بعد الحرب العالمية الثانية وفي خضم الصراع مع الموارد المستنزفة جراء الحرب كان لزامًا على تلك الدول البحثُ عن موارد تموِّلُ احتياجاتِها من المواد الضرورية وتحُدُّ من استنزاف مواردها المالية المنهكة.
اتجهت تلك الدولُ إلى الزراعة بشكل كبير، سُمِّيت آنذاك بـ “الثورة الخضراء” أخذت مسارَين أَو هدفين رئيسيين هما تحقيق أمنها الغذائي، ومن ثَمَّ تحقيق فائض من إنتاجها الزراعي للحصول على موارد مالية تمكّنها من تمويل القطاعات الأُخرى مثل الصناعة والخدمات.
فكانت الثورة الزراعية أَو ما يسمى بالثورة الخضراء هي الممول الرئيسي للثورة الصناعية في أُورُوبا.
وهنا قاعدة أَسَاسية يجب أن يرتكز عليها أي اقتصاد في مسالة التنمية الاقتصادية، وهي أن تسبقَ الثورةَ الصناعية ثورةٌ زراعيةٌ تحقّق وتضمن التنمية، وبالتالي النمو الاقتصادي؛ لأَنَّها توفر تكاليف شراء السلع الغذائية، وبالتالي تتجه تلك الأموال الضخمة المخصصة لاستيراد الغذاء إلى تنمية قطاعات أُخرى أهمها الصناعة، إلى أن يستطيع قطاعُ الصناعة تمويلَ نفسه، هذا في الحدود الدنيا للأهداف، إذَا ما سلّمنا بأن الثورة الزراعية في حدود الاكتفاء الذاتي كهدفٍ مرحلي وتحقيق فائض للتصدير كهدفٍ نهائي ورئيسي، ليستمر القطاع الزراعي في رفد وتمويل القطاعات الأُخرى.
وتبقى تحقيق الاكتفاء الذاتي مسألة وجودية؛ كونها ترتبط بالأمن الغذائي الذي لا يقل أهميّةً عن جوانب الأمن الأُخرى، فليس من يمتلك المال قادراً على شراء الغذاء؛ لأَنَّ للغذاء سعرَين: سعر يدفعه المشتري مما يمتلك من موارد مالية، وسعر آخر يدفعه المشتري مما لديه من إرادَة واستقلال سياسي؛ لأَنَّ الغذاء سلعٌ غير مرنة، فلا توجد لها بدائل ولا يمكن الاستغناء عنها.
هنا يجب أن نستشعرَ مسؤوليتَنا في مسألة تحقيق الاكتفاء الذاتي، وأن نعيَ الأهداف التي يحقّقُها أمننا الغذائي ودرجة المخاطر المترتبة في اعتمادنا على استيراد غذائنا من الخارج، فإذا ما وعينا بأهميّة الزراعة ليس على مستوى تحقيق الاكتفاء الذاتي فقط، وإنما على المستوى السيادي أَيْـضاً حتماً سوف نستشعرُ مسؤوليتنا تماماً، كما يستشعر المجاهد مسؤوليتَه في الجبهة العسكرية.
فكُلُّ عامل في الجبهة الزراعية لا يقِلُّ أهميّةً عن المجاهد في جبهات العزة والشرف.