صمود وانتصار

عشرة دروس.. من عاشوراء

الصمود|| تقارير|| د. حمود عبدالله الأهنومي

 

في مقام الإمام الحسين وثورته الخالدة يجدر بهذه الأمة أن تستمع للدروس الرائدة التي استلهمتها من كربلاء عبر أثيرها الخالد المتضوِّع بمسك دماء السبط الشهيد سلام الله عليه، والتي يتردد صداها في كل زمان ومكان؛ إذ يفترض أنه حينما يكون هناك ظلم وانحراف فإنه بالضرورة الحسينية يجب أن يكون هناك ثورة، وحيثما يكون هناك يزيد فيجب أن يكون هناك الحسين.
إن الاستفادة من التاريخ عظةٌ قرآنية، وهديٌ إلهي، أما إذا كان استحضار شخصية تاريخية بحجم الحسين لتأخذ منه الأمة ذلك العزم الذي ظهر به وحيدا يتحدّى جحافل الطغيان والجبروت ليكونوا على شاكلته في قضاياهم المعاصرة، وليكون لنا حسينيون في مواجهة مشاريع الاستكبار والاستبداد فإن ذلك هو الدرس الذي يجب أن نهدي أنفسنا وأجيالنا إلى الاستماع إليه بإنصات ووقار وحسن استجابة.
الحسين سلام الله عليه وثورته الخالدة دروس لا تنتهي، فكل موقفٍ وقفه يمكن الإفادة منه، وكل كلمة نطقها تهدي أمما كثيرة، وكل صرخة لوّح بها ضد الظالمين تهزِم كلَّ غليظ متكبر.

مشكلة المسلمين أنه ينقصهم الوعي بالتاريخ، وقُدّر لهذه الأمة من ذاتها مَنْ يجلد ظهرها بسياط التبديع والتضليل إن احتفت بشهيد، أو احتفلت بعيد. ولعل تحرك المبدِّعين والمضللين لمن يحتفل بأعلام الأمة كان بإيعازٍ من طغاة الأمة؛ حيث هم المتضررون من أي احتفاء أو احتفال أو تذكّر ذكرى.
منهج الظالمين لا يختلف زمانا عن زمان، ولا مكانا عن مكان، وقوة الحق الجبارة والخالدة لا تقف عند أيٍّ منهما، والظالم اليوم الذي تواجهه الأمة تحت أي مسمى هو ذلك الظالم الذي واجهه الحسين، فإما أن نستدعي الحسين مُعَلِّما يلقننا مبادئ العزة والكرامة وأخلاق العظماء، وعطاء الشهداء، فندخرها لمواجهة المستبدين، وتدمير الظالمين، وإما أن نذهب نحو أساتذة الفراغ، واللامبالاة، واللاموقف فنكون أشباههم، ونسخا على منوالهم، يعبث بنا الظالمون كيفما أرادوا.

 

لقد ظل الحسين عليه السلام يشكِّل الهوية الحقيقية للإسلام المحمدي الأصيل، حينما أثخن الأمويون الجراح في جسد الإسلام واستعادوه مصلوبا على أعواد الجاهلية – بعث الحسينُ ومبادئُه وأخلاقُه وثورتُه الحيويةَ المطلوبةَ لاستعادة الدين والإسلام في صورته الناصعة والقوية، كان لا بد إذًا من زلزلة مجتمعية تفضح الفكر المهادن للظالمين، كان لا بد من صوتٍ عالٍ يُسْكِت كل ذلك الصخب الذي شوّش على صوت الفطرة الإسلامية، وإن كان ثمنه رأس الحسين يتلعّب به سفهاء الأمة من بلد إلى بلد.

الأمة اليوم وقد أذاقها المستبدون الداخليون والمستعمرون الخارجيون ألوان العذاب، ما أحراها أن تصلي في محراب الحسين، وأن تستمع للحسين وهو يخطب في عزتها، ويستثير نخوتها، ويستنبت مجدها، ويدلها على خير دينها ودنياها. وإذا كانت مشكلة الأمة وزعاماتها هو فقدان الثقة بذاتها وبحضارتها أمام المستعمرين الجدد، حيث المشكلة تربوية نفسية، بسبب ضعف المناهج الدراسية التي بعمد عامد تتنكّب سبيل العظماء أمثال الحسين وزيد والنفس الزكية، فجديرٌ بها أن تأخذ تلك الدروس المفقودة من ثبات الحسين وكبريائه وعظمته أمام أولئك الطغاة المذنبين، جدير بنا أن نستخرج أولئك العظماء ذوي الثقات العالية ليفيضوا علينا مما آتاهم الله من فضله .

 

طالما شكّل الإمامُ الحسينُ وأهلُ بيته الثوار الأحرار، وأولهم حفيده الإمام زيد بن علي النهر المتدفق بالعطاء الذي ليس وراءه ولا مثله عطاء، فأصبحوا القدوات لكل الثوار الأحرار في العالم، وكانوا منارات هتاف الحرية ونداء القوة الناصع.

