صمود وانتصار

متى يتأخرُ النصرُ عن الأُمَّــةِ المؤمنة؟!

الصمود | الصراعُ بين الإيمانِ والشرك، بين الهُدى والضلال، بين الخير والشر، بين الحق والباطل، صراعٌ أزليُّ منذُ بدءِ الخليقة حتى يرِثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها، صراعٌ ينتصرُ فيه الباطلُ جولةً فيما للحق فيه جولات، والنصرُ وعدٌ إلهيٌّ ناجزٌ للأُمَّـة المؤمنة، لكنّهُ لا يتحقّق إلَّا بشرطٍ إلهي أَيْـضاً لخَّصَه القرآنُ الكريمُ في قوله تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) سورة البقرة الآية (214).

قَـدْ يَتَأَخَّــرُ النَّـصْـرُ؛ لأَنَّ بُنيةَ الأُمَّــة المؤمنة لم تنضُجْ بعدُ نضجَها الكاملَ، لم يتم بعدُ تمامُها، لم تحشد بعدُ طاقاتِها، لم تتحفز كُـلَّ خليةٍ فيها، وتتجمعُ لتعرفَ أقصى ما لديها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصرَ سريعاً حينئذٍ ستفقدُهُ سريعاً؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً.

قَـدْ يَتَأَخَّــرُ النَّـصْـرُ، حتى تبذُلَ الأُمَّــةُ المؤمنة آخرَ ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكُه من رصيدٍ وقدرة، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً، إلَّا وتبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله ومن أجلِ الله.

قَـدْ يَتَأَخَّــرُ النَّـصْـرُ، حتى تجرِّبَ الأُمَّــةُ المؤمنةُ آخرَ قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدَها بدون التمكين الإلهي، بدون التأييد من الله، لن تكفلَ النصر، إنما يتنَزَّلُ النصرُ من عند الله عندما تبذُلُ آخرَ ما في طوقها ثم توكِلُ الأمرَ بعدها إلى الله سبحانهُ وتعالى.

قَـدْ يَتَأَخَّــرُ النَّـصْـرُ، لتزيدَ الأُمَّــةُ المؤمنة صلتَها بالله عَزَّ وجلَّ، وهي تعاني وتتألَّمُ وتبذُلُ ولا تجدُ لها سَنَداً إلَّا الله، ولا متوجَّـهاً إلَّا إليه وحدَه في الضراء، وهذه الصلةُ هي الضمانةُ الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يأذن الله به، فلا تطغى ولا تنحرفُ عن الحق والعدل والخير الذي نصرها اللهُ به.

قَـدْ يَتَأَخَّــرُ النَّـصْـرُ؛ لأَنَّ الأُمَّــةَ المؤمنةَ لم تتجردْ بعدُ في جهادها وكفاحها، في بذلها وتضحياتها لله وحدَه، ولدعوته هو، فهي تقاتلُ إمّا لمغنمٍ تحقّقُه، أَو تقاتلُ حميةً لذاتها، أَو تقاتلُ شجاعةً أمام أعدائها، واللهُ يريدُ أن يكونَ الجهادُ له وحدَه وفي سبيله، بريئاً من كُـلِّ المشاعر الأُخرى التي تلابِسُه.

قَـدْ يَتَأَخَّــرُ النَّـصْـرُ؛ لأَنَّ في الشرِّ الذي تكافحُه الأُمَّــةُ المؤمنة بقيةً من خير، يريدُ اللهُ أن يُجَرِّدَ الشرَّ منها؛ ليتمحَّصَ خالصاً، ويذهبَ وحدَهُ هالكاً، لا تتلبس به ذرةٌ من خير تذهبُ في غمار المواجهة.

قَـدْ يَتَأَخَّــرُ النَّـصْـرُ؛ لأَنَّ الباطلَ الذي تحاربه الأُمَّــة المؤمنة لم ينكشفْ زيفُه للناس تماماً، فلو غلَبَهُ المؤمنون حينئذٍ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذورٌ في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاءُ اللهُ أن يبقى الباطلُ حتى يتكشفَ عارياً تماماً للناس، فيذهبَ جملةً واحدةً غيرَ مأسوفٍ عليه.

قَـدْ يَتَأَخَّــرُ النَّـصْـرُ؛ لأَنَّ البيئةَ لم تتهيَّأْ بعدُ لاستقبالِ الحق والخير والعدل الذي تُمَثِّلُهُ الأُمَّــةُ المؤمنة، فلو انتصرت حينئذٍ للقيت معارضةً شديدةً من البيئة التي انتصرت فيها، فلا يستقرُّ لها معها قرار، فيظلُّ الصراعُ قائماً حتى تتهيَّأَ النفوسُ من حوله لاستقبال الحق الظافِر، ولاستبقائه؛ مِن أجلِ هذا كله، ومن أجل غيره ممّا يعلمُه اللهُ سبحانهُ وتعالى.

قَـدْ يَتَأَخَّــرُ النَّـصْـرُ، فتتضاعَفُ التضحياتُ، وتتضاعَفُ الآلامُ، مع دفاعِ الله عن الذين آمنوا وصابروا ورابطوا وثبتوا، فيحقّقُ لهم النصرَ المبينَ في نهايةِ المطاف؛ ولهذا يتوجَّبُ علينا كأمةٍ مؤمنةٍ تتحَرّكُ في ميدان الجهاد أن نستمرَّ في تقييمِ مستوى علاقتِنا مع الله سبحانَهُ وتعالى، ونعملَ على سدِّ كُـلِّ ثغرةٍ قد تُؤخِّــرُ النصرَ..