الصمود | ليست المرّة الأولى التي يغرق فيها مركب يحمل “مهاجرين غير شرعيين”، ولن تكون.
لطالما سعى اللبناني إلى الهجرة بحثًا عن مصدر رزق يقدم له ولعياله الكفاف مقابل البطالة ونقص فرص العمل في بلاد الأرز؛ فمنذ القديم واللبناني يركب الأمواج العاتيات ليصل إلى شواطىء أمريكا وأوروبا وأفريقيا، حيث أسس هناك تجارة تحولت لاحقًا عند البعض إلى تجارة عائلية، أو مناطقية، وتأسست جاليات في الانتشار.
في أيام الحرب اللبنانية هاجر الكثيرون، بحرًا وبرًا وجوًا إلى دول “ترانزيت” لينتقلوا منها إلى أصقاع لهم فيها أقارب وبعضهم إلى غربة فعلية، وقاموا لاحقًا بـ”لم شمل” عائلاتهم وتأسيس مجتمع صغير في تلك البلاد.
أما ما يجري في أيامنا فهو أمر مختلف، هو إغراء بالموت المدفوع من فلس الأرملة.
ماذا يجري؟
تشكل الظروف الاقتصادية الضاغطة والتي فاقمها وسارع في وتيرتها وصعّد من حدّتها الحصار العدواني الأمريكي على لبنان، اقتصاديًا وإنمائيًا وصولًا حتى إلى منع استجرار الطاقة ولو بالدين من أي مكان في العالم، فضلًا عما تسبب به أزلام أمريكا من تعدٍّ على حقوق المودعين عبر قوانين تم سنها خصيصًا لاتهام بعض المصارف وإجبارها على الاقفال تحت حجة “تمويل الإرهاب” ونهب أموال الفقراء فيها، فيما تستفيد المصارف المحظية بالرضى الاميركي بهندسات مالية أغرقت صنادقيها بملايين الدولارات، تشكل كل هذه الضغوط حالة من اليأس لدى بعض الفئات المهمشة والمحرومة والمستضعفة في لبنان، خصوصًا أهالي الشمال الذين لم يعد خط الفقر معيارًا لتوصيف حالتهم، بل باتوا بحاجة إلى نقاط قياس تتجاوز كل ما يوصف في هكذا أوضاع، فيكون البحث عن البديل هو أسرع السبل لانتشال عيالهم مما يعانون.
ومع الأسف يأتي تجار الأزمات كالعادة بوعود براقة في حال تم دفع مبلغ معين يكون أحيانًا ثمن أثاث منازلهم، وكل ما يمتلكون، وأحيانًا عبارة عن ديون مؤجلة مع فوائدها على أمل سداد عند الوصول والعمل، مقابل نقلهم إلى دول “مضيفة”، فيصدق هؤلاء البسطاء أن هذه الفرصة هي الأمل، والتاجر المتاجر بهؤلاء وهجرتهم فاجر طماع، يضع على متن مركب التهريب أكثر مما تتحمل قدرته الاستيعابية بأضعاف، فيحصل ما شاهدناه في شواطىء الشمال الحزينة.
من المسؤول؟
هي أميركا. والجواب ليس بحاجة لكثير عناء.
“الحلم الأميركي” الذي يجعل سهولة الحياة أمرًا مطلوبًا، ولا نقول إنه يجب أن يعيش الناس بفاقة، لكن أيضاً لا بد دون الشهد من إبر النحل.
أمريكا تصنع نمط حياة مضللًا، فيما الواقع هو عكس ذلك تمامًا. من قال إنه في لبنان لا يمكن تحقيق مشروع، أو إنه لا فرص عمل؟ لكن التفكير في الضغوط يمنع حتى ملاحظة أن هناك نوافذ مشرعة لحلول ما ليس آخرها ما حققه وزير الأشغال د. علي حمية من إيرادات لصالح الخزينة من مداخيل كانت تنهب لجيوب تجار رقيقنا المنتشل من مياه بحرنا المالحة.
يعاني بلدنا اليوم مثلًا من عقدة الاستيراد المدفوع بالفريش الدولار، وصولًا إلى أكياس النيلون، وشريطة ربطة الخبر. هل تعلمون يا سادة أن هناك مهنًا كانت تستر عوائل قد اندثرت بسبب “نمط الحياة” الجديد الذي تحاول فرضه علينا أمريكا.
كانت بعض العوائل تعتاش من صناعة أكياس الورق، المكونة من بقايا أكياس الأسمنت، وبعض العوائل الأخرى كانت تعتاش من صناعة مساند القش والحصر والبُسط.
وماكنة الخياطة التي كانت تلبّس العائلة والجيران في الحي، وصناعة المربَّيات المنزلية وماء الزهر وماء الورد، وصولًا إلى بسطات الليموناضة التي تشتهر بها مناطق الشمال التي وقعت فيها آخر الحوادث المفجعة في محاولة الهجرة غير الشرعية.
من بدّل حياة الناس إلى هذا النمط؟
هي أمريكا وأزلامها، وحصارها العدواني الاقتصادي الإرهابي على لبنان.
لا تبحثوا عن حلول قبل القضاء على رأس الأفعى في بلدنا. لن تنفع الاستغاثات ولا النداءات ولا التضييق على الإبحار، ولا حديث إشعال شمعة، ومنح صنارة.
القاتل الأمريكي الفاجر مبدع في كل شيء، سيجد حتمًا طريقًا لتجاوز كل ما سيوضع لمنع تكرار ما حدث، وتجّار الأزمات وداعمتهم أمريكا كذلك لديهم أساليبهم. العبرة في حجب هذا الخيار كليًا عبر قطع رأس الأفعى، والبدء بشحن الطاقة اللبنانية بمواردنا، وعدم انتظار الحلول، لا من أمريكا ولا من السعودية. كلتاهما لا تريدان الخير لبلدنا.