صمود وانتصار

(نص) الدرس الرابع للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الحسن عليهما السلام

الصمود|

                                            أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

                                               بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

 

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

 

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.

أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛

تحدثنا بالأمس على ضوء الجمل المهمة والمفيدة من الوصية الخالدة والمباركة لأمير المؤمنين علي “عَلَيهِ السَّلَامُ” إلى ابنه الإمام الحسن “عَلَيهِ السَّلَامُ” على ضوء قوله “عَلَيهِ السَّلَامُ” ، ((وَأْمُرْ بالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْكِرِ المُنكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ، وَبَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ، وَجَاهِدْ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ))، وبيَّنَّا بعضًا من النقاط المهمة المتعلقة بهذه العناوين، مسؤولية الأمة تجاه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجاه فريضة الجهاد، في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأهمية ذلك للأمة نفسها في صلاح حالها، في صلاح دينها ودُنياها؛ لأن هذه المسؤوليات هي تعود إلى واقع الأمة، لإنقاذها من الشر، لإنقاذها من الفساد، لإنقاذها من الظلم، لإنقاذها من أعدائها، لحمايتها منهم، ومن شرهم، ومن ظلمهم، ومن بغيهم، الدين بكله والمسؤوليات التي فيه، هي تتجه إلى الإنسان لإصلاح نفسه وإصلاح واقع حياته، أما الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” فهو غني، غني عنّا، غني عن أعمالنا، ولهذا مع أن العنوان للجهاد هو (في سبيل الله)، و(في الله) عنوان أبلغ وأعمق، لكن ذلك بكله يعود لمصلحة الإنسان كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت: 6]، وكما قال أيضًا عن الجهاد في سبيله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[العنكبوت: من الآية 16]، كما قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 216]، فالأمة من خلال هذه المسؤوليات المهمة تحظى بالمنعة، بالعزة، بالقوة، بالكرامة، تتحرر بالمفهوم الصحيح، والحقيقي، والواقعي، من سيطرة الأشرار، والطغاة، والمجرمين، والظالمين، والمفسدين في الأرض، وهذا من أحوج ما تحتاج إليه الأمة، والعكس من ذلك هو السبب في معاناتها، عندما تفقد المنعة، والقوة، والعزة، والكرامة، والحرية الصحيحة، تتحول حياتها إلى معيشةٍ ضنك، إلى واقع مظلم وسيئ، واقع ممتلئ بالمظالم والمفاسد، واقع تكون فيه مستباحة أمام الأشرار، أمام المجرمين، والطغاة، والظالمين، وهم يستهدفونها في دنياها، حتى عندما يحاولون أن يستهدفونا في ديننا؛ لأنهم يعرفون ما يمثله لنا ديننا، وما له من أهمية في حمايتنا، في أن نكون إذا تمسكنا به بشكل صحيح، وبشكل متكامل، في منعة، وعزة، وتحرر من سيطرتهم، من نفوذهم، من تأثيرهم، من هيمنتهم، من خداعهم، من تضليلهم، وهذا هو ما يزعجهم تجاه الدين؛ لأنهم يريدون أن يستحوذوا على الأمة، وأن يستحوذوا على ما تمتلكه من ثروات، من إمكانات، من مقدرات، فيرون في الدين بمفهومه الصحيح والمتكامل عائقًا أمامهم، يرون في الدين بما فيه من تلك المسؤوليات المهمة: مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في الله حق جهاده، مسؤولية القسط وإقامته، كل هذا يمثل عائقًا أمامهم، فيحاولون أن يبعدوا الأمة عن ذلك؛ لكي يسهل عليهم هم السيطرة على الأمة.

 

عندما قال أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((وَلَا تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ))، نجد أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بيّن عن خِيرة عباده، الذين يكونون في مرحلة الارتداد التي تنتشر في واقع الأمة، تسود في واقع الأمة إلى حد كبير، تطغى في واقع الأمة، يكونون هم الفئة الثابتة المتمسكة بمبادئ دينها الأساسية، بتعاليمه المهمة، بمنهجه بشكل صحيح، عندما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}[المائدة: 54]، تحدثنا بالأمس عن اللوم، وعن تأثيره على الكثير من الناس، واللوم أنواع كثيرة، وبعناوين كثيرة، وبأساليب كثيرة، ومن جهات متنوعة ومتعددة، ولهذا أتى هذا التعبير {لَوْمَةَ لَائِمٍ} في الآية المباركة، وفي هذا النص من كلام أمير المؤمنين علي “عَلَيهِ السَّلَامُ”؛ ليشمل كل اللوم، كل أنواع اللوم، سواءً كان من يلومك شخصية باسم أنه شخصية دينية، أو شخصية سياسية، أو وجاهة اجتماعية، أو قريب، أو بعيد، بعنوان شخصية مثقفة، أو بأي عنوان كان، جهات أو أشخاص، أي لومةٍ كانت، أحيانًا قد تكون اللومة باسم فتوى، فتوى شرعية دينية، أحيانًا قد تكون عبارة عن هجمة إعلامية دعائية، وهكذا يتنوع اللوم، وتتنوع أساليب اللوم، مفردات اللوم، طرق اللوم.

