الدرس الثالث عشر للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الإمام الحسن عليهما السلام (نص+فيديو)
الصمود|
الدرس الثالث عشر للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الإمام الحسن عليهما السلام 20-12-1444 هـ 08-07-2023 م
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
تحدثنا بالأمس على ضوء ما ورد في وصية أمير المؤمنين علي “عَلَيهِ السَّلَامُ”، لابنه الإمام الحسن “عَلَيهِ السَّلَامُ”، وكان الحديث عن: موضوع الدعاء، موضوع التوبة، و موضوع الاستعداد للآخرة، والحذر من الاغترار بالدنيا وإيثارها على الآخرة.
وموضوع الدعاء هو من أهم المواضيع؛ لأنه من أهم ما في العبادة للّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومما له تأثيرٌ كبيرٌ جدًّا في حياة الإنسان المؤمن، في واقعه النفسي، وفي مسيرة حياته، حيث أنه يدخل في صميم العلاقة مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من منطلقٍ إيماني، من واقع العبودية لله والشعور بالافتقار إلى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وله أهميته الكبيرة في أن يكون الإنسان فيما يواجهه من تحديات، ومخاطر، وصعوبات، وظروف، على مستوى عالٍ من المعنويات، من الثقة باللّٰه، من التوكل على اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من الأمل في اللّٰه، من الرجاء في اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذا له أهمية كبيرة على المستوى النفسي والمعنوي، ثم أيضًا فيما يتحقق من وراء ذلك، مما يمُنُّ اللّٰه به.
ومن أهم ما يجب أن نعيه في مسألة الدعاء إضافةً إلى ما تحدثنا عنه بالأمس هو الأخذ بالأسباب العملية، أن يكون مع الدعاء اهتمام عملي، وأخذ بالأسباب العملية، كما قال أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((الدَّاعِي بِلَا عَمَلٍ كالرَّامِي بِلَا وَتَر))، الدعاء ليس بديلًا عن العمل، الدعاء يأتي مع العمل، يأتي مع الأخذ بالأسباب التي شرعها اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، التي سنًّها في واقع الحياة، فهذا أمرٌ مهم.
في موضوع التوبة كذلك، يجب على الإنسان أن يحرص على أن يكون توَّابًا كثير الرجوع إلى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، دائم التلافي لأخطائه وتقصيره، وكثيرًا ما يطلب المغفرة من اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بحيث تكون من أهم وأكثر ما يطلبه المغفرة؛ لأن أخطر شيءٍ على الإنسان هي الذنوب، خطرها كبيرٌ وتأثيرهٌا سيءٌ على الإنسان في الدنيا، أما في الآخرة فهي سبب عذابه، وشقائه، وهلاكه، وأن يخسر رضوان اللّٰه، وأن يخسر الجنة، وأن يخسر السعادة الأبدية.
ثم في مسألة الاغترار بالدنيا، عندما يتعامل الإنسان مع رغباته في هذه الحياة، ومتطلباته في هذه الحياة، بدافع الطمع، وبدافع الشهوة، بدافع الرغبات، بعيدًا عن الدوافع الأخرى، يعني يتحرك غريزيًا كالحيوان ليس عنده دوافع صحيحة، ولا ضوابط صحيحة، ولا أهداف صحيحة، فهو سَيَتِيه في هذه الحياة سيضيع في أطماعه ورغباته وأهوائه، وتتحول هي إلى أن تسيطر على كل اهتمامه، لا يبقى شيءٌ من اهتمامه يتوجه نحو مستقبله في الآخرة، المستقبل الأبدي الدائم، يغفل عن أن هناك حياتين حياة عاجلة، وحياة آجلة، حياة مؤقتة محدودة، وحياة مستقبلية أبدية، وأن بينهما ترابطًا كبيرًا، فهذه الحياة من خلال عملك فيها، وسعيك فيها: يتحدد مصيرك في تلك الحياة.
الإنسان لا بد له أن يعي هذه الحقائق، وأن يحسب حساب الآخرة، فلا يتجه كل اهتمامه نحو هذه الحياة، في رغباتها، في أطماعها، فيما يريده منها، ولأن الإنسان إذا اتجه وغفل عن مستقبله في الآخرة، حينها تشتد رغبته، وأطماعه، وأهواؤه، إلى درجة أن يفقد معها السيطرة على نفسه فيما يتعلق بالضوابط الأخلاقية، بالتقوى، بالدين، يكون طمعه الشديد، ورغبته الشديدة، وانشداده النفسي، الذي يسيطر عليه بشكلٍ تام؛ على النحو الذي يورطه في كثير من المعاصي، في كثير من الجرائم، في كثير من الذنوب، في كثير من المفاسد، في كثير من المظالم؛ وهي حالة خطيرة على الإنسان، ولهذا يقول أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((يَا بُنَيَّ، أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ، وَتُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ، وَشَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ، وَلَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ)).
الذي يمكن أن يخفف من حالة الشهوات، والأطماع، والأهواء الشديدة، والشهوات الملحَّة: هو الإكثار من ذكر الموت، هو ما يهدئ الحالة النفسية لدى الإنسان، ويدفع إلى أن يفكر بشكلٍ صحيح؛ لأن أمر الموت أمرٌ حتمي، والكل يدرك أنه لا مهرب منه، ولا مناص منه، وأنه نهايةٌ حتمية لكل إنسان، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران: من الآية 185]، والكل يعرف أنه ليس لديه معرفة محددة باليوم الذي يمكن أن يرحل فيه من هذه الدنيا، أو الساعة، أو الليلة، لا يعرف بالزمان، ولا يعرف بالمكان، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان: من الآية 34]، الإنسان لا يعرف شيئًا عن مستقبله الغيبي، فإذا فكر الإنسان أنه سيموت وأنه سيفارق كل ما كان قد حصل عليه من هذه الدنيا، مهما كان، مهما قد بذل من جهدٍ ليحصل عليه سيفارقه، وسيتركه، وسيغادر عنه.
التفكير في أمر الموت: هو ذو تأثيرٍ على النفس، يخفف من تلك الأطماع، من إلحاح الشهوة، من إلحاح الرغبة، من سعير الطمع، الذي يستعر في الإنسان فيُقِد البعض رشده، وتوازنه، وتفكيره الصغير، وهذه مسألةٌ مهمة جدًّا.