هذا الصوت الحسيني (هيهات منا الذلة) صنَعَ أمماً لا يشق لها غبار، وخرج من ظلاله أسود لا يرهبون الطغيان، كان الحسين إمامهم وقدوتهم، وشعاره شعارهم، أعجزوا الاستبداد والاحتلال، ودوّخوا الاستكبار والعمالة، وما يدور في اليمن من أحداث قوية، وثبات شعبي أسطوري أمام الهجمة اليزيدية الجديدة، أثر من آثار المضي في هذه الطريق الحسينية، ومظهر من مظاهر قوة الحق الجبارة التي تهتدي بقوة موقف الحسين عليه السلام.

لم يعد الحسين إماما للشيعة، بل هو قبلة لكل الأحرار الثوار المسلمين، بل إنه قبلة كل الذين يريدون تناول النصر من قوة الصبر، ألم يقل زعيم الهند ومحررها (غاندي): «على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالحسين».

 

الدرس الأول: الثورية الواعية
الوعي هو النظر المتمعن في مقاصد الإسلام ودستوره وأحكامه، والنظر بتمعن في الواقع ثم اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، إنه القرار الحصيف والحكيم من خلال القراءة الدقيقة للمفترض والواقع، حينما يذهب المتضررون والمتحمسون للثورة بدون وعي أو نتيجة ردة فعل انتقامية فإن النتيجة أن يغرق الثوار في وحل الاختلاف وقصور الرؤية والتوظيف الخاطئ للثورة، وسيتم إهداؤها للانتهازيين في نهاية المطاف، وسوف لن تنتصر هذه الثورة وتحقق ما تصبو إليه، وغاية ما في الأمر أن تستبدل ظالما بآخر ينتَهِزُ فرصتَها السياسيون المخادعون، وقد كان أعظم الوعي وأكثره بيانا في ثورة الحسين سلام الله عليه التي انتصرت، وأسست للفكر الثوري الناضج والحضاري داخل مجتمع الإسلام الذي يتربع على حكمه الطغاة، إذا أردنا أن نفرق بين ثورة الإمام الحسين سلام الله عليه وثورة حيان بن ظبيان السلمي، وهو ثائر خارجي ثار على بني أمية قبل خروج الإمام الحسين بحوالي 3 سنوات فقط، وقتِل مع جميع أنصاره، فإننا نجده في الفهم الواعي للإسلام وعلاقته بالفرد والمجتمع، الذي جاء ليكرم الإنسان ويعمل لصالحه واستقراره.

إن الثورة الواعية تعني البصيرة التي دعا الإمامُ زيدُ بن علي عليه السلام أصحابه أن يكونوا عليها، تعني أن تكون الثورة منطلقة من الوعي بالدين الذي يأمر بهذا الفعل الثوري، تعني أن تلزمك الأسباب الموضوعية للثورة، ثم تتضح لديك الصورة والرؤية المسبقة والهدف المشروع من وراء الثورة وطريقها ومآلاتها.

يتصوّر البعض أن الحسين عليه السلام عانى أزمة نفسية وضغوطا مجتمعية جعلته يُقْدِمُ على الموت استبسالا، وأن ثورته كانت وليدة انفجار عاطفي لما ضاقت به الأرض بما رحبت، وهذا هو الظلم الحقيقي للإمام الحسين وتحركه في مشروعه الإحيائي الكبير. إنه تصور خاطئ صوّر الحسين بطلا مغامرا يلتزم قيم الشجاعة والفتوة، وكأنه لا علاقة له بالدين والإمامة وحمل مشروع الإسلام الصحيح الذي جاء به جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إن مراجعة للوضع التاريخي الذي عاش فيه الإمام الحسين في حياة والده وأخيه الحسن ثم بعد استشهاده بالسم ومواقفه السابقة تظهره يرتب وضع الثورة ويخطط لها بتؤدة وتأنٍّ، وأنه كان يرى وجوب الثورة على حكم معاوية نفسه، لولا أن معاوية كان يلبِّس على العامة من الناس بتلبيسات كثيرة، وأي ثورة تكون عليه لا سيما بعد إبرام أخيه الحسن الصلح سيكون ضررها على المجتمع أكثر من نفعها، لقد أراد الإمام الحسين الوفاء بما تم الصلح عليه، رغم اقتناعه بوجوب الثورة على معاوية، لقد كان ثائرا على النظام الحاكم الذي جاء بيزيد قبل أن يثور على يزيد نفسه (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص277ـ278؛ والبلاذري، أنساب الأشراف، ج3، ص369- 370.410؛ وحمادة، الوثائق السياسية، ص172-173).