 

الإنسان المؤمن عليه أن يدرك أن هذا هو أسلوب من الأساليب التي يحارَب بها من يتجه الاتجاه الصحيح، وبالتالي لا تكون مسألة مفاجئة له، تهزه في قناعاته، تهزه في ثباته على موقفه، تضغط عليه للتراجع عما هو فيه، أو للتنصل مما هو فيه من الموقف الحق، الذي انطلق فيه على أساس من هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، على بينةٍ من ربه، على هدى من الله، على حقائق وأسس واضحة، هذه المسألة مهمة جدًا؛ لأنه ملحوظٌ في واقع الناس، حتى في أوضح القضايا، وأبين الأمور، لا يسلم الإنسان من اللوم، في هذا الزمن يُعاب الإنسان ويُلام، حتى على تمسُّكه بالأسس والثوابت المعروفة في الإسلام بشكلٍ عام بين كل أبناء الأمة الإسلامية، يُلام على ذلك، في تبنِّيه وتمسكه بالمواقف الصحيحة، التي من الواضح صحتُها، ليست غامضة، لا تشوبها حالة من الشك، أو الغموض، أوضح القضايا.

 

الآن يلام الشعب الفلسطيني، يلام حتى من الساحة العربية، يلام حتى ممن ينتمون إلى الإسلام، في تمسكه بقضيته، هذه القضايا التي هي من أوضح القضايا، كم وجِّه من اللوم لشعبنا العزيز، وهو يدافع عن نفسه، وعرضه، وأرضه، وكرامته، وحريته، واستقلاله، وجِّه اللوم إليه من حكومات، وأنظمة، وشخصيات دينية، من الأزهر ومشايخ في الأزهر، من مختلف الجهات، وجِّه إليه اللوم، ولم يوجَّه اللوم إلى المعتدي، المجرم السفاك للدماء، الذي قتل الآلاف من الأطفال والنساء، لم يوجهوا إليه اللوم!.

 

فعلى الإنسان أن يكون مدركًا لهذه المسألة أساسًا، أنه في اتجاهه الصحيح على أساس هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي المواقف الحق، الواضحة البينة القوية، ستوجَّه إليه حرب دعائية وسيواجَه حالة اللوم من كثير من الناس ومن الأطراف، البعض في أقل الأحوال يستخدم الترهيب والتخويف، يقول لك: [صح أنت على حق، وهذا موقف حق، لكن لا يمكنك أن تنجح، لا يمكنك أن تصل إلى تحقيق هذا الهدف الحق، لا يمكنك أن تثبت على هذا الموقف الحق، ليس أمامك من حل إلا أن تتراجع]، أساليب اللوم كثيرة، منها: ما يدخل في إطار التخويف، وفي إطار التشكيك في الموقف من أساسه، ومنها أساليب الترغيب، ومنها أساليب التيئيس، ومنها أساليب كثيرة، على الإنسان أن يكون مدركًا لذلك، وأن يحسب حساب ما بينه وبين الله، ما الذي يريده الله مني؟ هذا هو المهم، ما الذي يرضي الله عني “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ما هو الموقف الذي وجهني الله إليه، أرشدني إليه، أمرني به، وهو الموقف الحق، وهو الموقف الذي لا ينبغي أن أتحرج منه؛ لأن البعض من الناس إذا لم يكن إيمانه بالحق وقناعته به بالشكل المطلوب، مع زكاء نفس، فإنه يتحرج حتى من تمسكه بالأمور- كما قلت- الواضحة جدًا.

 

ثم واضح على مستوى مواقف، أو على مستوى مبادئ، أو على مستوى قيم وأخلاق، لاحظوا في هذا الزمن، يروج اللوبي اليهودي الصهيوني ومعه الغرب الكافر، وفي المقدمة أمريكا وإسرائيل، للفواحش والرذائل والجرائم الأخلاقية، وما يوصل إليها، وما يسهل لها، وخطوات الشيطان التي توقع الناس فيها، وخطوات الشيطان التي توقع الناس فيها، يروجون لذلك، ويعملون على كسر كل القيم والضوابط الشرعية، والضوابط الأخلاقية، والقيم الراقية، التي تحافظ زكاء النفوس، وتصون الإنسان، تصون الرجل، وتصون المرأة، والقيم العظيمة: قيم العفة والكرامة والشرف، والالتزام الإيماني، ففي إطار حملتهم ضد الالتزام بما يصون الإنسان، يعيبون على الإنسان المسلم الملتزم ما هو فيه من الالتزام، يلومونه، يصورون التزامه وكأنه تخلُّف، ويقولون: [أنت من العصور الوسطى، أنت لا زلت إنسانًا متخلفًا، أنت..]، والواقع أن الذي يتجهون بالناس إليه هو أسوأ حتى من التخلف، هو الانحطاط عن المرتبة الإنسانية بكلها، هو السلوك الحيواني الغريزي الهمجي، هو الرذيلة والفاحشة، والجريمة والفساد والمنكر والباطل والسوء، الذي لا ينسجم مع فطرة الإنسان ولا مع إنسانيته، ولا مع كرامته، هو ما يهدم ويقوِّض المجتمع البشري في بنيته الاجتماعية الأُسرية، وهو أيضًا ما يؤثر على المجتمع البشري، في أمنه واستقراره، وسلامته الاجتماعية، وسلامته الصحية، وله أضرار ومفاسد، وآثار سلبية على الناس في حياتهم. يروجون للجريمة الشنيعة، الفاحشة المثلية، وهي من أفظع الأمور، ومن أكثرها سوءًا وآثارًا سلبية جدًا في نفوس الناس، في حياتهم، في واقعهم الاجتماعي، في واقعهم الصحي، شذوذ عن الفطرة، الإنسانية وحتى الحيوانية، أما في هذه فتجاوزوا حتى ما عليه الحيوانات، ومع ذلك يعيبون الآخرين، يلومون المرأة المسلمة، يحاولون أن يشوهوا عفتها، والتزامها بالضوابط الشرعية، والأخلاقية، والدينية، التي تصونها، تحافظ على شرفها، على كرامتها، على عزتها، على سموها الروحي والأخلاقي والإنساني.

