطر الذي يهددنا من أعدائنا في سعيهم للسيطرة علينا، وهم يسعون للسيطرة علينا عن طريق الاختراق الثقافي والفكري، والاختراق الداخلي، الذي يمهد السبيل أمامهم للسيطرة التامة علينا، والاستغلال لنا، والاستغلال لكل ما لدينا من إمكانيات وقدرات وثروات، هنا منبع الخطورة علينا، فتمثل الولاية مسألةً مهمة في أن تحمينا من هذا الاختراق، ومما يلحق به، من إمكانية السيطرة علينا والاستغلال لنا.
ولذلك يأتي أيضاً بعد ذلك قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة: الآية56]، لكي نحظى بهذه الرعاية الإلهية، التي تحمي لنا مبادئنا وقيمنا، بنقائها وأصالتها، ويحمينا من النفاق، والانحراف في الولاء، والانحراف على المستوى العملي، ولكي نحظى برعاية الله ونصره وتأييده، ولكي نكون من حزبه الغالب، لا بدَّ لنا من هذا: أن نتولى الله، ورسوله، والذين آمنوا.
فيكون التولي لله مرتكزاً أساسياً تحظى الأمة من خلاله بنصر الله، مرتكزاً أساسياً لتصحيح واقع الأمة، لمعالجة وضعها الداخلي، للعناية بكل متطلبات التقويم والتصحيح، والإصلاح لكل مجالات الواقع وعلى نحوٍ متكامل، وفي كل المجالات، وبفاعلية، فالمسألة مهمة لنا، من حيث التهديدات التي تعاني منها الأمة، والمخاطر التي تعنينا كأمة، في ضل الوقت الذي يسعى فيه أعداؤنا من اليهود الصهاينة، تسعى قوى الطاغوت- على رأسها أمريكا وإسرائيل- لفرض ولايتها علينا.
نحن أمام هذا التهديد، أمام هذا الخطر الواضح: تسعى قوى الطاغوت في عصرنا- وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل- لفرض ولايتها علينا، للتحكم بنا في كل شؤون حياتنا، للتدخل في كل مجالات حياتنا، للتحكم بنا في كل واقع حياتنا، للسيطرة الكاملة علينا، وعلى كل ما في أيدينا، وما معنا من ثروات وإمكانات، البشر، والجغرافيا، وما معهم.
والثغرة الكبيرة التي ينفذون من خلالها هي حالة الفوضى، حالة الانفلات، التي تؤثر على الإنسان، وتجعله قابلاً لأن يتجه بولائه نحوهم، وحالة الاختراق الثقافي والفكري، عندما لا نتصل بهذا الوصل، الذي يصلنا برسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وفق ما تدل عليه النصوص القرآنية، الآيات المباركة، والنصوص النبوية عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، الحديث عن هذه المسألة يمكن أن يطول جداً.
نكتفي بهذا المقدار.
ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