الهدف من الإكثار من ذكر الموت؟ هو الاستعداد، الاستعداد للوقت الذي يأتيك فيه الموت وأنت في حالة جهوزية، الاستعداد بالعمل الصالح، الاستعداد لمستقبلك في الآخرة. ومسألة الإكثار مطلوبة؛ لأن الإنسان إذا غفل طويلًا، وكان تذكره لأمر الموت نادرًا، ففي حالة الغفلة تلك تتأثر نفسه بمؤثرات كثيرة في هذه الحياة، المتطلبات اليومية تضغط عليه، ما يشاهده هناك وهناك لدى الآخرين، يشُّد نفسيته إلى أن يحصل على المزيد والمزيد، ويريد من ذلك ومن ذلك، وهكذا، فعندما تصبح حالة التذكر للرحيل من هذه الدنيا، الرحيل الحتمي الإجباري الذي لابد منه، إذا أصبحت حالة نادرة: سيطرت الغفلة على الإنسان، وهي الحالة الأخطر عندما تسيطر عليك حالة الغفلة، اللّٰه قال في القرآن الكريم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء: 1]، حالة الغفلة: ينتج عنها الإعراض، الإعراض عن كل ما فيه نجاتك، فوزك، فلاحك، إعداد ما تحتاج إلى إعداده لمستقبلك الأبدي، لحياتك المهمة الدائمة، فالإكثار مسألة مهمة جدًّا، الإكثار من ذكر الموت يدفعك إلى مسألة الإعداد لمستقبلك في الآخرة.
ولهذا عندما يفكر الإنسان في أمر الموت بشكلٍ صحيح: يدرك حتى قيمة الشهادة، وأهمية الشهادة، يستشعر قرب لقاء اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يستشعر أهمية العمل الصالح، يدرك خطورة المعاصي والذنوب. عندما يأتي يومٌ جديدٌ من أيام حياتك، فكِّر في بدايته، لربما أنه قد يكون اليوم الأخير من عمرك، هل أنت جاهز إذا أتاك الموت فيه؟ لستَ متورطًا في ذنوب ومعاصي لم تتب منها، لست مقصرًا، ومفرطًا في مسؤوليات أساسية، أنت متجاهلٌ لها ومصرٌ على التفريط فيها، هل عليك تبعات للناس حقوق للناس؟ وهكذا عندما تأتي ليلة جديدة من ليالي عمرك، الكثير من الناس جاءته ليلة من الليالي وهو يظنها كغيرها، ليلةٌ ينام فيها ليصبح على يومٍ جديد، فلم يصبح عليه: كثير من الناس. وكثير الناس يستقبل نهاره؛ وقد يعدُّهُ كسائر الأيام، يفكر أنه سيمضيه، ضمن روتينه الاعتيادي، في أعماله المعتادة، واهتماماته المعتادة، ولكنه لا يُمسي، يموت في يومه ذلك.
وحالة الغفلة: هي الحالة التي تسيطر على الكثير من الناس، ولذلك يتفاجؤون بالموت، يأتي الموت في اللحظة التي ليسوا مستعدين فيها، أول ما يأتيه الموت يفكر في تبعات، في معاصي، في ذنوب لم يتب إلى اللّٰه منها، في أعمال مهمة لنجاته، وفوزه، وفلاحه، فيدرك أنه مقصرٌ فيها، وأنه لم يهتم بها، يتحسر، يتألم، وهي الحالة المقلقة جدًّا، الحالة الخطيرة، واللحظة التي لا يرى إمكانيةً لتلافيها أبدًا، فاتت الفرصة بشكلٍ نهائي، حالة رهيبة جدًّا، واللّٰه قد نبَّهنا على ذلك في القرآن الكريم عندما قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}[المؤمنون:99]، هم في غمرة، في غفلة، في الانهماك في الأمور الأخرى، وراء شهواتهم، وراء آمالهم الأخرى، مع تجاهلٍ تام لمستقبلهم في الآخرة، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}، تفاجأ، اندهش، احتار، أدرك الخطر الكبير الذي هو فيه؛ لأنه لم يُعدّ عُدته لمستقبله، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}، تفاجأ عندما أدرك أنه منتهٍ من هذه الحياة، راحلٌ عن هذه الدنيا، وأن عمره قد انقضى، وأن أجله قد أتى، فهو يندهش، ويدرك تقصيره، فيطلب من الله أن يُرجعه، أن يُعطيه المهلة الإضافية في هذه الحياة، ويُعطيه المزيد في عمره، ويمدّ له في أجله، لماذا؟ {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون:99-100]، لأنه أدرك أن أهم ما كان يجب أن يستعدّ به: هو العمل الصالح، العمل الصالح الذي يتهرب منه الكثير من الناس، في مختلف المجالات، أعمال صالحة تدخل في نطاق المسؤوليات المهمة للأمة: من جهاد في سبيل اللّٰه، من أمرٍ بمعروف ونهيٍ عن منكر، من تعاونٍ على البر والتقوى، أعمال صالحة، من أعمال الخير، والإحسان، والبر، أعمال صالحة يهتم بها هو شخصيًا في واقعه الشخصي، من ذكرٍ للّٰه، من عبادة للّٰه، من إقبال إلى اللّٰه، نطاق الأعمال الصالحة واسعٌ جدًّا، فهو ذلك الذي لم يكن يعطيها أي قيمة ولا أهمية، وهي تلك الأعمال التي سيكسب بها رضوان اللّٰه، يكسب بها ما وعد اللّٰه به عليها: جنتَه التي عرضها السماوات والأرض، السعادة الأبدية، المجاورة لأنبياء اللّٰه وأولياءه والصالحين من عباده، النعيم العظيم المقيم، التيسير للحساب، الأمن يوم الفزع الأكبر، غير ذلك مما وعد اللّٰه به، لم يكن يعطي لذلك أي قيمة، ولا أي أهمية، كان همُّه كله متجهًا نحو ما يحقق مصالح- من مصالح الدنيا- مؤقتة زائلة، وآثرها على كل شيء، لم يحسب معها أي حساب لأمر آخرته.
{قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}[المؤمنون: 99-100]، يقولها عن حسرة، وندم، وشعورٍ بفوات الفرصة، وشعورٍ بالمستقبل الأبدي الخطير، هو قد خسر الأبد، خسر مستقبله الدائم، من أجل مرحلة مؤقتة، وأطماع مؤقتة زائلة، رغبات وشهوات لحظِيَّة انتهت وبقيت تبعاتها، {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}، لا تفيده شيئًا، لا يستجاب له، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون: من الآية 100 ].
يقول اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ}[المنافقون : من الآية 10 ]، لأنك عندما تنفق مما رزقك اللّٰه أنت تقدم لنفسك، أنت تحصل مقابل ذلك، على ما وعد اللّٰه به في جنته، أنت تقدم لنفسك ما ينفعك يوم القيامة، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون : من الآية 10 ]، هكذا البعض يطلب ولو مهلة قليلة، قد يطلب البعض ولو يومًا واحدًا، ولكن لا يمكن أن تحصل ولا على يوم واحد، ولا على ساعة واحدة، انتهى الأمر، فاتت الفرصة، {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ لأنه أدرك ما هو مهم له لمستقبله الأبدي والدائم. فالتذكر لمسألة الرحيل من هذه الدنيا وحتميته: عاملٌ مساعد، ودافع مهم للإنسان إلى الإعداد لمستقبله في الأخرة، فلا يغفل عن مستقبله في الآخرة.
((أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ))، لأنك ستنتقل؛ الموت هو فاصلٌ قصير، بعده الانتقال إلى عالم الآخرة، والإنسان حتى في يوم القيامة يدرك أن هذا الفاصل كان قصيرًا جدًا، يتحول كل ذلك الفاصل وكأنه ساعة، وكأنه جزء من يوم، جزء من الوقت فقط، ثم يدرك الإنسان أنه قد أقبل على أمور مهمة، أمور كبيرة كان غافلًا عنها، لم يكن يتوقع أنها بذلك المستوى من الأهمية، فتذكرك أيضًا بما قد ذكره اللّٰه عن ذلك المستقبل الآتي حتمًا: له أهمية كبيرة، وخصوصًا إذا كان تذكرك مرتبطًا بواقعك أنت، تتذكر نفسك، وتتصور نفسك، عندما تأتيك لحظة الموت، عندما يأتيك ملك الموت، عندما تأتيك اللحظة التي تفارق فيها هذه الحياة، هل ستكون على استعداد، على اهتمام، معد لتلك اللحظة ولما بعدها؟ أم أنك غافل عن ذلك، وتكون كبيرة عليك، مدهشة لك، فاجعة لنفسك؟ هذه مسألة مهمة.
كذلك في مستقبلك في الآخرة، في مواقف الحساب، والسؤال، والجزاء، وتوزيع الصحف، وكتب الأعمال، وما ذكره اللّٰه عن حال المؤمنين في المحشر، وحال الهالكين والخاسرين، ومرحلة الانتقال من ساحة الحساب، بين من ينتقل إلى الجنة، ومن ينتقل إلى النار، ثم ما بعد ذلك كلُّها مراحل هي آتية، ويتحدد بعملك هنا ما سيكون عليه واقعك هناك، التذكر لهذه المسألة مهم جدًّا.
وكما قلنا الإكثار من ذِكر هذا يبيّن لنا قيمة الشهادة، عظمة الشهادة، أهمية الشهادة في سبيل اللّٰه؛ لأنها ستحول تلك اللحظة التي هي لحظة مقلقه للناس، لأغلب الناس، إلى لحظة اطمئنان بالنسبة للشهيد، الذي يكون الموت بالنسبة له فاصلًا، يكون فاصلًا قصيرًا ينتقل بعده إلى السعادة، إلى الفرح، إلى الاطمئنان، مثلما قال اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في القرآن الكريم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 169-171].
((حَتَّى يَأْتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ، وَشَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ))، عندما يأتيك الموت، يأتيك وأنت مستعد بالعمل الصالح، بالتخلص من التبعات والذنوب، بالتوبة والإقبال إلى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بالتطلع والرجاء فيما وعد اللّٰه به في مستقبل الآخرة، فهذا الاستعداد يجعل مسألة الموت بالنسبة لك مسألة غير مقلقة، لأنك كنت دائم الاهتمام بذلك المستقبل الآتي.
ولذلك عندما نقرأ في سيرة أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، وبعد أن أصيب، بعد أن ضربه ابن ملجم- لعنه اللّٰه- بالسيف، وفي اللحظة التي ضربه فيها قال: ((فُزْتُ ورَبِّ الكَعْبَةِ))، بعد ذلك جلس عند ساريةٍ من سواري المسجد، وتكلم بكلمة قصيرة وداعيَّةٍ، وكان الدم يسكب على جسده الشريف، في ضمن تلك الكلمة قال جملةً مهمة؛ قال: ((وَدَاعِيكُم وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلاَق))، ما أعظم هذه الكلمة، وما أهم هذه الجملة، ((وَدَاعِيكُم))، يعني وداعي لكم، أنا مودعكم، ولكن كما قال عن نفسه “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلاَق))، مُعِّدٍّ، ومستعد للتلاق، للرحيل واللقاء للّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والانتقال من هذه الحياة، فهو كان يعد لتلك المرحلة التي يتيقن أنه منتقلٌ إليها، فأعد لها أحسن الإعداد، الأعمال الصالحة، الجهاد في سبيل اللّٰه، الطاعة للّٰه، التقرب إلى اللّٰه بالأعمال التي تقرب من اللّٰه، والتي يكسب بها رضوان اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وكان مطمئنًا مما هو عليه ولهذا قال: ((فُزْتُ ورَبِّ الكَعْبَةِ)).