 

وهكذا يتجه اللوم- كوسيلة في هذا العصر- ليكون من أبرز الوسائل التي يعتمد عليها المضلون، والمجرمون، وقوى الطاغوت والاستكبار، وأولياء الشيطان عمومًا، يستخدمونه كسلاح. يجب أن يحمل الإنسان ما يتحصن به من تأثير هذا السلاح، وكما قلنا بالأمس أن يكون هناك في المقابل تصدٍّ لهجمة اللوم؛ لأن الذي ينبغي أن يلام: أولئك الذين يتجهون بالناس في صف الباطل، أولئك الذين ينصرون الطاغوت والاستكبار، أولئك الذين هم مصدر للظلم، والجريمة، والفاحشة، والرذيلة، والسوء، أولئك الذين يسعون في الأرض فسادًا، أولئك الذين يستهدفون المجتمع البشري، بكل ذلك بهدف الاستعباد له، والسيطرة عليه، والاستغلال له، هم الذين يجب أن يتوجه اللوم نحوهم.

 

يقول “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((وَخُضِ الْغَمَرَاتِ لِلحَقِّ حَيْثُ كَانَ))، الحق: هو الأساس الذي بُني عليه الدين الإلهي بكله، بما فيه من تعليمات، ومبادئ، وعقائد، وأخلاق، وقيم، وشرع، وتعليمات، وحلال، وحرام، هو بُني على أساس الحق، ولهذا قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف: 9]، يقول عن النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آل” فيما جاء به من رسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}[الصافات: 37]، النبي جاء بالحق، جاءنا بالحق من عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فهُدى الله ودينه ورسالته وتعليماته، وما أتانا في ذلك من شرعه ونهجه: هو الحق، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضًا عن الذين آمنوا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}[محمد: من الآية: 2]، القرآن الكريم: هو الحق، كل ما فيه من تعليمات، من عقائد، من توجيهات، من تشريعات: هي حق، وليس فيها شيء من الباطل، {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ}[محمد: من الآية 2-3]، ولذلك نحن كمسلمين، كمؤمنين بهذا الدين الإسلامي العظيم، ننطلق على هذا الأساس: أنه هو الحق، ولذلك نتمسك به، نلتزم به، نتبعه؛ لأن ما سواه هو الباطل، نتمسك بكتاب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لأنه هو الحق، وما يخالفه هو الباطل، ولهذا يربينا الإسلام على أن نتمسك بهذا الأساس، أن نتبع الحق، أن نتمسك بالحق، أن نلتزم بالحق، أن نتحرك على أساس الحق، أن يكون الحق هو المعيار الأساس، لما نعتقده، لما نؤمن به، لما نلتزم به، وللموقف الذي نقفه، أن نحرص دائمًا على أن نقف الموقف الحق، هذه قضية أساسية؛ لأن ما سوى الحق هو الباطل، والباطل أين يجرُّك، أين يذهب بك، يضيعك في هذه الحياة، ومن بعد ذلك إلى نار جهنم- والعياذ بالله.

 

فعنوان الحق هو عنوان مهم، الحق في فطرة الإنسان شيء مقبول في كل الأمور، في كل القضايا، ولكن عندما يكون هناك شدائد وصعوبات ومخاطر- نتيجةً لتمسكك بالحق- ستواجهك، فالبعض من الناس حينئذ يتراجع، بل قد يخنع للباطل، يستسلم للباطل، أو يتجه نحو الباطل، لاتباع الباطل.

 

أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ” يقول لابنه الحسن، وهي وصية لكل مسلم: ((وَخُضِ الْغَمَرَاتِ لِلحَقِّ حَيْثُ كَانَ))، خض الشدائد والمخاطر، وواجه التحديات، وتغلب على الصعوبات، وواجه الصعوبات، من أجل التمسك بالحق حيث كان، لا تتراجع عن الحق في الموقف الذي تواجه فيه المخاطر والشدائد، وتنقلب إلى الباطل، وتتراجع إلى خط الباطل، وهذه مسألة مهمة؛ لأن الأمة إذا تخلت عن الحق، الموقف الحق، أو المبدأ الحق، أو العمل الحق الذي عليها أن تعمله، واتجهت نحو الباطل، فإنها ستخسر، وإذا كان الذي صرفها عن الموقف الحق هو مخاوفها مما ستواجهه ثمنًا لذلك، وتبعًا لذلك من المخاطر والشدائد، فهي ستتجه بنفسها بدلًا عن ذلك إلى مخاطر أكبر، وإلى مخاوف أكثر، وإلى شدائد أكبر، في الدنيا والآخرة؛ لأن الأمة إذا تخلت عن الحق وسيطر عليها الباطل، فالنتيجة: خطيرة، والتبعات كبيرة، والسلبيات رهيبة، إذا تمكن الباطل وساد الباطل، نتج عن ذلك شر كبير على الناس في حياتهم، وعاشوا المخاطر الكبيرة التي هي أكبر مما تخوَّفوه في تمسكهم بالحق، وحصل هذا في تاريخ الأمة كثيرًا. عندما تحرك أمير المؤمنين علي “عَلَيهِ السَّلَامُ” ليواجه قوى الانحراف في هذه الأمة، وحورِب، وتخاذل الكثير من الناس، ثم استُشهِد “عَلَيهِ السَّلَامُ”، فحصلت المتغيرات التي هي لصالح الباطل، كم عانت الأمة، عندما تحرك الإمام الحسن “عَلَيهِ السَّلَامُ”، وحورب وتخاذل عنه الناس، تعززت تلك المخاطر، وسيطرت على الأمة، فذاقت الأمرَّين.

