الأمريكيون أمام الجلاء الثاني من اليمن
فبراير 2015 جلاء الأمريكيين من صنعاء.. فبراير 2020 سقوط أحلام العودة إلى صنعاء.. فبراير 2023 إنذار الأمريكيين بالرحيل الكامل
الصمود|| تقرير- إبراهيم الوادعي
في فبراير ألفين وخمسة عشر وفي الحادي عشر منه تحديدا، غادرت آخر دفعة من العسكريين الأمريكيين العاصمة اليمنية صنعاء، في مطار صنعاء حطم الجنود الأمريكيون أسلحتهم بعد منعهم من إدخالها إلى المطار وخضوعهم للقواعد المعمول بها دوليا في السفر بما في ذلك السفير جيرالد فايرستاين الذي أُجبر حينها على طلب إخطار من الخارجية اليمنية، وهو وضع لم يكن الأمريكيون يألفونه في اليمن، فقد كانوا هم من يحكمون اليمن فعليا، والسفارة الأمريكية في شيراتون صنعاء تحولت في السنوات الأخيرة إلى مقر الحكم الفعلي يحج إليها من يرغب بقطعة من السلطة أو منصب سياسي .
في العام 2000م وقعت حادثة تفجير المدمرة كول، وفقا للرواية الأمريكية واليمنية الرسمية حينها، يقف تنظيم القاعدة خلف التفجير الذي أحدث ثقبا في المدمرة خلال توقفها قبالة شواطئ عدن، بينما نقل عن مسؤولين أمنيين في جهاز الاستخبارات في حينه قولهم أن الأمريكيين يقفون بأنفسهم وراء تفجير المدمرة كول وأن المتعهد الذي جلب محرك القارب المستخدم في التفجير على علاقة بالسفارة الأمريكية، وذهب المسؤول – الذي أقصي فيما بعد عقب إدلائه بهذه المعلومات – إلى القول أن الأمريكيين كانوا على دراية مسبقة بالعملية وتركوها تمضي حتى النهاية، ذهب 17 جنديا أمريكيا بالنتيجة العملية التفجيرية، ومن هذا المنطلق تجدر الإشارة إلى تشابه ذريعة ملاحقة مفجري كول مع الذريعة التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في غزو كل من فيتنام وكوبا..
تحت ذريعة التحقيق نزل المارينز بكثافة إلى مدينة عدن، أظهرت المؤشرات الأولية رفضا شعبيا يمنيا للتواجد الأمريكي وللاحتلال أيا كان شكله، وذعر الأمريكيون من حجم امتلاك اليمنيين للسلاح.. عانى اليمنيون لعقود طويلة من الاحتلال المتعدد ولديهم عقدة تجاه أي تواجد أجنبي، أدرك الأمريكيون ذلك، واقتنعوا حينها بوجهة نظر عملائهم في السلطة ما أكسب صالح ونظامه مزيدا من الأموال الأمريكية والفرصة للبقاء بماء وجوههم في السلطة .
منذ تفجير كول، تسارعت الخطوات الأمريكية للسيطرة على اليمن، شمل ذلك إجراءات عدة كان أهمها نزع سلاح الجيش اليمني والسيطرة على النخبة السياسية والأكاديمية وفيما الأخير تم شراؤه بالمناصب والأموال، والأول جرى على مراحل حيث دمرت مقدرات الجيش اليمني تماما في الدفاع الجوي، وأطلقت عملية ضخمة متزامنة لسحب السلاح من المجتمع اليمني – تحدثت السفارة الأمريكية في صنعاء وفقا لتقارير منشورة خلال عامي 2000 – 2005م عن وجود 50 مليون قطعة سلاح ما بين ثقيل ومتوسط وخفيف في اليمن، واعتبرتها أحد أهم العوائق للتنمية، تسلم نظام صالح في حينه ما يزيد عن 200 مليون ريال يمني – 215 للدولار – للعمل على سحب السلاح المتوسط والثقيل من أيدي القبائل اليمنية.