((وَدَاعِيكُم وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلاَق))، فالإنسان إذا كان مستعدًا، متجهزًا، متهيئًا، مدركًا لحتمية هذا الرحيل، معدًا للمستقبل المهم، الذي يعتبره أهم من أن يحظى في هذه الحياة بمكاسب شخصية، أو مصالح شخصية، أو يحقق لنفسه طموحات مادية، أو معنوية في هذه الحياة. ما هناك: هو الأهم بالنسبة له. ما تهيأ هنا من رزق اللّٰه، من فضل اللّٰه، ببركة اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” فخير، وإلا فالآمال الكبيرة متجهة إلى هناك، إلى ذلك المستقبل العظيم، تكون تلك اللحظة بالنسبة للإنسان وعندما يُبشَّر فيها، تأتيه البشارات، فيُبشَّر بالمستقبل العظيم، بالفوز، بالنجاة، كم سيكون سروره؟ كم ستكون فرحته؟ وهو مطمئن إلى ذلك المستقبل العظيم والمهم.
((حَتَّى يَأْتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ، وَشَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ))، كنت مستعدًا، الاستعداد اللازم، الاستعداد القوي، ما هو هذا الاستعداد؟ الأعمال الصالحة، الأعمال التي لها وزن عظيم، أتى الترغيب عليها في القرآن الكريم والحث عليها، وأكد عليها رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، أَخَذْتَ حِذْرَكَ، وَشَدَدْتَ أزْرَكَ، استعددت. قوة الاستعداد: بالحذر من المعاصي، بالتوبة من الذنوب والتخلص منها، بالتخلص من التبعات. هذا الاستعداد يجعلك في وضعية نفسية مريحة؛ عندما يأتي أمر الموت، هو مجرد انتقال من هذه الحياة، حينها ستكون مخلِّصًا لنفسك من تلك الحسرات، وذلك الندم الشديد، الذي يعيشه الآخرون: من الغارقين في الذنوب، من الهالكين في المعاصي، من الذين كانت كل اهتماماتهم متوجهة نحو أطماع هذه الحياة، وشهوات هذه الحياة، ورغبات هذه الحياة، وكانوا غافلين لا يحسبون حساب ذلك الرحيل والانتقال الحتمي، ولا ما بعده في عالم الآخرة، ولهذا قال: ((وَلَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ))؛ لأن الذي يُفاجأ بالموت وهو لا يعد له أي إعداد، ولا يحسب حسابه أصلًا، هو ينبهر، يتفاجأ، وعندما يأتيه أمر الموت وهو غافلٌ عنه تمامًا، لا يلتفت إليه، ولا يحسب حسابه نهائيًا، كل اهتمامه، كل تفكيره، كل اتجاهه العملي نحو هذه الحياة، وأطماعها، ورغباتها، وأهوائها، وآمالها، تفكيره غارقٌ في ذلك، واقعه العملي كله متجهٌ نحو ذلك، يُفاجأ بالموت، وحينها في تلك اللحظة يبَهرُه الموت، فهو يندهش، ويُذهل، يُصاب بالذهول، والدهشة، والفجيعة، وفي نفس الوقت يتحيّر، ويرى نفسه مغلوبًا، لا يستطيع أن يدفع أمر الموت عن نفسه، ولا أن يستزيد في الحياة هذه شيئًا ليعوّض ما فاته، هو يعيش في حالة حيرة، واندهاش، وذهول، وفجيعة، وشعور بالعجز. هذه بهرة الموت، بهرة الموت هي هذه: تجمع لك الذهول، والدهشة، والفجيعة، والحيرة، والشعور التام بالعجز عن تلافي أي شيء، ونعوذ بالله من بهرة الموت.
((وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا، فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا، وَنَعَتْ لَكَ نَفْسَهَا، وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا، فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ ، يَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، ويَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَيَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا، نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ، وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا، ورَكِبَتْ مَجْهُولَهَا، سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ وَعْثٍ، لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقيِمُهَا، وَلَا مُسِيمٌ يُسِيمُهَا، سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى، وَأخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى، فَتاهُوا فِي حَيْرَتِهَا، وَغَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا، وَاتَّخَذُوهَا رَبًّا، فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَلَعِبُوا بِهَا، وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا)).
((وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا))، قد يتأثر الإنسان عندما يشاهد أهل الدنيا- يعني من اتجهوا بكل آمالهم، واهتماماتهم، ودوافعهم، وانشغالهم، وأعمالهم نحو الدنيا، ونسوا أمر الآخرة تمامًا، لا يحسبون حسابها، ولا يعملون لها شيئًا، اتجهوا بكل اهتمامهم وأعمالهم نحو ما في هذه الدنيا، وأصبحوا يتجهون في ذلك بأطماع رهيبة جدًّا، وأصبح لدى البعض منهم إمكاناتٌ غرق فيها، وانشغل بها من هذه الدنيا، واتجه إليها اتجاهًا كليًا، لم يبق عنده أي حساب لأمر الآخرة، ما ترى من إخلادهم إليها، سكونهم إليها، وانسجامهم معها، وانشغالهم الكلي بها، واطمئنانهم بها، حتى لم يعودوا يهتمون بأمر الآخرة نهائيًا، وأصبحوا غارقين بما فيها من الملذات، وما فيها من الإمكانات، وناسين لأمر مستقبلهم في الآخرة- لا تتأثر بذلك.
الإنسان قد يتأثر، قد يرى من أصحاب هذه الدنيا ممن لديهم الإمكانات الضخمة، القصور، المساكن الضخمة، الإمكانات المادية الضخمة، وقد يتأثر بذلك؛ فيتمنى أن لو كان كذلك، أو يتجه عمليًا، بنفس اتجاههم، يكون كل همه: هذه الدنيا، ومتاعها، وإمكاناتها، وشهواتها، ورغباتها، يتجه كل طموحه، كل اهتمامه، كل رغبته، كل عمله نحو ذلك، ويجعلها غاية، غايةً له، فهي حالة خطيرة.
((وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا))؛ لأنهم في اهتمامهم الشديد بها، وتوجه كل عملهم وسعيهم من أجلها، ونسيانهم لأمر الآخرة تمامًا: يتكالبون على هذه الدنيا، يتجهون فيها بكل طمع، بكل جشع، بكل حرص، يستخدمون كل الوسائل للحصول عليها، يظلمون من أجل الحصول عليها، يُفسِدون من أجل الحصول عليها، يرتكبون المحرمات والآثام من أجل الحصول عليها، يفعلون أي شيءٍ مهما كان دنيئًا سيئًا، من أجل الحصول عليها، وهذه أصبحت فلسفة، أصبحت فلسفة في العالم اليوم.
