صمود وانتصار

منطق الحق من عصمة النبي إلى ولاية الوصي

الصمود|| مقالات|| إبراهيم محمد الهمداني

لعل من نافلة القول التأكيدَ على عصمة الرسول -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- وتنزيهه من كُـلّ ما يشين ويعيب ويقصر به عن بلوغ مقام الكمال والجلال، وهذا المبدأ له أهميته البالغة وخطورته الكبيرة في تكوين الجانب الإيمَـاني لدى الفرد، وتحديد طبيعة علاقته بمنظومته الدينية، التي تعد منهج حياة شامل وكامل، يقدم الحلول الناجحة لكافة المشاكل الوجودية والميتافيزيقية.

 

وإذا كان مبدأ العصمة من البديهيات، التي لا مجال لإنكارها أَو التشكيك فيها، حسب اعتقادنا ومجمل إيماننا، فَــإنَّ هناك ممن يزعمون الانتماء إلى هذا الدين، من يخرقون هذا المبدأ، وينكرون تلك البديهية، وينتهكون قداسة النبي -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-، منكرين عصمته ومؤكّـدين وقوعه في ما يعيب ويشين، وحاشاه من ذلك.

 

يمكن القول إن البذرة الأولى لذلك الانحراف الخطير، زُرعت بيد معاوية بن أبي سفيان وعصابته، الذي حاول بشتى الوسائل والسبل شرعنة اغتصابه لولاية أمر المسلمين، وتأسيس استحقاقه بالحكم، وكان فقهاء السوء وعبيد المال، هم وسيلته الرئيسة لبلوغ تلك الغاية، ورغم ما فعلوه لأجله من وضع أحاديث في فضله، وتأويل الآيات بما يخدم مصالحه، إلا أنه لم يكتف بذلك، بل أوعز إليهم بخرق مبدأ العصمة، والقول ببشرية الرسول -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-، التي تجاوزوا بمعناها ومقصودها المؤكّـد لطبيعة الخلق ومادة التكوين، إلى تكريس الطباع والغرائز البشرية السلبية، في صورة شخصية النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ليصلوا بذلك إلى التأكيد على أن ما يصدر عنه من غضب أَو سخط على شخص ما، إنما هو من قبيل رد الفعل الشخصي والانفعال النفسي لا أكثر، وأن ما يصدر عنه -أَيْـضاً- من إشادة بفضل أَو مكانة شخص ما، فليس إلا من ذلك القبيل، رد الفعل الآني، وهذا هو ما جعلهم فيما بعد يعقدون فصلاً في صحيح البخاري يذكر من دعا عليه رسول الله أَو لعنه وفي ذلك خير له، والأحاديث المذكورة في ذلك الفصل لا تتناول أحداً غير معاوية وأباه، واستناداً على ذلك حاولوا تبرير قوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، بشأن معاوية: “لا أشبع الله له بطناً”، بأنه غضب شخصي وردَّة فعل آنية، ما لبث الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، أن اعتذر عن ذلك الدعاء، بهذا الحديث الموضوع الذي نسبوه إليه.

 

وأما قولهم ببشرية الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، استناداً إلى قوله تعالى: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ”، وغيرها من الآيات، التي وردت -غالبًا- إما في سياق إنكار الكفار لمبدأ بشرية الرسول، وضرورة أن يكون من جنس الملائكة، وإما في سياق رد الرسول على طلب قومه منه القيام بمعجزات وخوارق فوق العادة، مؤكّـداً على انتمائه إلى الجنس البشري، المفتقر إلى الله تعالى دائماً في جلب الخير ودفع الضر، بقوله كما أمره جل وعلا: “قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا”، وأن ما تحقّق له من المعجزات، لا حول له فيها ولا قوة، وإنما هي شواهد وبراهين دامغة، لإثبات صدق قوله، وصحة رسالته، وهي دلائل وحجج أجراها الله تعالى على يديه، وأيده بها على مكذبيه، وبهذا يمكن القول إن بشرية الرسول من حَيثُ طبيعة الخلق ومادة التكوين، أمر لا خلاف عليه، ويجب الوقوف عنده، وإن الانحراف بمعنى بشرية الرسول إلى نفي العصمة والقداسة عنه، لا يعدو كونه قولاً ساقطاً، وفكراً يهودياً شاذّاً، الهدفُ منه هدمُ كُـلِّ قداسة، وُصُـولاً إلى تشويه صورة الله تعالى وتجسيمه وأنسنته، وهدم كُـلّ عصمة، وُصُـولاً إلى استباحة دم الإنسان، وإشاعة القتل والدمار والتوحش، باسم الله والدين والأنبياء.