 

عندما تحرك الإمام الحسين “عَلَيهِ السَّلَامُ” للحق، وبالحق، وبصوت الحق، وخذله الناس، واستُشهِد مظلومًا، غريبًا، ماذا كانت النتائج؟ كوارث وطامّات كبرى؛ نتيجةً لسيطرة الباطل، انتُهِكت كل الحرمات، واستُهدِفت مكة والكعبة، استُبيحت المدينة، حرم رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، قُتل الناس، أُبيد الآلاف من الناس بدمٍ بارد، انتُهِكت الحُرُمات، انتُهِكت الأعراض، عاش الناس الأمرَّين.

 

فالغمرات والشدائد والمخاطر، التي تخوضها من أجل الحق: هي بشرف، وعزة، وكرامة، ومحسوبة، لها إيجابياتها، لها نتائجها العظيمة، ومكتوبةٌ لك عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تلك الجهود، ذلك الصبر، تلك المواقف التي وقفتها وأنت تخوض الغمرات تلك، محسوبة لك عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لكن إذا تخاذلت الأمة، إذا تخاذل الإنسان، إذا ترك الحق، فالعاقبة خطيرة في الدنيا وفي الآخرة، سنحاسَب يوم القيامة، سنُجازى يوم القيامة، وإذا اتجه الإنسان نحو الباطل وتخلى عن الحق، فالثمن خطير جدًا: هو جهنم- والعياذ بالله، ولأهمية هذه المسألة يجب أن يوطن الإنسان نفسه عليها، أن يدرك أهميتها، وما يترتب عليها، وفي نفس الوقت أن يستعين بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على ذلك، وأن يلتجئ إلى الله “جَلَّ شَأنُهُ”، وكذلك أن تتواصى الأمة، الأمة التي تتحرك على أساس الحق، أن يتواصى الناس بالحق، وأن يشدَّ بعضهم بعضًا في ذلك، ولهذا عندما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ{1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ{2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: 1-3]،فأن يكون هناك تواصٍ بالحق، وأن يشد الناس بعضهم بعضًا في ذلك، وكذلك التواصي بالصبر على الحق، الصبر للتمسك بالحق، حتى لا تكون منهجية الإنسان أن يتمسك بالحق إن لم يكن هناك عليه مشاكل، ولم يكن هناك شدائد، ولم يكن هناك مخاطر. الحق المهم هو الذي ستواجِه فيه هذه بكلها.

 

((وَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ))، دين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” تتوقف عليه نجاتُنا وفلاحُنا، انتماؤنا إليه انتماءٌ على أساس الإيمان به، والتمسك به والاتباع له، والتحرك على أساسه؛ لأنه منهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الذي نتعبد له به، والذي سيجازينا على أساسه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

 

ونحن بحاجة أولًا إلى: كيف تكون نظرتنا إلى الدين نظرة صحيحة، نعي أهميته بالنسبة لنا، ونعي قيمته وأثره فيما يتعلق بحياتنا في الدنيا والآخرة، وندرك كذلك الجوانب الأساسية فيه، والمعالم الأساسية له، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قال في القرآن الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: من الآية: 3]، ويقول “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران: من الآية: 19]، فالإسلام: هو عنوان الدين الإلهي الحق، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يبين لنا أنه أنعم علينا بالدين، أنه نعمة، نعمةٌ عظيمة، وأنه رضيه لنا، فتكون نظرتنا إلى أنه نعمة؛ لأن الكثير من الناس ينظر إلى الدين وكأنه عبء عليه، عبء على الناس، التزامات وقيود، وأثقال، وأتعاب، ومشاقّ، نظرةً سلبية ينظرون إليه، نظرةً سلبية، هو نعمة بكل ما تعنيه الكلمة؛ لأن تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لنا، التي تنتظم بها حياتُنا في كل مجالاتها، هي تعليمات من منطلق رحمته، علينا أن نفهم هذه النقطة، ولهذا صدَّر كل سور القرآن الكريم، ما عدا سورة (براءة)، صدَّرها بقوله “جَلَّ شَأنُهُ”: {بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ}، ليبين لنا أن كل ما قدمه لنا من تعليمات، وتوجيهات، وتشريعات، وما علَّمنا إياه ليكون دينا لنا، ندين به، نلتزم به، نتعبد به، هو خيرٌ لنا، هو رحمةٌ لنا، ولمصلحتنا نحن، في أنفسنا، وفي حياتنا، وفي مستقبلنا عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يوم القيامة، فهو نعمة عظيمة جدًا؛ لأنه من منطلق رحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ووفق حكمته، هو أحكم الحاكمين، وهو فيما وجهنا إليه، وأرشدنا إليه، وعلمنا إياه، وأمرنا به، ونهانا عنه، ذلك كلُّه وفق الحكمة، لمقتضى الحكمة، على أساسٍ من الحكمة، ليس فيه شيٌء عشوائي، أو شيء فيه حماقة، أو شيء خاطئ، من الخطأ أن يفعله الإنسان، كلُّه بحكمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