في العالم الغربي مثلًا: في طريقة الرأسمالية، في السعي نحو الحصول على المال والمادة، بأي وسيلة مهما كانت دنيئة، مهما كانت سيئة، مهما كان يترتب عليها من مفاسد، لا يهم ذلك عندهم، المهم عندهم هو: الحصول على المال والمادة، هو تحقيق تلك الرغبات والإمكانات المادية، والمصالح الشخصية؛ التي تلبي رغباتهم وشهواتهم وأهوائهم، مهما كانت مفسدة، مهما كانت سيئة، مهما كانت ضارة، مهما كانت دنيئة، مهما كانت متباينةً تمامًا مع الأخلاق الإنسانية والفطرية، والقيم الإلهية، لا يهمهم ذلك.
فأباحوا في الغرب كل المحرمات، كل المفاسد، المهم أن يكون الشيء من ورائه مال، من ورائه مصالح مادية، من ورائه تحقيق شهوات ورغبات. ثم قدموا لذلك عنوان المصلحة، سمَّوا ذلك بالمصلحة؛ المصالح الشخصية، وفلسفوا بذلك وبرروا مسألة أن يعمل الإنسان أي شيء، كل هذا مصلحة؛ [اليوم من حقي أن أعمل أي شيء لتحقيق هذه المصلحة]، بينما أغلب ما طرحوا له هذا العنوان، وقدموا له هذا العنوان: هو مفاسد، هو سيئات، هو مخازٍ، هو عيوب، هو مضار، وأسسوا لذلك، وروجوا من خلال ذلك بمفاسد شنيعة للغاية، ضربوا بها الواقع المجتمعي عندهم وعند غيرهم ممن يتأثر بهم، فككوا الأُسر، جعلوا ارتباط الناس بالحيوانات بأكثر من ارتباطاتهم الأسرية، في الغرب، في أمريكا، وفي أوروبا، قد تكون علاقة الأشخاص بالكلاب والقطط وإلفِهم لها، بأكثر من علاقتهم بأبنائهم وأقاربهم، تفكك أسري رهيب جدًّا، فوضى عارمة، مفاسد رهيبة جدًّا، فأصبحت حالة رهيبة جدًّا، وفظيعة للغاية، يتكالبون، يتنافسون، يتنازعون، للحصول على هذه الدنيا بأي ثمن.
قامت في العالم على مدى التاريخ حروب كبيرة جدًّا، حروب دولية، في العصر الحديث هذا: حصلت الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، في الحرب العالمية الثانية: كان ضحاياها أكثر من خمسين مليونًا، أكثر من خمسين مليون إنسان، كلها تحت الأطماع المادية، تحت الأهداف الاستعمارية، والتكالب على المناطق التي يريدون أن يستعمروها، وأن يسيطروا عليها، وأن يستحوذوا عليها، والبلدان التي تنازعوا عليها؛ لأن كلًّا منهم يريد أن يتغلب عليها، ويسيطر عليها، وينهب ثرواتها، ويستعبد أهلها.
أكثر المشاكل بين البشر، ونسبة هائلة جدًّا من الصراعات، والنزاعات، والعداوات، والبغضاء، تعود إلى التكالب على هذه الدنيا، الكثير من الناس يسعى لأنْ يحصل على شيءٍ من هذه الدنيا، إن كان يستطيع أن يستحوذ عليه بالغلبة والقهر، والقتل والقتال، لا يتورع عن ذلك، إن لم يكن يستطيع بتلك الطريقة وكان يستطيع بالتحيُّل، وعن طريق المحاكم والقضاء بالرشوة، والاحتيال والنصب، يفعل ذلك، يُنازِع صاحب الحق حقه، ويشغله ويُغرِّمه، ويؤذيه، ويظلمه، ويزعجه، البعض لسنوات طويلة، بهدف أن ينتزع منه ما بيده، ينتزع منه حقه عليه، يصل البعض- من حالة التوحش- إلى أن يظلم قريبته، فيأخذ أرثها، وهو أخٌ لها، أو قريبٌ لها، ويصل الحال بالبعض من الآباء أن يأخذ مهر ابنته، وأن يبيعها كسلعة، وقد يزوجها بمن ليس صالحًا لها: إنسان سيء، ظالم، لا ترغب به هي، لكن همه أن ذلك سيعطيه مالًا ومبلغًا مريحًا، فنظر إليها كسلعة، تجرَّد من مشاعره الأبوية، خسر مشاعره الإنسانية، وجَّه ظلمه؛ وهو الأب الذي كان ينبغي أن يكون الحنون، والحامي لابنته، والمدافع عنها، والمحافظ عليها، فوجَّه إليها ظلمه، وتحول إلى مصدر ظلم لها؛ بسبب الطمع، يريد أن يحصل على المال بأي ثمن.
كثيرٌ من المفاسد، من المظالم يعود إلى التكالب على هذه الدنيا، عندما ينطلق الإنسان بجشع وطمع، يفعل أي شيء، يخون الأمانة، يخون المسؤولية، البعض يكون في مسؤولية عامة، فيخون مسؤوليته تلك، ويأخذ من المال العام لمصالحه الشخصية، وأهدافه الشخصية، ولا يتورع عن ذلك؛ نتيجة ذلك التكالب. البعض من الناس قد يقتل أخاه، أو يقتل ابن عمه، أو يقتل قريبًا له، أو يقتل إنسانًا بريئًا ظلمًا وعدوانًا؛ ليأخذ عليه شيئًا من هذه الدنيا، حاله تكالب! وهكذا كثيرةٌ هي المفاسد!
البعض من الناس قد يتَّجِر في المخدرات، بكل ما فيها من أضرار، ومساوئ، ومفاسد، وما ينتج عنها من جرائم، يوفر لمتعاطيها؛ الذين بسبب تعاطيهم لها يرتكبون أنواع الجرائم: منهم من يقتل، منهم من يرتكب الجرائم الأخلاقية، أو في أقل الأحوال يبيد منهم واقعهم الإنساني، يقتل فيهم روح الحياة، يحولهم إلى أُناسِ مدمنين، لا قيمة لهم، لا دور لهم في هذه الحياة، في وضعية بائسة، سخيفة، سيئة، قتل فيهم إنسانيتهم، وما وهبهم اللّٰه فيها، من مؤهلات إنسانية يؤدون بها دورًا في هذه الحياة، فتضيع حياتهم، ويضيع مستقبلهم بكله، ولا يبالي؛ لأن همه هو المال.