عقب العام أحد عشر وما رافقها من فوضى نتيجة الصدام الدموي بين شقي نظام الخائن صالح، سرّعت الولايات المتحدة من خطط السيطرة على اليمن، فدفعت بالخائن هادي الذي كان نائبا مهملا إلى رأس السلطة، وظهر الدور الأمريكي أكثر على السطح، توزعت الدول الغربية إدارة الملفات السيادية اليمنية، فأمسكت الولايات المتحدة بملف الجيش، وأمسكت بريطانيا بملف تقسيم اليمن إلى أقاليم وفرنسا ملف إعادة صياغة الدستور، وتولى الألمان ملف الاقتصاد، وسلم لروسيا ملف الحوار .
ومن خلال هذا التوزيع الذي باركت سلطة هادي العميلة وسوق لدى الشعب كإنجاز يظهر الاهتمام الدولي، استكملت الولايات المتحدة تحت عنوان إعادة هيكلة الجيش اليمني خططها في تحضير الأرضية للتواجد والسيطرة الأمريكية المباشرة، إعادة الهيكلة وصفها نائب رئيس حكومة الإنقاذ الوطني لشؤون الدفاع والأمن الفريق الركن جلال الرويشان، بالخطة التدميرية للجيش والبعيدة كليا عن إصلاح الجيش والبعيدة عن الواقع، وأضاف: عانينا ولا نزال من تبعاتها التدميرية داخل الجيش، لافتا إلى أن الصراع السياسي الذي كان قائما سهل تمرير الخطط الأمريكية ولم تصدر أي من القوى السياسية تحذيرا من خطورة تدمير الجيش على مستقبل اليمن .
وبينما مضى مشروع الهيكلة الأمريكية في مساره، جرى استهداف الجيش بعدة صور حيث قتل ضباطه وجنوده في الشوارع واستهدف سلاح الطيران بشكل خاص فيما جرى الإجهاز نهائيا على آخر صواريخ الدفاع الجوي بدعم من أجهزة الاستخبارات التي سيطر عليها الأمريكيون بشكل تام.
وخلال السنوات من 2012 وحتى 2014م تحول النظام السياسي برئاسة الخائن هادي إلى أشبه بإدارة تنفيذية للرؤية الأمريكية والسفير الأمريكي المقيم في شيراتون، وبدأ الأمريكيون في إنشاء أول قاعدة للمارينز الأمريكي جوار السفارة الأمريكية، انتزع الأمريكيون فندق شيراتون المطل على العاصمة صنعاء وحولوه إلى ثكنة عسكرية ونواة لقاعدة أمريكية متكاملة في صنعاء، وأخذ الجنود والمعدات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية تتدفق على العاصمة صنعاء وقاعدة العند – أنشأها وشغلها الروس لعقود قبيل العام 90 م وتوحيد اليمن – وهي اكبر قاعدة جوية وعسكرية في اليمن .
وبالعودة إلى مشهد الـ 11 من فبراير 2015م، بعد نحو 5 اشهر من انتصار ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر عقب ثورة 21 سبتمبر 2014م التي أنهت المشهد الفوضوي في سدة الحكم، وأعادت القرار يمنيا خالصا، أدرك الأمريكيون أن الوضع تبدل تماما لغير صالحهم، وأن مشاريعهم التي عملوا عليها منذ 15 عاما تنهار أمامهم بفعل الثورة الجديدة والتي لم يكن بالإمكان السيطرة على قيادتها رغم المحاولات التي بذلت لاستمالتها بالمال والثروة – ذهب وفد من هادي ليعرض على السيد عبد الملك حصة من السلطة والثروة يديرها كيفما شاء، لكن عروض الوفد وأطروحاته قوبلت بالاستهجان – فكان قرار المغادرة بشكل انهزامي في 11 فبراير، واتخاذ القرار بشن معركة على صنعاء من خارجها بعد أن كانت المعركة تدار من داخلها على الشعب اليمني.