 

وهو أيضًا العليم الذي يعلم السر في السماوات والأرض، يعلم الغيب والشهادة، يعلم بخصائص النفس البشرية، وما يناسبها وما يصلحها، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 14]، ولذلك فهو يشرِّع للإنسان ما يناسب فعلًا هذا الإنسان في تكوينه، في طبيعة حياته، هو الذي خلق النفس البشرية، خلق الإنسان، والعالم بما يناسب هذا الإنسان، ولذلك فتشريعه هو الخير للإنسان، تعليمه هو الذي فيه المصلحة للإنسان، وقد أكمل الله دينه؛ ليتناول كل شؤون الحياة، وليستوعب واقع الحياة بكله، فيما يتعلق بمسيرة هذا الإنسان، وهذه مسألة يجب أن نستوعبها، حتى لا نتصور أن الدين ناقصٌ، وأن منه جوانب كثيرة تركت أشياء أساسية في حياة الإنسان، ثم هو في كماله: أفضل شيءٍ للإنسان، أكمل شيءٍ، أصلح شيءٍ للإنسان، فهو كامل في شموله لكل مجالات الحياة، ولكل ما يتعلق بالإنسان، وأيضًا كاملٌ في أنه أكمل، وأرقى، وأسمى، وأفضل، وأصلح ما يعتمد عليه الإنسان كنظام لحياته ومنهج له.

 

الدين بأهميته هذه، ونجاتنا متوقفة عليه، لن نصل إلى الجنة إلا به، إذا فرطنا فيه، إذا تنكرنا له، نشقى في الدنيا، ونتعذب في الآخرة، بأهميته هو صلة يصلنا بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، برضوانه، بمعونته، بما وعد به من الوعود العظيمة في الدنيا والآخرة، لا بد أن نتفقه فيه، أن نسعى لأن نفهمه بشكلٍ صحيح، وهذه مسألة أساسية.

 

هناك ثلاث مشكلات كبيرة تعاني منها الأمة في علاقتها بدينها، المشكلة الأولى هي الجهل، كثير من المسلمين لا يهتمون بأن يتعلموا وأن يتعرفوا على دينهم، أن يتعلموا الدين، وأن يتعرفوا على هذا الدين، ونسبة الجهل نسبة واسعة في واقع الأمة، مع أنه بإمكان الإنسان مهما كانت ظروفه في هذه الحياة، إذا اتجه بجِد بإمكانه أن يجعل جزءًا من اهتماماته الأساسية يتوجه نحو التفهم لهذا الدين، التعرف على هذا الدين، وهذه مسألة متاحة، مهما كانت انشغالات الإنسان، مهما كانت ظروف حياته، يستطيع أن يجعل جزءًا من اهتمامه متوجها نحو التعرف على دينه والتفهُّم لدينه، حتى يفهمه، الفهم عنه بشكل عام، والفهم لما يتعلق بمسؤولياته، لما يتعلق بالضروريات العبادية، والعملية، والمبدئية، والأخلاقية، والسلوكية، وأن تكون هذه مسألة مستمرة، يعني ضمن اهتماماته التي يستمر فيها: هو هذا الجانب، ويستطيع الإنسان أن يؤقلم واقعه بناء على ذلك، وبما يناسب ذلك.

 

المشكلة الثانية هي الفهم المغلوط للدين، وهي مشكلة خطيرة للغاية، هناك مفاهيم فُهِمَت بشكل مغلوط، وحُرِّف الكثير منها، فقُدِّم للأمة لتفهمه بشكل مغلوط، وهذا يمثل ضربة قاضية؛ لأن الأمة تتعبد بذلك على أنه من الدين، وأنه على ذلك النحو، بذلك الشكل، وفي واقع المسألة أصبح الموضوع مختلفًا، فلا تصل الأمة إلى الثمرة الحقيقية للدين الحق، في تلك المسألة أو في ذلك الموضوع، أحيانًا في مواضيع مهمة أو في مسائل في غاية الأهمية، إذا قُدِّمت بشكل مغلوط، ترتب على العمل بها نتائج سلبية في واقع الحياة، والأمة عانت من هذه المشكلة من وقت مبكر؛ لأنه جرى من جانب الطغاة والمضلين والمفسدين في داخل الأمة اهتمام كبير، وسعي حثيث، وعمل واسع، ونشاط كبير لتحريف كثير من المفاهيم، ثم بقيت في الأمة تتناقلها الأجيال وتثق بها، وتركن إليها.

 

من المعروف عن بني أمية في وقت مبكر، أن من ضمن اهتماماتهم الأساسية: التحريف لمفاهيم الدين، لمفاهيم الإسلام، والرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، فيما حذر منهم، حذر تجاه هذا الجانب: أنهم إذا تمكنوا، كما قال في الحديث النبوي: ((اتَّخَذُوا دِينَ اللهِ دَغَلًا))، يعملون على إفساد المفاهيم لدى الناس، والتصورات عن الدين، في كثير من المسائل المهمة. وهذه مثلت إشكالية كبيرة في واقع الأمة، استمر الأمر من بعدهم على مدى أجيال وأجيال.