وهكذا كثيرةٌ هي حالات التكالب، على هذه الدنيا التي ينطلق الإنسان فيها، بجشع، وطمع رهيب جدًّا، فلا يبالي بما ألحق بالآخرين من ضرر، ولا يبالي بما ينتج عن تصرفه، بتحقيق أطماعه، من مفاسد أو مظالم، مهما كانت ومهما بلغت.
((فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا، وَنَعَتْ لَكَ نَفْسَهَا))، اللّٰه أخبرنا عن هذه الحياة: أنها حياة مؤقتة، وكيف ينبغي أن ننطلق فيها ونحن نحسب حساب مستقبلنا في الآخرة، حتى لا تتجه كل اهتماماتنا نحو رغبات وأطماع هذه الحياة، وإذا اتجهت فالمفاسد رهيبة، إذا اتجهت أطماع الإنسان نحو هذه الحياة ونسي أمر الآخرة، فالمسألة خطيرة جدًّا، يتعامل ويتصرف بوحشية، بفساد، يتجه بدون أخلاق ولا قيم، تفسد نفسه، تخبث نفسه، يتصرف تصرفات سيئة للغاية. بينما إذا كان الإنسان متجهًا نحو أمر الآخرة، يرى في هذه الدنيا وسيلة وليست غاية، فمهما امتلك، ومهما كان بيده من إمكانيات، لن تؤثر عليه سلبًا.
القرآن الكريم قدم النموذج العظيم: نبي اللّٰه سليمان “عَلَيهِ السَّلَامُ”، بما كان يملكه من إمكانات ضخمة، وقدرات هائلة، وملك عظيم، كيف كانت نفسيته متواضعة، كيف كان عدله، كيف كانت أخلاقه، كيف كانت اهتماماته، كيف اطمأنت حتى النملة أنه لن يتعمد دهسها، وهي النملة،{لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[النمل: من الآية 18]، بينما الكثير من أبناء هذه الدنيا، الذين لديهم منطلقات ودوافع أخرى: يطغى، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6)أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 6-7]، الناس عنده أرخص من النمل، يدهسهم، يظلمهم، يدوس على كرامتهم، وعلى حقوقهم، لا يبالي بهم، ليس لهم عنده أي قيمة، المهم عنده هو أطماعه ورغباته، أما نبي اللّٰه سليمان “عَلَيهِ السَّلَامُ” بكل ما يملك: فهو ذلك الذي يحرص على ألا تُظلم حتى النملة- وهي بصغر حجمها- من خلال جنوده، أو من خلال إمكاناته، هو ذلك الذي يتواضع في كل أحواله، هو ذلك الذي يعرف أن ما بيده هو نعمة، واختبار له، {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُر}[النمل: من الآية 40]، هو الذي ينظر هذه النظرة، أنه في مقام اختبار، وأن عليه أن يتوجه إلى اللّٰه بالشكر، أمام كل نعمة، فحوَّلَ ما بيده إلى وسيلة للخير، وسيلة للعدل، وسيلة لنفع الآخرين، انطلق من منطلقات نظيفة، صالحة، طاهرة، وضبط واقعه بضوابط أخلاقية، وقيَمية، وضِمن تعليمات اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وكانت أهدافه أهدافًا مقدسة وعظيمة، لذلك تعتبر هذه المسألة مسألة مهمة.
إذا كانت اتجاهاتك نحو هذه الدنيا بدافع الطمع والجشع والحرص، وبالدافع الغريزي، فقط رغبات وشهوات وأهواء: كنت كسائر الحيوانات، واتجهتَ بخسارة في نهاية المطاف؛ لأن كل ما تحصل عليه في هذه الدنيا، يصحبه منغصات ويشوبه كدر، ثم ينتهي عليك.
((وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا))، عن عيوبها أنها ليست جديرة بأن تتجه إليها بكل آمالك، بكل عملك، بكل سعيك، وأن تُؤثِرها على الآخرة، وأن تجعلها غايةً بدلًا عن الآخرة، وبدلًا من أن تكون هي وسيلة نحو الآخرة.
الدنيا كشفت لك عن مَساويها، ما فيها من المتغيرات في حال أهلها، كم من غنيٍ صار فقيرًا، كم من ملكٍ أو زعيمٍ أو قائدٍ صار إنسانًا ضعيفًا ذليلًا مقهورًا، أو هلك بإذلالٍ وقهر. مهما ملك الإنسان من هذه الدنيا سيرحل عنه. كم من صحيح البدن، قوي البدن، كان لديه إمكانات ضخمة، ثم اعتلّ، وأصبح غير مستفيد مما بيده من إمكانات. كم يحصل من أحداث، ومآسٍ، ونكبات، ومحن، كشفت لك عن مساويها، وعما فيها من المتغيرات الكبيرة والمذهلة، والمؤثرة، التي تُبيّن أنه ينبغي أن تكون وسيلةً وليس غاية، ليست صالحة لأنْ تكون غايتك، ومنتهى أملك، وأن توجه لها كل سعيك، إذا فعلت ذلك أنت خاسر.
((فَإِنَّمَا أَهْلُهَا))، أهلها من هم؟ الذين توجهوا نحوها، بكل اهتمامهم، وآمالهم، ورغباتهم، وجعلوها غايةً لهم، ونسوا أمر الآخرة: هؤلاء هم أهلها.
((فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ، يَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضًا))، واقعهم هو كواقع تلك الحيوانات، كالكلاب التي تتنافس على الجِيَف، فتتجه لتعوي على بعضها بعضًا، وتدخل في عراك مع بعضها البعض على تلك الجِيَف، وهي تقتتل عليها. ((وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ))، أصبحت مولعة بالافتراس، وهذا حال أهل هذه الدنيا ممن يمتلكون الإمكانات، والقدرات، ويتحركون بتلك النفسية، نفسية أن يحصل على أطماع هذه الدنيا بأي ثمن، حتى بالقتل، حتى بالظلم، أحيانًا تتحرك دول بهذه النفسية؛ كالكلاب العاوية، وكالحيوانات المفترسة، المولعة بالافتراس، تعتدي على شعوب، أو بلدان أخرى؛ بُغية السيطرة عليها، ونهب ثرواتها، تقتل وتظلم، وترتكب الجرائم الفظيعة، تتعامل بكل وحشية، لا ترحم الأطفال، ولا ترحم النساء، ولا تبالي بأحد.