عقب مغادرة الأمريكيين من صنعاء وقاعدة العند بنتيجة وصول الثوار إلى هناك، وقع العدوان في 26 مارس، وأعلن من واشنطن، وخلال سنوات جرى قصف اليمن بملايين القنابل والصواريخ والقذائف، دون أن ينجح الأمريكيون في العودة إلى صنعاء.
ومع تبدل وضع الميدان العسكري لصالح صنعاء وثوار سبتمبر في فبراير 2020م عقب عملية البنيان المرصوص، أدرك الأمريكيون استحالة العودة إلى صنعاء في ذاك الوقت، لذا شرعوا بتشديد الحصار وشن الحرب الناعمة أملا في إحداث خلخلة من الداخل للتمكن من العودة إلى صنعاء والسيطرة الكلية على القرار اليمني واستكمال مشروع التفتيت كما كان قائما وهي وإن كانت طريقا تبدو أطول قليلا لكنها الخيار المتبقي أمام الساسة والقيادة الأمريكية، وبالتزامن جرى الانتقال إلى الأهداف الجزئية في السيطرة على اليمن وهي النزول بالمارينز على الساحل الجنوبي لليمن بعيدا آلاف الكيلومترات عن صنعاء .
تتواجد القوات الأمريكية والبريطانية في مطار الريان الذي تحول إلى ثكنة عسكرية، وقواعد أخرى أنشئت بمطار الغيضة وبلحاف شبوة، ولم يكشف بعد مدى حجم تواجدهم الفعلي في عدن والمخا وباب المندب والجزر اليمنية تحت غطاء إماراتي، ويبدو أن هذا التواجد بات مهددا أيضا ولا تخفي صنعاء موقفها من كل التواجد على امتداد المناطق اليمنية.
في فبراير 2023م أطلق السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، شرارة حرب التحرير، وأكد بشكل واضح عدم القبول بأي شكل من أشكال التواجد الأجنبي على الأرض اليمنية، وبشكل مباشر وغير معهود خاطب السيد عبد الملك بلغة الإنذار القوات الأمريكية ومن يتبعها من قوات بريطانية وفرنسية وسعودية وإماراتية سماها بوجوب الرحيل .
وبناء عليه يمكن القول إن الأمريكيين أمام الجلاء الثاني وهذه المرة من كل الأرض اليمنية بعد أن أجلوا من العاصمة صنعاء في فبراير ألفين وخمسة عشر، وما يؤذن بأفول عهد السيطرة الأمريكية على اليمن -البلد الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، واقعا لا يمكن الجزم بخلافه – أن ثورة 21 سبتمبر استطاعت الصمود 8 سنوات بوجه حرب أمريكية سعودية غير مسبوقة، بل وقلبت الموازين العسكرية والسياسية لصالحها حيث يستجدي المعتدون في مسقط التهدئة وفق شروط لا تضعهم بموقع المنهزم وتحافظ على ما تبقى من تواجد في أقاصي اليمن .
وبشان تنفيذ التهديد بترحيل الأمريكيين، ثمة دليل قائم، فمن يستطيع الوصول إلى موانئ تصدير النفط والغاز اليمني البعيد آلاف الكيلومترات عن صنعاء ومنع سرقته من قبل السعوديين والأمريكيين ويضرب بشكل دقيق “حنفية” النفط، ويجبر الأمريكيين والفرنسيين على التوقف رغم الحاجة الماسة نتيجة تداعيات حرب أوكرانيا، حتى سرقات ما تسمى قوات العمالقة والمرتزقة البدائية آبار النفط يتتبعها، يمكنه بذات القدر من الدقة والقدرة وما يحمله من مفاجآت، والاهم من ذلك التأييد الشعبي العارم والذي ظهر جليا في مسيرات الجمعة الماضية بالعاصمة صنعاء وعلى امتداد المحافظات والمناطق اليمنية مساندة لخيارات القائد، جميع ذلك يمكنه أن يجعل الأرض تميد تحت أقدام الجنود الأمريكيين وإن كانوا على بعد آلاف الكيلومترات من صنعاء وتستحيل جحيما، ويستحيل عليهم البقاء والاستقرار .