الثقافةُ الثوريةُ الشاملة لثورة الإمام الحسين
| الصمود | ستظل الأحداث التي تلت ثورة الإمَـام الحسين بن علي -عليهما السلام- للأجيال المتعاقبة شاهد حال على صوابية الثورة الحسينية ودليل صدق على سمو ثقافتها ونبل مقاصدها، وعلى قداستها وسمو أهدافها، وعلى إنسانيتها ورقيها، فهي ثورة إنسانية شمولية شعارها “طلب الإصلاح في أُمَّـة جدي”، كما أعلن الإمَـام الحسين -عليه السلام، فانحراف الأُمَّــة الذي نتج عن سياسة الدولة السفيانية، وما ترتب عليها من فرض ثقافة تضليلية مغلوطة ومغايرة لدين الإسلام بالقوة قوامها التجهيل للناس في دينهم والتضليل لهم عن هداهم وتبديل الحق بالباطل والنور بالضلال والغث بالسمين وهدفها ترسيخ نظام الحكم اﻷموي، وانعكاسها بإحلال الدين الأموي بدلاً عن الدين الحنيف في قلوب الناس وقمع كُـلّ من رفضه بقوة الحديد والنار والسيف والمقصلة وقد أشار معاوية إلى هذه الثقافة التجهيلية بعد أن تيقن من نجاحها في الشام بقوله “لآتينه بقوم لا يفرقون بين الناقة والبعير” -يقصد الإمَـام علي عليه السلام -وفي هذه العبارة دلالة على عظمة الجهل الذي ساد ورسوخ المعتقدات الضالة التي غرست في النفوس واستحالة استبدالها أَو تغييرها والتي مارسها معاوية منذ ولاه عثمان بن عفان على الشام ومن بعده يزيد وتلك الثقافة تطابق الثقافة الوهَّـابية الإرهابية التي نشاهدها اليوم.
ما يعني أن الإمَـام الحسين عليه السلام كان أول من استشعر الوضع الخطير الذي وصلت إليه الأُمَّــة من الانحراف والابتعاد عن قيم الدين الحنيف جملة وتفصيلا، ولذلك حمل مسؤوليته أمام الله وتحَرّك لأداها وكان الدافع الوحيد لخروجه -عليه السلام- في ثورته التصحيحية الشاملة هو إعادة معالم دين جده المصطفى -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- ونشر ثقافته الحنيفة وعدالته واعتداله وحفظ جوهره وترسيخ قيمه ومبادئه وأركانه وإعادة الأُمَّــة إلى حضيرة أنواره وهداه ونسف ثقافة الضلال الأموي والتضليل السلطوي التي سادت وحلت.
وهذا ما يؤكّـد أنّ ثقافة الثورة الإصلاحية التي قام بها الإمَـام الحسين عليه السلام ليست ثقافة ثورة نوعية، بل ثقافة ثورة شمولية في أصدق وصف لها، وممّا يُصدّق هذا القول المدّة التي احتضنت الثورة ومهدّت لها؛ ممّا أعطى الثورة بُعداً شمولياً لم يكن محصوراً في الإسلام أَو العرب، بل الانتشار الواسع الذي كانت علية الثورة، حقّقت هذه الشمولية التي نتحدّث عنها، ثمّ إنّ ظرفها وزمن ولادتها جعلها ثقافة أكثر عمقاً، فهي ثقافة تراكمية كانت تنمو وتتكامل منذ زمن بعيد قبل إعلانها، فقد عاصر الإمَـام الحسين عليه السلام زمن معاوية وسياسته، كما عاصر زمن يزيد، وقبل هذه المدّة كان لديه عليه السلام وعياً عميقاً بالمعنى الشرعي للثورة ولثقافتها الشاملة، فقد عاش الإمَـام مع الرسول صلى الله عليه وآله في طفولته وصباه، وكان مشهد المعارضة حاضراً أمامه، وما كان يُعانيه الرسول صلى الله عليه وآله من المشركين أَيْـضاً، ومعاصرته لحكم أبي بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان، والإمَـام علي عليه السلام، ثمّ عهد الإمَـام الحسن عليه السلام الذي نجح في التخطيط السياسي لثورة أخيه الإمَـام الحسين عليه السلام، هذا دليل اليقظة السياسية المبكرة؛ لذا كان الإمَـام الحسين عليه السلام متابعاً للإمَـام الحسن عليه السلام بكلّ خطوة، هذه المتابعة هيأت الشعب المسلم للانتقام من النظام ولو بعد حين، وكانت يقظة الإمَـام الحسن عليه السلام وحدها كفيلة بصنع القرار السياسي وتحقيق الصلاح الديني.
لقد هبَّ على الأرض ربيع ثوري غيّر كَثيراً من المفاهيم، وأسس لكَثير من الثوابت الإنسانية في التاريخ القديم والحديث والمستقبل، إلّا أنّ للمسالة وقفة تاريخية قديمة يشهد التاريخ بريادتها للإمَـام الحسين عليه السلام، تلك هي معركة الطفّ، فالإمَـام عليه السلام «إنّما خرج لطلب الإصلاح في الأُمَّــة، وهو ربيب النبوة، فسيرته في النهضة والإصلاح منهج يُقتدى به، وخطابه ومواقفه تشكل معالم هداية لكل حُرّ غيور على مصلحة أُمّته ومجتمعه».
ولعل أهميّة الغاية التي خرج مِن أجلِها الإمَـام الحسين هي ما جعلته يقدر حجم التضحية المناسبة لتحقيقها وكان ذلك الثمن الباهض لا يساوي شيئاً في نظره مقارنة بالغاية التي سعى وضحى لبلوغها، وأسس قواعد ثقافتها ونشرها وأشهرها للإنسانية كلها على سطح الأرض منذ ذلك اليوم وإلى قيام الساعة وأكبر دليل على ذلك أنه خرج وهو يعلم علم اليقين الهدف الذي خرج مِن أجلِه والثمن الذي يجب أن يدفعه والمصير الذي توجّـه ليلقاه ويومه وساعته، وما يؤكّـد ذلك قوله لأصحابه ليلة عاشوراء والإجَابَة الخالدة التي سطَّرها أصحاب الحسين عليه السلام، إذ وقف الحسين فيهم خطيباً وبين لهم أن القوم يطلبونه فإذا ظفروا به عليه السلام استغنوا عن طلب غيره، فقال لهم: (أَنْتُمْ فِي حَـلّ مِنْ بَيْعَتِي لَيْسَتْ لِي فِي أَعْنَاقِكُمْ بَيْعَةٌ وَلَا لِي عَلَيْكُمْ ذِمَّةٌ وَهَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا وَتَفَرَّقُوا فِي سَوَادِه)، فاجتمع حوله إخوته وبنوه وأصحابه، وأجابوا بكلمة واحدة! لمَ نبقى من بعدك؟
وكأن لسان حالهم أجمع على تحمل المسؤولية الكبيرة، وأن يقدموا أنفسهم بين يدي الحسين عليه السلام مجزرين ومقطعين؛ مِن أجلِ القضية التي تحملها الحسين عليه السلام؛ لتمتزج دماؤهم بدم الحسين الوجيه عليه السلام وليشاركوه في ملحمته فيخلدون بخلوده الكبير وهو ما ناله ونالوه فسلام الله على أبي عبدالله الحسين وعلى أهله وأصحابه أبداً ما بقي ليل ونهار وما تعاقبت الأجيال وتعددت الأمصار.