في العصر هذا، ماذا فعلته أمريكا في مختلف بلدان العالم؟ قتلت الناس حتى بالقنابل النووية، أحرقت وأبادت مئات الآلاف من البشر، وهي تتجه نحو ذلك الاتجاه، افترست البلدان، والشعوب، والأمم، وهي تسعى للاستحواذ والسيطرة والنهب، بخيرات الشعوب، ظلمت الشعوب وحرمتها من الانتفاع بمواردها الطبيعية، وثرواتها التي أنعم اللّٰه بها عليها. وغيرها؛ البلدان الأوروبية، ماذا تفعله حتى في أفريقيا؟! بؤس الكثير من الأفارقة: جزءٌ منه يعود إلى ما يفعله الغرب في بلدانهم، وما يهندِس لهم من سياسات تحرمهم من ثرواتهم، لتبقى الثروات لهم، ثم ينزل هذا الواقع إلى مستوى الأشخاص.
كثير من الأشخاص هذا حالهم؛ كالكلاب العاوية، والحيوانات المفترسة، لكن بقدر ما يستطيع، البعض إذا كان يستطيع في نشاطه، في فعله الظالم أن يمارس هذا السلوك الإجرامي بحق الناس، على مستوى قريته، أو أقاربه، أو عزلته، أو بلده، أو جيرانه، فهو يتصرف بتلك الطريقة المتوحشة.
((يَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضًا))، يعوي وينبح بعضها البعض، هي تتنافس وتتنازع.
((يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَيَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا))، كالحيوانات تمامًا، لا يبقى عندهم قِيَم، ولا رحمة بأحد.
((نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ، وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ))، النَعَم: الإبل، وهذا حال الضعفاء، الذين ليس لديهم قُدرة على أن يقتلوا، وأن يسيطروا بالقوة والغلبة، لكن عندهم أطماع رهيبة جدًّا، واتجهت كل آمالهم نحو هذه الدنيا، يفهم ويتجه إلى أن دوره في هذه الحياة: أن يعيش ليأكل، وأن يأكل ليعيش فحسب، ناسٍ لأمر الآخرة، ولمستقبله في الآخرة، لا يحمل أهدافًا في هذه الحياة، لا يعي دوره كإنسان في هذه الحياة، كل همه هو ذلك، يأكل ويشرب ويعيش، وهكذا، يعيش ليأكل، ويأكل ليعيش، حالهم كالإبل، هؤلاء الضعفاء منهم. أما المقتدرون الذين يمتلكون الإمكانات ليقتلوا، ليسيطروا، ليستحوذوا، فهُم كالكلاب العاوية، والحيوانات المفترسة. والآخرون من أهل الدنيا الضعفاء، العاجزون عن أن ينالوا ما يريدونه بالسطوة والجبروت، والقوة، والقتال، والعنف، حالهم كالإبل، إبل مقيدة، هي في حالة مقيدة، قيدها العجز، الضعف.
أولئك الناس الذين هم من أهل الدنيا، مليئون بالأطماع، يتطلعون إلى كل شيء من هذه الحياة، كل اهتمامهم نحوها، لكنهم لا يحصلون إلا على ما قُدم لهم من اليسير، لكن كل اهتمامهم، كل آمالهم: هي قائمة على ذلك الأساس، نحو أطماع هذه الحياة، ورغبات هذه الحياة.
((وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ))، وأخرى إبل مهملة، ليست مقيدة، وليست محفوظة براعٍ، يذهب بها إلى المراعي الإيجابية الجيدة، السليمة النظيفة التي يتوفر فيها المرعى المناسب، مهمَلة، تتجه على غير الطريق، ليست في طريق محددة، ولا هدف محدد، وتذهب إلى المراعي الوخيمة، في وديان ليست حتى وديان صالحة؛ لهذا قال عنهم: ((وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا))، لم يعد لديها فهم، ولذلك لم يعد لديها أهداف صحيحة تتجه على أساسها، ((ورَكِبَتْ مَجْهُولَهَا))، هي تمشي في غير طريق، ليس لها طريق صحيحة محددة توصلها إلى مرعى مناسب.
((سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ وَعْثٍ))، كالإبل التي تسرح إلى المراعي الوخيمة، تأكل منها ما يضر بها، ويفتك بها، ويؤثر عليها. ((بِوَادٍ وَعْثٍ))، وادٍ ليس واديًا مستقرًا؛ أرضه صُلبة، بل كالوديان الرملية، التي فيها أشجار ضارة، فهيا ترعى فيها، وتعاني في الحركة فيها؛ لأنها وديان رملية كلما وضعتْ أقدامها وأيديها فيها نزلت، فتمشي فيها بعناء، والنباتات التي تأكلها: منها ضارة. هذا حال الكثير من الناس، يتجه في هذه الحياة نحو ما يضره، ويفسده، ويرتكب به المآثم، المهم عنده أن يحصل على ما يحصل عليه من هذه الدنيا بأي ثمن، ((لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقِيمُهَا، وَلَا مُسِيمٌ يُسِيمُهَا))، يتولى رعايتها، ويذهب بها إلى المراعي الجيدة.
((سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى))، حالهم هو حال العمى، ولهذا ليس عندهم اهتمام بأمر الآخرة، ولا بمستقبلهم الأبدي فيها، وليس عندهم أهداف مهمة في هذه الحياة؛ لأنه يمكن لك أن تعيش في هذه الحياة حياة طيبة، وأن تقتصر على الحلال، وأن تتربى على القناعة، وأن تنطلق من منطلقات صحيحة، وأن تجعل ما تحصل عليه في هذه الدنيا وسيلة لفعل الخير، للعمل الصالح، للعمل فيما هو رضا للّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، للتحرك به ضِمن أهداف عظيمة ومقدسة، وأن تصون نفسك عن المآثم، والمحارم، والمظالم، والمفاسد، يمكنك أن تفعل كذلك، لكن حالة العمى هي: التي تجعل الإنسان يتجه الاتجاه الخاطئ.
((وَأخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى))، حوَّلت أبصارهم، أخذتها ((عَنْ مَنَارِ الْهُدَى))، عما يدلهم اللّٰه، ويهديهم، وعما يدلهم عليه الهداة من عباده؛ من أنبيائه، من خلال كتبه، وهديه، ونوره، والهداة من عباده.
((فَتاهُوا فِي حَيْرَتِهَا))، حالهم في هذه الحياة: حالُ التائهين، الذين يذهبون؛ ليس لهم هدف محدد صحيح يصل بهم إلى غاية صحيحة.
((وَغَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا))، ما حصلوا عليه من هذه الدنيا: استمتعوا به غاية الاستمتاع، وبدون أي ضوابط، ولا مبالاة بمسألة حلال أو حرام، حتى لم يعودوا يهتمون لما يعود إلى ذلك، وما يترتب عليه في الآخرة. ((وَاتَّخَذُوهَا رَبًّا))، جعلوها كل شيء، فكأنهم جعلوها ربًّا، من أجلها يعصون الله، من أجل الحصول عليها، يرتكبون المآثم، والجرائم، والمفاسد، والمظالم، ولا يبالون بشيء، جعلوها فوق كل شيء، وفعلوا من أجلها أي شيء يستطيعون فعله مهما كان سيئًا، ((فَلَعِبَتْ بِهِمْ))، أصبحوا ألعوبة لها، ((وَلَعِبُوا بِهَا))، واتجهوا فيها بلا مسؤولية، باللعب، بالتصرف الطائش، بالتصرف الحيواني الهمجي، ((وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا))، نسوا ما وراءها، نسوا أمر الآخرة، مستقبلهم الآتي حتمًا.
((رُوَيْدًا يُسْفِرُ الظَّلَامُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الَأظْعَانُ، يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ))، رُوَيْدًا: تمهّل، فعن قريبٍ(( يُسْفِرُ الظَّلَامُ))، ينكشف الظلام بالضياء، ضياء الحقيقة، الإنسان قد يتجه في واقع الحياة منهمك، مثلما شرحه أمير المؤمنين عن حال أهل الدنيا؛ غارق، تائه، ضائع، لا يلتفت أصلًا، وقد يسخر منك إذا ذكَّرته أو نبهته، وقد لا يتفهم أصلًا أن يصغي إليك أي إصغاء، قد أصبح غارقًا بشكل تام، وتائهًا بكل ما تعنيه الكلمة، ولكن يُفاجأ عندما ينتقل من هذه الحياة، المفاجأة عندما يأتيه الموت، ثم ينتقل إلى الدار الآخرة، فإذا به يبصر الحقائق التي كان قد تعامى عنها، وتجاهلها، وغفل عنها بشكل تام، ونسيها، البعض يصل إلى درجة النسيان تمامًا، كأنه ليس هناك آخرة أصلًا، ولا حساب، ولا جزاء، ولا جنة، ولا نار، يُفاجأ، يُدرك أنه كان تائهًا، ولكنه كان مسافرًا إلى الدار الآخرة، ولذلك انتقل وهو غير مستعد. ((رُوَيْدًا يُسْفِرُ الظَّلَامُ))، تلك الحالة- من العمى والغفلة، والتناسي، والتجاهل- تنتهي، أتاه أمر الموت، ومن بعد الموت أمور الدار الآخرة، وأخرجته من تلك الوضعية، فأبصر وأدرك، {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}[السجدة: من الآية 12]، يتيقن الإنسان، ينتبه، يدرك أنه كان ضائعًا، غافلًا، تائهًا.
((رُوَيْدًا يُسْفِرُ الظَّلَامُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الَأظْعَانُ))، كأن هي لحظات، ثم تأتي تلك المرحلة، كل هذه الدنيا شيءٌ يسير، وقتٌ يزول، ينتهي، يدرك الإنسان أنه كان وقتًا قصيرًا، وأنه في مقابل وقتٍ دائم وأبدي، مستقبل لا نهاية له؛ فيتحسر وينتبه، وتلك الحالة هي التي قال اللّٰه عنها في القرآن الكريم: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق: 22]، عندما كشف اللّٰه عنك غطاءك، أبصرتَ تلك الحقائق، أصبحت واعيًا، مدركًا، فاهمًا ،منتبهًا، لكن بعد فوات الأوان.
((كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الَأظْعَانُ))، الأظعان: وسائل النقل التي تصل بالمسافرين، وعندما يصلون ويلحقون بمن تقدمهم، وهذا حال البشر، ((يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ))، الحركة مستمرة نحو الانتقال إلى الدار الآخرة، الإنسان في رحلة العمر: مسافر إلى أجله، ويأتي أجله وينتقل، والذين قد تقدموا سيلحق بهم الآخرون. وفي كل يوم هناك قوافل من البشر، في كل يوم، اذهب إلى المستشفيات الكبرى، تأمل واقع الناس، في كل يوم من الأيام هناك قوافل ترحل من البشر، يرحلون من هذه الحياة، والباقون لاحقون بهم، آجالهم تمشي بهم نحو تلك النهاية، الانتقال منها إلى الغاية، ولهذا قال: ((يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ)).
((وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ، فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفًا، وَيَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا وَادِعًا))، مطيَّتُك؛ وسيلة النقل التي تسافر بك إلى الدار الآخرة: هي الليل والنهار، فكل يومٍ يمضي، كل ليلةٍ، وكل يوم يمضي من عمرك، هو يقربك من أجلك، يقربك من الموت، فأنت مسافر، حتى ولو كنت باقيًا في منزلك، مستقرًا فيه، ساكنًا فيه، لا تبرح منه، أنت مسافر، حركة الليل والنهار التي تمر بها، هي تقربك من رحيلك من هذه الحياة، هي تقربك من أجلك، ((فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفًا، وَيَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا وَادِعًا))، مستريحًا في مكانه، لكنه في واقع الحال مسافر، وأجله يأتي، فتنتهي رحلته في هذه الحياة، لتبدأ مسألة مرحلة الانتقال من هذه الدنيا.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