الميلادُ المحمدي وأُخرى الجاهليتين
مقالات||الصمود|| د. تقية فضائل
تدورُ الأيّامُ وتعودُ ذكرى المولد النبوي الشريف فوَّاحةً عَبِقَةً بأريج سيرة خير الخلق أجمعين.. ذكرى جهادِه العظيم وصبره الجميل وعزمه على هداية البشرية وانتشالها من براثن الخطايا لتتألقَ إنسانيةُ الإنسان، وتُكَبَّلَ نوازعُ الشر التي تهوي بالإنسان في غيابة جب الخطيئة.
إنها ذكرى مشرقةٌ بنور إلهي يبدّدُ الظُّلمةَ وَينيرُ دروباً معتمةً في أروقة جاهلية شرسةٍ متوحشة تتعدد متاهاتها وَتجمِّلُ ملامحَها مساحيقُ برّاقةٌ مزيّفةٌ فتلف حبالَها شيئاً فشيئاً حول الأعناق التوّاقة للحياة، ثم تصبح أغلالاً إلى الأذقانِ التي تصير مقمَحةً عاجزة عن رؤية الطريق الذي تسير عليه..
جاهليةُ الاتجار بالبشر وقضاياهم ومبادئهم، جاهلية إعادة الإنسان إلى أسفل سافلين بعد أن جعله اللهُ في أحسن تقويم بهداية خير الأنبياء.
ورغم هذه السطوة والجبروت لهذه الجاهلية الرعناء فهي ﻻ تفتأُ تولي على أعقابها مدبِرةً منكسرةً كلما أشرقت ذكرى الحبيب المصطفى -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- وعادت أنفسُنا تتلمَّسُ تلك السيرةَ النبوية العظيمة وتتخذُها نبراساً تهتدي به وترتقي فوقَ الضعف البشري، فمعلِّمُنا وهادينا لم يترُكْ أمراً نحتاجُه إلا وأرشدَنا إليه ولا أمراً يضُرُّ بنا إلا وحذرنا منه، فكان رسولُنا قرآناً يسيرُ على الأرض، فسيرتُه المخضرَّةُ بالعطاء والنقاءِ والإخلاص والتفاني صيّرته حاضراً في حياتنا بل وأدق تفاصيل حياتنا؛ لأَنَّه قرَنَ القولَ بالعمل، فكان ينشُرُ مبادئَ وقِيَمَ الدين ويُطَبِّقُها عمليًّا، ولم يقتصر على تعليمنا شعائرَ الدين وحسب، بل علمنا كيف تكونُ هذه المبادئ والقيم مرتبطةً بسلوكنا على الدوام، فالصلاة والزكاة والصوم والجهاد وغيرها من العبادات تعد روابطَ قويةً تربُطُنا بالله وتقرِّبُنا منه وتجعلُنا أكثرَ ثقةً ومحبةً ومعرفةً به، وهي في ذات الوقت تقوِّمُ سلوكَنا وتجعلُه يستجيبُ لكل ما يؤدي إلى استقامة حياة الفرد والمجتمع وسعادته وَإن لم يحدث ذلك فلا قيمة من التعبد بها بل ستتحول إلى مُجَـرّد أعمال خاوية من جدواها والحكمة التي وضعت لها.. والحبيب المصطفى هو القائد الرباني الذي تحمل على عاتقه مسؤولية حماية الإنسان والحيوان والبيئة والوجود بأكمله حماية روحانية وعملية لم يعرف لها البشرية مثيلاً..
المختارُ بحكمته وَحُسْنِ تعامُلِهِ مع الأمور وحنكته في سياسة دولته حوّل أُمَّـة مشتتةً ممزقةً متناحرةً ﻻ هدفَ لها ولا مكانة تنافس عليها بين الأمم إلى أُمَّــة ذات شأن..
سيرتُه -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- يستحيلُ أن يضُمَّها مقالٌ أَو مجلداتٌ، سيرته تحيا في العقل الجمعي للمسلمين وإن كانوا انحرفوا عنها لأسباب ليس هذا محلها ولكنها السيرةَ التي يطمح الجميع باقتفائها فهي المسيرة المثلى التي تستقيم بها الحياة بشتى جوانبها.