الشمس لا ترحل ولكن تذهب للجانب الآخر لتضيء للآخرين.. كما تضيء لنا حياتنا بإشراقاتها العلمية
الصمود|| مقالات||عبد الرحمن الأهنومي
حين طلبت من الكثير ممن عرفوه وعاصروه وغرفوا من علمه الكتابة عنه يتلعثمون قائلين “نشعر بقصور كبير عن أن نكتب فنوفِّي فقد كان الإمام مجد الدين سلام الله عليه عملاقًا يتضاءل بجانبه كل مارد ويعجز قلمٌ أو لسانٌ أن ينصفه بين الناس أو يوفِّيَه حسابَه ونحن حين نذكره كإمامٍ للجيل نذكر معه حديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: “إن الله ليرسل لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها أمر دينها” نجد أن الإمام مجد الدين يبزّ أقرانه من أئمة القرون ويفوقهم ويرتفع فوقهم درجات من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.
قيل قديماً ” ليس للعظمة مقياس خاص فقد يكون العظيم عالمًا أو فاتحًا أو مخترعًا أو مربيًا روحيًّا أو زعيمًا سياسيًا ولكن أجدر العظماء بالخلود هم الذين يبنون الأمم وينشئون الأجيال ويغيرون مجرى التاريخ والإمام مجد الدين المؤيدي كان أحد هؤلاء الخالدين فكلما باعدت الأيام بيننا وبين يوم وفاته ازدادت شخصيته وضوحا وإشراقا وإثارة نورا وبهاء إنه كاللوحة الفنية البديعة كلما ابتعدت عنها محملقا في روعتها كلما وضح أمام ناظريك رواؤها ودقة الإبداع فيها إنه مجدد الزيدية ومحيي روحها المتجددة صاحب دستور :
( قَسَمَاً بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيْرِ، قَسَمَاً يَعْلَمُ صِدْقَهُ الْعَلِيْمُ الْخَبِيْرُ أنْ لا غَرَضَ لَنَا وَلا هَوى غَيْرَ النُّزُولِ عِنْدَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوُقُوفِ عَلَى مُقْتَضَى أَمْرِهِ، وَأَنَّا لَو عَلِمْنَا الْحَقَّ فِي جَانِبِ أَقْصَى الْخَلِقِ مِنْ عَرَبِيٍّ أَوْ عَجَمِيِّ، أَو قُرَشِيٍّ أَوْ حَبَشِيِّ لَقَبِلْنَاهُ مِنْهُ، وَتَقَبَّلْنَاهُ عَنْهُ، وَلَمَا أَنِفْنَا مِن اتِّبَاعِهِ، وَلَكُنَّا مِنْ أَعْوَانِهِ عَلَيْهِ وَأَتْبَاعِهِ، فَلْيَقُلِ النَّاظِرُ مَا شَاءَ، وَلا يُرَاقِبْ إلاَّ رَبَّهُ، وَلا يَخْشَ إلاَّ ذَنْبَهُ، فَالْحَكَمُ اللَّهُ، والْمَوعِدُ الْقِيَامَة، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)
مجد الدين..الهوية الزيدية المعاصرة
ولد الإمام مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي عام 1332هـ ، بالرضمة من جبل برط من أسرة عريقة في العلم والسياسة والده محمد بن منصور المؤيدي كان عالماً مبرزاً كما كان شخصية مقربة من الإمام المهدي محمد بن القاسم والدته “أمة الله” ابنة الإمام المهدي نفسه برز علمياً في مرحلة مبكرة من شبابة عاش مع والده وأسرته في مسقط رأسه بالجوف لينتقل مع أسرته إبان الستينيات آوان الحرب اليمنية بين الجمهوريين والملكيين, إلى نجران في جنوب السعودية ليستقر بها, وهنالك أحاط به طلاب العلم، ثم انتقل إلى الطائف ، فما زال يَتَنَـقَّل بين نجران والطائف وجدة والرياض ومكة والمدينة وصنعاء وصعدة.
عاش شبابه آوان حكم الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين لليمن وسجلت بعض المواقف له معارضة لأحمد حميد الدين فسرت أنها كانت من باب النصح والإرشاد ، وثمة تفسيرٌ شائع بأنه لم يكن يعترف في الأساس بأهلية الإمام أحمد للحكم..
التحول الكبير الذي طرأ مع ثورة سبتمبر 1962 .. وضع كل علماء الزيدية تحت طائلة امتحان عسير ؛ عشرات منهم تمت تصفيتهم جسدياً ، بعضهم وضع رهن الاعتقال ، وآخرون تركوا رهناً للمراقبة وتضييق الحركة..