 

ومن منطلق الإيمان بمبدأ عصمة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، المؤكّـدة بقوله تعالى: “وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى”، جاء القسم الإلهي العظيم، لينفيَ عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-، صفتَيْ الضلال والغواية، وكلّ ما يتصل بهما أَو يندرج تحتهما، من سمات القصور والعجز والنقص والعيب، مؤكّـداً عصمته المطلقة في سائر أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وَ… إلخ، التي لا تصدر عن هواه أَو رغبته أَو ردة فعله، بل هي وحيٌ يُوحى إليه من الله تعالى، لا تختلف في قداستها وأحكامها عن التنزيل الكريم، وقد تأسس إثبات العصمة المطلقة -للرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- على تخصيص النطق لدلالات عدة، منها:

 

1- إن النطق الذي يبدأ من الصوت المبهم ويصل إلى القول المفهم، لا يعدو كونه وحياً مقدساً.

 

2- إن النطق/ الكلام هو الأَسَاس الذي تُبنى عليه الأفعال والسلوكيات والرؤى والأفكار، وهو وسيلة التفاهم والتخاطب، وَإذَا كان هذا النطق بالنسبة للرسول -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-، وحياً مقدساً، فكذلك الحال بالنسبة لكل ما يتصل بالنطق وما يصدر عنه وما يُبنى عليه، انطلاقاً من الخاص إلى العام.

 

3- إن النطق/ القول/ الكلام -وما ينطوي عليه- الصادر عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، رسائل إلهية مقدسة؛ باعتبار مصدرها، الرسول المعصوم، ومرجعيتها الإلهية “علمه شديد القوى”.

 

إضافة إلى تلك الأدلة النقلية وهي كثيرة، فَــإنَّ العقل يأبى نفي العصمة عن الأنبياء والرسل، ويرفض أن يتلقى تعاليم دينه، ويرتبط بإلهه وخالقه، على يد إنسان غير معصوم، معرض للخطأ والنسيان والرغبات والنزوات والشهوات وغير ذلك من مكامن النقص والقصور، التي لا يمكن قبولها في أي قائد عسكري أَو حاكم أَو رئيس -نظراً لأهميّة وخطورة منصب القيادة-، وكَثيراً ما يتم التغاضي عنها على مضض، فما بالك بالقول بمحاولة إثباتها في أنبياء الله ورسله؛ مِن أجل غايات نفعية ومصالح شخصية، وتدجين العقول واستعباد الناس، والانحراف بمعنى الاستخلاف ومقتضى العبودية لله وحده، وَإذَا كان الأسلاف الكافرون المعاندون قد احتجوا على رسلهم بنفي العصمة عنهم -وما يترتب على ذلك من دحض حجّـة الرسل ورفض رسالاتهم- قائلين: “إن أنتم إلا بشر مثلنا، ما أنت إلا بشر مثلنا”، فليس ذلك إلا من قبيل التأكيد على صفات العجز والقصور والنقص، التي يستحيل تصديق دعوى صاحبها تكليفه بأداء الرسالة الإلهية، وهو على تلك الحالة البشرية، والافتقار للكمال والعصمة.

 

وبناءً على ما سبق نصل إلى قول الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- يوم غدير خم، مؤكّـداً ولاية ومكانة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، “من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، عليٌ مع الحق والحق مع علي”.