 

المشكلة الثالثة في علاقة الأمة بدينها هي التجزئة، العمل بجزءٍ من الدين؛ ببعضٍ منه، والنبذ لبعضٍ آخر، وهذا كان له نتائج سلبية في واقع الحياة، وللأسف كان ما تُرِك: من أهم ما في الدين، ومن أهم ما يثمر في واقع الحياة، وقد تكون له نتائج مهمة في حياة الناس، مثلاً عُطِّل من الدين أثره أو برنامجه التربوي الحقيقي، الذي يزكي النفس البشرية، ويصلحها ويبنيها، ويؤهلها لأداء مهامِّها في هذه الحياة بشكلٍ راقٍ، عُطِّل من الدين الاسلامي مسؤولية إقامة القسط والعدل، وهي مسألة أساسية جدًا للناس في حياتهم.

 

عُطِّلت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفريضة الجهاد في سبيل الله، وهي مهمةٌ جدًا لإصلاح واقع الأمة بكله رسميًا وشعبيًا، وأيضًا أهمية كبيرة لعزة الأمة، وبناء الأمة، ونهضة الأمة، فكان لذلك تأثير سلبي جدًا في حياة الناس، وهكذا عُطِّلت جوانب أساسية في واقع الأمة، فكان لتعطيلها آثار سلبية على الناس.

 

فنحن بحاجة إلى أن نرتب علاقتنا بالدين وفقًا لنظرة صحيحة إلى الدين، وأن يكون عندنا اهتمام لأن نفهم عنه الفهم العام، عن دوره في الحياة، عما يمثله لنا من أهمية في الحياة، عما يترتب عليه في الواقع الحضاري للناس، والحياة المعيشية لهم، عما يمثله من حلول لمشاكلهم السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وغير ذلك، بحاجة إلى نظرة صحيحة للدين، وبحاجة إلى فهم صحيح، ثم في التفهُّم لهذا الدين، التعرف على معارفه، أن نحرص على أن نعرفه بشكلٍ صحيح، وأن نفهمه بشكلٍ صحيح، وأن يكون هذا جُزءًا من اهتماماتنا العامة، الإنسان يحرص مهما كان عمله، مهما كان موقعه، أن يكون هذا جُزءًا من اهتماماته المستمرة. بعض الناس قد يخجل أو يشعر بالحرج وهو في منصب معين، أو موقع معين، أو له جاه معين، مكانة معينة، يتصور أن من المَعيب أن يكون عنده اهتمام بهذا الأمر، والعكس هو الصحيح، من المَعيب على الإنسان، وبالذات عندما يكون في مسؤولية معينة، أو موقع معين، أو له دور معين، وهو جاهلٌ بأمور دينه، ولا يسعى إلى أن يتعرف، ولا أن يتفهم دينه بشكلٍ صحيح، خلل كبير، ونقص كبير جدًا، فهذه من المسائل التي ينبغي على الإنسان أن يكون مهتمًا بها بشكلٍ مستمر، ضمن اهتماماته في هذه الحياة.

 

((وَعَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ))، الصبر: هو من القيم الإيمانية المهمة، وأساس من أُسس النجاح في هذه الحياة، لكل أمورها الدينية والدنيوية، كل الأمور المهمة تحتاج إلى الصبر، الإنسان في الأمور المهمة لا بد له أن يبذل جهدًا، أن يواجه تحديات وصعوبات، ظروف هذه الحياة بشكلٍ عام، فيها صعوبات، فيها تحديات، فيها معاناة، فيها هموم، فيها أوجاع، فيها آلام، فيها مشاكل، فيها عوائق، إذا لم يبني الإنسانُ ويوطن نفسه على أساس أن يصبر، وأن يستعين بالله، لكي يُمِدَّه بالمزيد من الصبر، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّه}[النحل: من الآية: 127]، علمنا الله في أدعية القرآن الكريم: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً}[الأعراف: من الآية: 126] .

 

فالإنسان سيكون متراجعًا، ضعيفًا، عاجزًا، كسولًا، متهربًا، من كل الأمور المهمة، والأعمال المهمة، والمسؤوليات المهمة، وضعيفًا أمام كل المشاق والصعوبات والشدائد، ينكسر، ويتحطم، ويضعف، وينهار أمام أي مشاق، أو صعوبات، أو معاناة، وهذا ملحوظ في واقع بعض الناس، بمجرد أن يواجه عائقًا معينًا، أو مشكلة معينة، أو مصاعب معينة، أو إشكالات معينة، أو ظروف معينة، ينهار، يتحطم؛ لأنه لم يوطِّن نفسه على الصبر، وعلي ممارسة الصبر، عندما قال التصبُّر، ((وَعَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ))، على ما هو مشقَّة، أو ألم، أو هم، أو مزعج لك، عنوان المكروه: ما تكرهه النفس، ما لا تألفه، ما لا ترتاح به، في ظروف هذه الحياة وهي تتحرك، أو وهي تواجِه في ظروف هذه الحياة مشاقّ، مشاكل، هموم، آلام، وتعويد النفس على الصبر يروِّضها، يكسبها القوة والمنعة، حتى تصبح قوية في مواجهة الشدائد. بينما إذا لم يعوِّد الإنسان نفسه أن يصبر، فهو عندما يواجه أي إشكالية في موضوع مهم، يتراجع عنه، يضعف أمام أي عائق، أمام أي أشكال، لا يريد أن يصبر، لن يكون في مستوى القيام بمهام، وأعمال مهمة ومفيدة، لا في دينه ولا في دنياه، وهذا أيضًا ملحوظ في واقع بعض الناس، إذا كان هناك عمل فيه صعوبة، لو كانت ثمرته ونتيجته وعائده كيفما كان، يهرب منه؛ لأن فيه مشاق معينة. يختار البعض أن يكون في حالة بطالة، أو في أعمال غير لائقة، البعض الناس يؤْثر أن يتسوَّل، وهو مفتول العضلات، قوي البدن، لكنه لا يمتلك الصبر، لا يريد أن يعمل، أن يكدّ، أن يكدح، أن يعمل الأعمال المهمة، هذا في أعمال الدنيا، كثير من الأعمال يتهرب منها الكثير من الناس، في المسؤوليات المهمة والدينية والإيمانية، يتهرب الناس من أهم الأعمال، بالنظر إلى أن فيها مشاقّ أو صعوبات، أو متاعب.

