الصماد.. الشهيد الذي لن يموت
الصمود|| مقالات||
لم أتشرف بلقائه يوما، لكني كنت أتابع أخباره وتحركاته من خلال ما تنقله عنه وعن أنشطته وسائل الإعلام.. وما سمعته عنه وعن مواقفه وتواضعه من بعض الذين عرفوه عن قرب.. لكن كل هذه المعلومات التي تجمعت عندي عن هذا الثائر الوطني لم تؤثر بقناعتي بقدر ما أثرت فيها متابعتي لخطابات وتصريحات الرجل ومواقفه ورؤيته للدولة والدور المفترض أن تؤديه، ناهيكم عن بساطة الرجل وتواضعه والتي أعادت للذاكرة سيرة الشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي..
الشهيد الرئيس صالح الصماد لم يكن مجرد شخصية وطنية يمكن مقارنتها بالكثير من الشخصيات الوطنية المناضلة، بقدر ما كان يمثل بكارزميته شخصية استثنائية كنا قد اعتدنا على فقدانها من مسارنا الوطني بكل ما تعتمل فيه من مظاهر السلوكيات النرجسية ونزعات الانتصار للذات في مجتمع تحول خلال ثلاثة عقود من عمر انفتاحه الحضاري إلى مجتمع تتقاذفه الرغبات الذاتية وتعنون مساره الثقافة المادية بكل مظاهر الانتهازية والفهلوة والرغبات في تكريس الذات الفردية وإن على حساب قيم وأخلاقيات كانت عالقة في أغوار الوجدان محاصرة بكل مفردات القهر..!
الشهيد الصماد برز من بين غبار العدوان والحصار ومن رحم أزمة وطنية تلطخت بأطياف (سريالية) وكأنها تعبير عن ولوجنا والوطن والأزمة والتداعيات دائرة العبث القدري المحكومة تداعياتها ( بدروشتات الارتهان والتبعية) والتسليم المطلق بخيارات محاور الارتهان، جاءنا الرجل في لحظة استكانة قدرية معفرا بتراب الوطن، ومعبرا عن أحلام وتطلعات غالبية مقهورة تتقاذفها رغبات ترويكا الانتهازية السياسية لرموز ونخب اختزلت الوطن في ذاتها، وفيما كانت النفوس المترعة تكتوي بحسرات القهر، فجأة وجد أصحابها أنفسهم أمام شخصية بدت وكأنها أسطورية، أو قادمة من زمن المثاليات الثورية والزهد النضالي النادر في زمن الابتذال السلوكي، اعتدنا على التعاطي معه كأمر واقع بعد مخاض مؤلم عشناه والوطن وأحلامنا، التي تحطمت وتكسرت في تجاويف النفوس المكلومة..
كانت (البدلة السفاري) البسيطة التي حاكتها آلة (مصنع الغزل والنسيج) التي ظهر بها بمثابة (ناقوس) أيقظت ( دقاته ) نوازع خفتت، وأحيت بصداها أحلاما كادت تداعيات الزمن والأحداث أن توشك على نسيانها..
فكان الشهيد (الصماد) بحضوره ومواقفه ودماثة أخلاقه وزهده وتنكره لذاته، بمثابة أنشودة حياة، قلبا نابضا بعشق الزمان والمكان الوطنيين، وشريانا بعنفوان الأمل والحرية والكرامة، له منابع دافقة تسري إلى مستقر لها، وجدان أثيري تسكنه فضاءات وأمكنة تمتد بامتداد الجغرافية الوطنية، إنه ذلك النهر الصادق الواثق الدائم الإخصاب للمعاني، وحامل القلب الذي لا يتوقف، وذلك العطاء الذي لا ينضب لوطن تترامى أطرافه عشقا حتى بعد ارتقائه شهيدا، فيستوطن الشجر والحجر، ويتقمص الحرف على مرمى البصر على مر الأثر، متسلحا بكارزمية ثورية تعيد للأذهان أسطورة (تشي اللاتيني) فإذا ما أو غلنا في تاريخنا بحثا عن قرين ندى، فلن نجد له مثيلا إلا ثائرا (كربلائيا ) هزم دمه (سيوف الطغاة) في ملحمة انتصار الحق على الباطل..!
جسد في كل مواقفه إرادة شعب ومثل حضوره ضميرا وطنيا نقيا بزهده، طاهرا بشفافية تجبر خصومه على الانحناء أمامه تقديرا وتبجيلا لقيم يحملها، ومثل يسعى لتكريسها، ليعيد بها ومن خلالها إعادة ( حياكة) مكارم الأخلاق في وطن لوثته ألوان الكيد ولبدت سماءه غيوم أزمنة القبح..!
كان استثنائيا برؤيته للسلطة، مؤمنا بأنها (مغرم لا مغنم).. كان بمثابة عاصفة أخلاقية حملت معها أنقى وأرقى المفاهيم النضالية المجردة من نزعان (الأناء) ومن أدران الانتهازية السلوكية كان الأطهر..
بل كان الحقيقة التي ستظل حاضرة في سماء الوطن وذاكرة أبنائه، وكان الضمير الوطني الحاضر دوما، وهو الشهيد الذي لن يموت.