بعد ذلك وجد الإمام مجد الدين المؤيدي نفسه أمام مهمة جسيمة للحيلولة بين الزيدية بعد 26 سبتمبر وبين المصير الذي آلت إليه الزيدية في العراق والجيل والديلم لكنه خاض معركة وقائية أثمرت زيدية حية متجددة حفظ بذلك مسار المذهب الزيدي واستطاع أن يتجاوز به محطة مهمة ومفصلية لربما كانت نهايته فيها.
بقراءتنا لنظرياته التي تتميز بالروح العقلانية والواقعية العلمية والتي استطاع من خلالها أن ينتج ثقافة منفتحة على الثقافات الأخرى وفي نفس الوقت لم يهمل التراث الزيدي فنجد أن من أوائل مؤلفاته هو التحف.. شرح الزلف.. دون فيه سير وتاريخ أئمة الزيدية بدءاً بالإمام علي بن أبي طالب وانتهاءً بالإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى بن حميد الدين.
استمر في نهجه المعرفي للحفاظ على الكيان الزيدي عقود من الزمن واستطاع أن يحقق عملية بعث قصوى للتراث الزيدي بذلها خلال عقود أثمرت كتبا وموسوعات ورسائل استقصت كل المقولات والعقائد الأساسية والثانوية داخل هذا التراث وكان مدركاً أن تلك اللحظة التحولية تفرض عليه التوثيق وإعادة إحياء قيم وأفكار المدرسة العريقة حفاظا عليها من الاندثار وتسهيلاً لنقلها عبر أجيال جديدة قادمة.
من هنا ألف موسوعاته في الفكر الزيدي من مثل “التحف شرح الزلف” لوامع الأنوار في جوامع العلوم والآثار وتراجم أولي العلم والأنظار” و ” مجمع الفوائد المشتمل على بغية الرائد وضالة الناشد ” وعيون المختار من فنون الشعر والآثار” وغيرها .
بالتزامن مع هذا الجهد قاد حركة تدريس عريضة في صعدة ، الطائف ، ونجران ، وهناك في صعدة وحدها 3 أجيال من العلماء تخرجوا على يديه أو على يد تلاميذه ، وجميعهم يملكون الآن تأثيراً بالغاً في الجمهور الزيدي.
سياسياً حافظ على انسحابه من الحياة السياسية في العقود الأولى لما بعد 26 سبتمر مستمراً في اتجاهه المعرفي والعلمي ومستعيداً في هذا السياق ممارسة تاريخية لأئمة الفقه والفكر الزيدي التي حدثت أثناء حكم الخليفة عمر بن عبد العزيز مثلاً.
الحكم العادل:
قال الكاتب و الصحفي محمد عايش أن الإمام استطاع أن يحل معيار “الحكم العادل” محل معيار أحقية الخلافة مستفيداً بذلك من تعايش ائمة المذهب الزيدي تأريخياً مع من حكموا بالعدل وبذلك أوجد انفتاحاً زيدياً على النظام الجمهوري ليأتي عام 90 الذي أعلن فيه قيام الوحدة وتبني الجمهورية اليمنية الديمقراطية وإطلاق التعددية الحزبية والحريات كل ذلك قوبل باستجابة واضحة من قبل الإمام مجد الدين المؤيدي كما بقية العلماء للإنخراط في العملية السياسية وبالتالي تبلورت فكرة تأسيس حزب الحق لدى العلماء في صنعاء وطُرحت على العلامة المؤيدي في صعدة وكان ذلك بمثابة تحصيل حاصل لجهوده في الفترات السابقة كما قال “محمد عايش” ليكون اسمه على رأس قائمة المؤسسين وتولى بعد إشهار الحزب رئاسة هيئته العليا والذي كان من أهم مبادئه السياسية هي العمل على ترسيخ النظام الجمهوري وبناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة بما يتفق مع مبدأ الشورى في الإسلام ووفقاً لمبادئ الثورة اليمنية.
مؤسس الصحوة الزيدية:
استطاع الإمام الراحل مجد الدين المؤيدي أن يوجد صحوة زيدية مستفيدة من الإنفتاح السياسي لم تقتصر على صعدة وحدها بل امتدت إلى معظم الرقعة الجغرافية اليمنية.
كان رحمه الله صاحب رسالة وكان موفَقاً كل التوفيق حيث لمس حقيقة الداء وعالجه بأنجع دواء حتى إذا ما وافاه الأجل المحتم كان قد بلغ الآلاف المؤلفة وقابل ربه بنفس راضية مطمئنة أثابه الله بقدر نفعه للوطن وللمسلمين وأسكنه فسيح جناته..
رحيل الشمس:
قد نقول رحيل الشمس مع أن الشمس لا ترحل بل تذهب للجانب الآخر لتضيء للآخرين كما أضاءت لنا حياتنا بإشراقاتها العلمية ..