 

في ظروف الحياة يتحطم الكثير من الناس، إلى درجة الانهيار النفسي، والمرض النفسي، أمام البعض من الصعوبات والمشاقّ والآلام، ولا يتجهون إلى معالجتها عمليًا بصبر.

 

فالصبر مسألة مهمة جدًا، والتعود على الصبر مسألة مهمة جدًا، البعض من الناس يعاني من ضيق النفْس في كل شيء، لا يمتلك الصبر، الصبر تحتاج إليه حتى لواقعك النفسي، هو بدءًا، وهو في المقدمة في الواقع النفسي، تحتاج إليه في واقعك النفسي، في داخلك، ثم في واقعك العملي.

 

فمسألة الصبر مسألة مهمة جدًا، والترغيب في الصبر في القرآن الكريم أتى كثيرًا، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية: 153]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: من الآية: 146]، الوعد بالغلبة في الجهاد في سبيل الله للصابرين، {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}[الأنفال: من الآية 65]، التعود على الصبر مسألة مهمة جدًا، ولهذا قال عنه أمير المؤمنين ((وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّرُ في الْحَقِّ))؛ لأن طريق الحق هي التي تستحق منك أن تصبر، مواقف الحق تستحق منك أن تصبر، السعي لإقامة الحق يستحق منك أن تصبر، صبرك في إطار مسيرة عملية، يستحق منك أن تصبر، وهو مرتبط بهذه الغاية المهمة والعظيمة.

 

((وَأَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ، فَإِنَّكَ تُلجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ، وَمَانِعٍ عَزِيزٍ))، وهذه مسألة مهمة جدًا، أن تلتجئ إلى الله، تطلب منه العون، تطلب منه الهداية، تطلب منه التوفيق، تطلب منه التأييد، النصر، في كل الأمور التجئ إلى الله، لا تيأس، لا تتحطم نفسيًا، لا تنهر نفسيًا، في كل ما تواجهه من شدائد، من مشاقّ، من مخاطر، من تحديات، في كل ما تتحرك فيه من أعمال ومسؤوليات، في إطار طاعة الله والالتزام بالحق والسير في طريق الحق، في كل ما أنت فيه تتحرك وتواجه العوائق الكبيرة، والمحاربة الشديدة، ألجئ نفسك في كل الأمور، في شؤونك الشخصية، في شؤونك الاجتماعية، في شؤونك العامة، اجعل هذه قاعدةً أساسيةً تنطلق على أساسها في حياتك، تلتجئ إلى الله، تستمد منه العون، التوفيق، التيسير، الهداية، صرف الشر، صرف المكروه، هذه مسألة مهمة جدًا، الذي لا يلتجئ إلى الله، ولا يوطِّن نفسه ويبني واقعه على هذا الأساس، إما أنه في كل تفاصيل الأمور يلتجئ- ابتداءً- إلى الناس، ليس من قبيل الأخذ بالأسباب، إنما بالالتجاء بكل معنى الكلمة، ينسى الله ويلتجئ إلى الناس، وقد يلتجئ إلى الأشرار، قد يلتجئ إلى السيئين، وإما أنه يبقى في حالة من الانهيار واليأس، فليبنِ الإنسان واقعه على الاتجاه إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في كل أموره، شؤونه الشخصية، شؤونه الاجتماعية، ما يتعلق بمسؤولياته، ما يواجهه من مخاطر وصعوبات، ما يعاني منه، ما لديه من متطلبات …إلخ.

 

((فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ))، تذكَّر أنه إلهك، ربك، الذي تعبده، الذي ينعم عليك، الذي هو وليّ أمرك فوق كل أحد، لست ملتجئًا إلى من لا يمكن أن يقدر التجائك إليه، يعتبر أنه لا علاقة له بك. هو ربك وإلهك، وهو الكريم العظيم، ((فَإِنَّكَ تُلجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ))، يحفظك، إلى من يحفظك، إلى من يحوطك برعايته بألطافه، إلى من يمنحك المنعة والقوة، إلى من هو قديرٌ على أن يعينك، على أن ينفعك، وهو رحيم بك، ((وَمَانِعٍ عَزِيزٍ))، يعطيك المنعة والقوة، ويحوطك برعايته، يمنحك من عزته، فلا تُضام ولا تُذَلّ، يمنحك المعونة، قديرٌ، عظيمٌ، كريمٌ، رحيم، التجئ إليه وأنت تعي هذه المعاني المهمة، نحو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أنه إلهك، أنه الرحيم، العظيم، المقتدر، القاهر.