 

وانطلاقاً من إيماننا المطلق بـ “إن هو إلا وحيٌ يُوحى”، نستنبط حقيقة الأمر الإلهي، الذي صدع به وبلغه رسوله الكريم الأمين، بما يتضمنه الخطاب من الترابط الشرطي، “من كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه”، الذي يقتضي إما تحقّق الإيجاب المطلق، بموالاة الله ورسوله والذين آمنوا، بعموم الخطاب، وعلي بن أبي طالب بخصوص النص، والإشارة إليه صراحة، فمن سلَّم بالله تعالى وليَّاً وناصراً، يجب أن يسلم برسوله ولياً وهادياً، ويجب أن يسلم بوصيه وباب مدينة علمه ولياً وقائداً، ومن أنكر إحداها لم ينفعه إيمانه بالبعض الآخر؛ لأَنَّ الشرط تسلسلي مترابط.

 

وإما إثبات السلب والرفض المطلق، ولذلك لا نستغرب من الذين ينكرون ولاية رسول الله أَو ولاية وصيه أمير المؤمنين؛ لأَنَّهم لم يعترفوا بولاية الله تعالى عليهم، وإلا فما معنى “من كنت مولاه، فهذا عليٌ مولاه”، غير المكانة الرفيعة التي يوضحها أكثر قوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: “أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي”.

 

إن المسكوت عنه في نص الحديث يفضي إلى دلالات كبيرة وكثيرة، فإثبات الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام، يؤكّـد أنها اصطفاء إلهي وتكليف رباني، شأنها شأن الرسالة، وأن الإيمان لا يكتمل إلا بأُلوهية الله تعالى ونبوة محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- وولاية علي عليه السلام، وما سواها فباطل محض ونفاق واضح.

 

“من كنت مولاه، فهذا عليٌ مولاه”، ومن أنكر ولاية علي، فليس الله تعالى مولاه ولا الرسول مولاه، “وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ”، ومن يرفض أَو ينكر ذلك أَو بعضاً منه، فَــإنَّ الله تعالى “يعذبه عذاباً أليماً”.

 

ذلك؛ لأَنَّ الله تعالى “وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا” بكل ما بلَّغه وأمر به من لا ينطق عن الهوى عن ربه، وليس الله بمولى للذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، “وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ”.

 

“اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، عليٌ مع الحق، والحق مع علي”.

 

يفصح هذا الشطر من الحديث عن الحال الذي أصبح عليه مجتمع الصحابة، بعد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- من الانقسام والتحزب إلى فئتين:

 

– منهم من آمن وسلَّم وصدق ونصر.

 

– ومنهم من انقلب على عقبيه وجحد وأنكر، وحارب الله ورسوله.

 

مرة أُخرى تفتح أمامنا بنية المسكوت عنه في النص، آفاقاً جديدة ومعارف ودلالات شتى، إذ لم يقف أمر الإيمان بالولاية عند ارتباطه الشرطي بالنبوة والرسالة، بل تعداه إلى مستوى أعلى ومقام أرفع، بالدعاء والطلب من الله تعالى، بموالاة من والى عليًّا، ومعادَاة أعدائه، فمن كان مع علي -عليه السلام- كان الله معه ولياً وناصراً، ومن وقف ضد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وحاربه وعاداه، فقد نصَّب نفسه لحرب الله وعدواته، وبما أن عليًّا عليه السلام والحق مرتبطان بعلاقة تلازم العطف والمعية في التكامل والحضور، “علي مع الحق والحق مع علي”، فمن لم يوالِ عليًّا/ الحق، فهو على الباطل، وهو عدو الله تعالى، والشيطان وليه؛ لأَنَّ من لم يكن مع الله، لن يكون إلَّا مع الشيطان، فلا يوجد حياد ولا منطقة ثالثة ولا منزلة بين المنزلتين.

 

حاول بنو أمية ومن لفَّ لفهم، تغييب أمير المؤمنين علي -عليه السلام- خُصُوصاً، وآل البيت عُمُـومًا، من صفحات التراث التاريخي والفكري والديني والثقافي والسياسي، من خلال وضع أحاديث في مناقب آخرين تضاهي مناقب علي عليه السلام، وإخفاء معظم ما ورد عنه أَو في شأنه في مختلف كتب الحديث والتفسير، وإضفاء اللامبالاة بالأحاديث التي ذكرته ولم يستطيعوا إخفاءها أَو تحريفها، فتلاعبوا في معناها ودلالاتها، ورغم كُـلّ ما فعلوه وما يفعله أتباعُهم وذريتهم حتى اليوم “وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ”.

صدق الله العلي العظيم.