صعدت روحه الطاهرة المباركة الزكيّة مغرب يوم الثلاثاء السادس من شهر رمضان الكريم لعام 1428هـ..
قالوا عنه:
القاضي والعلامة/عبدالله بن محمد الشاذلي يتحدث ألينا بعد طلبنا منه أن يقول ما يراه في هذا الإمام قائلا :
الانسان يتلعثم عند الكلام عن مثل هذا العلم الشامخ ويتحير من اين يبدأ وما يقدم وما يؤخر لا لقلة ما يعرفه الإنسان عن هذا الإمام ولكن حياء من الله ومن الناس أن لا يوفي هذا الإمام حقه ولكني تذكرت أن توفيت حقه ليس أمراً سهلاً ولا ممكناً كيف لا وأخلاقه تذكرك الأخلاق المحمدية وعلومه تدعوك إلى الإنقياد إليها شئت أم أبيت لشدة أحكام الأدلة التي يستدل بها وظهور الإنصاف الشديد مع الخصوم وشدة التحرز من الوقوع في الباطل وجودة الفكر عند المناظرة حتى لقد أجبر مخالفيه قبل محبيه على إجلاله وتعظيمه.
ويواصل كلامه قائلاً شغف بالعلم حتى صار لا يفرغ شيئا من أوقاته لغيره وحتى قدمه على طعامه وتنزهاته من جلس معه لم يرد مفارقته وكان جليسه في رياض الجنة التي لا يرد التحول عنها ترى في عينيه شوقاً إلى من يلقي إليه بالعلوم التي تحملها يكاد أن يقفز من السرور لرؤية طالب مجد تتبين السعادة في وجهه عند ما يرى كتاباً قدرطبع أوعلماً قد نشر أو إشكالاً قد حل أو شبهةً قد فضحت ، ملئت كراماته أيام حياته فقل من له صحبة له إلا وقد رأى منها الكثير الطيب.
الدنيا عنده لاشي لم يلتفت إليها ولم تره يعرها هي ولا أهلها أي اهتمام يذكرك بزهد العارفين وعبادة المستبصرين وورع الخائفين وخشوع المقربين يصغر بين يديه كبار الدنيا وزعماؤها وتدين بتعظيمه وإجلاله ترى العلماء عنده تلالاً عند جبلٍ وأقزاماً عند عملاق والقوم والقرآن فاعرف قدرهم ثقلن للثقلين نص محمد ولهم فضائل لست أحصي عدها من رام عد الشهب لم تتعدد وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين.
أما الكاتب الأستاذ: عبدالكريم الخيواني لم يزد على أن قال :
((فكرةٌ.. تتهاوى أمامه كل الأفكار)
الأستاذ محمد أحمد مفتاح يكتب عنه عبارات قلائل ويقول :
كان نهج الإمام مجد الدين هو (إحياء نهج البحث والتحقيق والتعامل الحكيم والتفاني في خدمة العلم)
ويقول الباحث والمحقق الأستاذ المرحوم عبدالسلام الوجيه :
(كان الإمام في قمة العلم والزهد والتواضع والورع والإخلاص وبحر لا ينضب ومثال للصفاء والنقاء وإمام من ائمة آل البيت الكرام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) فسلام الله عليه يوم ولد يوم مات ويوم يبعث حياً..
سلام الله عليك وسلامه يا سيدي يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حياً.. لمست حقيقة الداء وعالجته بأنجع دواء يا من بفضله أعدت الحياة لتراث كاد يسحق ويلتهم من قبل أعداء الفكر والعلم والمعرفة أوجدت جيلا متسلحاً بالعلم والمعرفة يقود الأمة إلى بر الأمان ستبقى أنت الروح الحية والمتجددة لفكر أجدادك زيد بن علي والهادي يحيى عليهم السلام..
و يقول الكاتب الصحفي علي جاحز عن الإمام مجد الدين المؤيدي :
كان إمام هذا العصر الفقير إلى إمام ، أغنى اليمن بشخصه و علمه و فكره عن الاستجداء العلمي و الفكري ، و استطاع ان يقف بوجه مرحلة ملئت مؤامرات كانت تريد أن تنقض على المذهب الزيدي في اليمن ، بحكمته أحاط الزيدية بأسوار منيعة و بعلمه استطاع أن يعيد للمذهب اعتباره ..
الإمام مجد الدين المؤيدي رحمه الله لايزال مرجعا للعارفين و ملاذا للسائلين و منبرا للفصحاء و المتحدثين و نظرة ثاقبة في شئون الدنيا و الدين ، نقرأ من خلاله التاريخ و نستنير بضوئه لقراءة الحاضر و نستشف من فراسته الغد الغامض ..
رحمة الله شملته و أسكنته فسيح الجنان .