 

((وَأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ، فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَالْحِرْمَانَ))، أخلص في المسألة لربك، اسأل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أسأل الله “جَلَّ شَأنُهُ” بإخلاص، تتجه إليه اتجاهًا كاملًا، أنت تؤمن أن بيده العطاء والحرمان، أن بيده الخير كله، أن بيده تدبير أمورك وأمور الخلق أجمعين، أنه القاهر فوق عباده، فلذلك اجعل كل اتجاهك إليه هو، ليعطيَك، ليمُنَّ عليك، ليعِينك، اتجه إليه فيما ترجوه منه، وتسأله منه، اتجاهًا كليًا، بإخلاصٍ تام، ((وَأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ، فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَالْحِرْمَانَ))، وهو “جَلَّ شَأنُهُ” القائل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}[فاطر : من الآية 2].

 

((وَأَكْثِرِ الاسْتِخَارَةَ))، أكثر الاستخارة: اطلب دائمًا من الله الخير في كل أمورك، وفي الأمور العملية التي تتردد فيها، بين ما هو الأنسب، ما هو الأفضل، فاستخر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو الأعلم بالخير لك، والاستخارة تأتي في الأمور التي هي مشروعة وهي مباحة، يأتي الإنسان إنما هو يتردد هل هذا الأنسب، أو هذا، لا تأتي الاستخارة بين حق وباطل، هذه مسألة تعتمد على الدليل والبرهان والهدى، قد اختار الله فيها الخير، ووضح بتوجيهات واضحة، لا يمكن أن تستخير الله هل أصلي أو لا أصلي، هل أجاهد أو لا أجاهد، هل أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر أم لا، هذه مسألة قد اختار الله فيها الخير، وأعلنه، ووضحه، وبيّنه، وأمر به، وهدى إليه، ووجَّه إليه، وألزم به، وحُسِمت المسألة، لكن في الأشياء التي تعود إلى واقع حياة الإنسان، في الأعمال التي في نطاق المباح للإنسان والمشروع للإنسان، في إطار الحلال، في إطار ما هو مسموح به، مأذون به من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الإنسان يتردد في كثير من الأمور، فليعتمد الاستخارة، وليكثر من الاستخارة؛ لأن هذا نوع من الالتجاء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وطلب الهداية منه، وأن يعينك هو، وهو الأعلم بالخير لك في ذلك، فيدلُّك على ما فيه الخير.

 

((وَتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي))، الانتفاع بالوصايا، بالنصائح، بالتعليمات، بالتوجيهات، مبنيٌ على التفهم، الإنسان الذي يتفهم ويستوعب: يدرك أهمية ما نُصح به، وما وُصِّيَ به، وما وجِّه إليه، وما أرشد إليه، والإنسان الذي لا يتفهم، لا يصغي، لا يتأمل، لا ينتفع، لا ينتفع بكتاب الله، ولا بما يأتيه على ضوء كتاب الله وكلمات الله، من الوصايا، من النصائح، مهما كانت مهمة، مهما كانت قيمة، مهما كانت مفيدة، مهما كانت ذات أثر كبير، في صلاح نفسه، في صلاح حياته، في معالجة مشاكله، لا ينتفع؛ لأنه غير متفهم، فهناك أهمية للتفهم. وأمير المؤمنين حينما يقول: ((وَتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي))، علينا جميعًا أن ندرك أهمية التفهم، وأن نسعى لتفهم هذه التوصيات، هذه النصائح، هذه الإرشادات القيمة، المفيدة جدًا، التي أثرها مهم لنا في أنفسنا وفي واقع حياتنا.

 

((وَلَا تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحًا))، إذا كانت المسألة مجرد استعراض عادي، الإنسان يسمع، وما سمعه من أذنه اليمنى خرج من أذنه اليسرى، لا يتأمل، لا يستوعب، لا يتفهم: لا ينتفع، حاله كحال المعرضين، فهناك لفت نظر إلى أن يتعامل الإنسان مع هذه التعليمات والإرشادات، التي هي ذات أهمية كبيرة جدًا، مقتبَسة من القرآن، من هدى الله، من تعليمات الله، من تعليمات رسوله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، ومن تجربة عميقة في واقع الحياة لأمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، تجربة مجرِّب، خبير، واعٍ، فاهم، حكيم، موثوق، ومأمون، وصاحب نظرة عميقة، ورؤية صائبة، ويقدم لك هذه التعليمات، استفد منها، ركِّز عليها، استوعب، تأمل، تفهم.

 

((فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ))، يُقاس علاقتك بالقول بما انتفعت به، بمقدار ما تنتفع به، الذي يمكن أن تنتفع به في نفسك، في فهمك، في وعيك، في رشدك، في حكمتك، وفي سلوكك، في واقعك، في النتائج المترتبة على ذلك في حياتك، فهو مهم، قولٌ ينفعك، قولٌ هو حكمة، إذا استفدت منه تكون حكيمًا، تكون راشدًا، يصوِّب رؤيتك، فهمك، نظرتك، فكرك، تكسب به الرشد، الحكمة، النظرة الصائبة، لا تبقى إنسانًا فارغ الرأس، فارغ الذهن، فارغ القلب، لا يمتلك المعرفة الصحيحة، ولا الحكمة، ((فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ))، وهذا من خير القول؛ لأنه ينفع، إنما تفهَّمْه، لتنتفع به، ((وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لَا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ))، هذه الجملة مهمةً جدًا، ويدخل تحتها مسائل مهمة، نؤجلها لدرس الغد، إن شاء الله تعالى.

 

أَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

 

وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