كان الحسين عليه السلام يعلم أن الأمويين سيحاولون إجباره على البيعة ليزيد، لكن أنى لهم ذلك، ونفسيته تلك النفسية، ووعيه ذلك الوعي، حيث تعني البيعة ليزيد -المتظاهر بالفحش والمجاهر بالفسق والعادل بالأمة عن سواء الصراط -الإقرار بذلك الوضع، وإكسابه المشروعية، لقد كانت ثورة الحسين ضرورة شرعية يجب القيام بها لإعادة إحياء الدين الإسلامي الأصيل الذي تعرّض لمرحلة متقدِّمة من التشويه والتحريف.

 

سمعت زينب الكبرى الحسين سلام الله عليهما في كربلاء وهو يردد شعراً:
يا دهر أف لك من خليل
كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل
والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل
وكل حي سالك السبيل

فوثبت وعلمت أنه ذاهب إلى الشهادة، وسألته: أستقتلت نفسي فداك؟ فأجاب الحسين: «لو ترك القطا لنام».

لقد كان يعلم أن الأمويين لن يتركوه وشأنه، وأنهم سيستحلون الحرم لو لجأ إليه، وهو ما حصل لاحقا حين ثار أهل المدينة وعبدالله بن الزبير.

لقد كان يعي تطورات الأمور، ويعي المسؤولية التي ألقت بثقلها عليه، وأنه لا بد أن يتحرك في تلك الظروف مهما كانت النتائج.

بالوعي يمكن للثوار أن يكتبوا نصرهم الخالد حتى لو رآهم الناس منهزمين في الشكل المادي، وهذا هو ما فرّق في واقعنا المعاصر بين ثورة اليمنيين التي لا زالت مستمرة حتى اليوم، وثورة الإخوان في مصر، وتونس.

 

 

الدرس الثاني: حكمة وعلم قيادة الثورة
قال الإمام زيد بن علي عليه السلام حين برز للجهاد: «سلوني، فو الله ما تسألوني عن حلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وأمثال وقصص إلا أنبأتكم به، والله ما وقفت هذا الموقف إلا وأنا أعلم أهل بيتي بما تحتاج إليه هذه الأمة».

إن لفظة (ما تحتاج إليه هذه الأمة) تشمل كل ما تحتاجه الأمة تشريعا وتطبيقا، مفترضا وواقعا، تنزيلا وتأويلا.

إن الوعي الثوري يأتي نتيجة كون القائد الثائر عالما وحكيما، والعلم هو العلم بالنظرية الإسلامية بشكل جيد وكاف، والعلم بالواقع، والعلم بكيفية إيجاد علاقة صحيحة شرعية بين الشرع والواقع.

وقف في طريق الإمام الحسين الثوري طابور طويل من المعتنين بالدين لثنيه عن ثورته، وكانت لهم حسابات دينية وثقافية واجتماعية وتقديرية، ومن هؤلاء ابن عباس وكان أحد علماء هذه الأمة وحذاقها، ولكن علم الحسين سلام الله عليه بوجوب أن يقوم بما يجب عليه من أمر بمعروف ونهي عن منكر، وأن تلك الظروف مهيأة للثورة، توفرت لديه الحيثيات الكثيرة التي تقنع مثله بوجوب القيام في مثل تلك الظروف، وأنه آن الأوان لإيقاظ الأمة التي تنساق وراء حكامها لإماتة الإسلام، وآن الأوان لفعلِ عملٍ مبادر، ينطلق من أسس معرفية صحيحة متطابقة مع الشرع .

يختزل البعض الإمام الحسين فيظهره وكأنه لا شأن لديه إلا الثورة والإباء، وكأنه كان لا يُحْسِنُ أن يُقَدِّمَ للأمة درسا آخر تستفيد منه فيه، وهذا اختزال غير بريء لحركة الإمام الحسين وشخصيته العظيمة.

فلم تكن كل أيامه سلام الله عليه قتالاً، ولم يكن خياره الحصري القتال والحرب، إن يوم عاشوراء الدامي كان يوما واحدا في حياة الإمام الحسين الطويلة والمملوءة بالدروس والتعاليم، أيامه كلها حكمة، وتعليم، وإنتاج، إنه الجهاد بأوسع معانيه، ثم جاءت الحرب والثورة باعتبارها ضرورة مفروضة وماسة، فكانت.

إذا تتبعنا الحسين سلام الله عليه وجدناه قبل أن يكون بطلا ثائرا، مزارعاً منتجاً في مزرعته بالبغيبغة في ينبع (البكري، معجم ما استعجم، ج2، ص659؛ وياقوت، معجم البلدان، ج1، ص469؛ وابن عساكر، تاريخ دمشق، ج57، ص246؛ وابن حجر، الإصابة، ج8، ص279)، والثائر الثقافي الذي اتخذ من الحج موسما لنشر دعوته وعلمه فحج لأكثر من 25 سنة.

لقد كان الحسين العالم، قبل أن يكون الثائر، وكان المعلم والمربي قبل أن يكون القائد والمحارب، قال معاوية لرجل من قريش : إذا دخلتَ مسجد رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم فرأيتَ حلقةً فيها قومٌ كأنَّ على رؤوسهم الطير – فتلك حلقة أبي عبد الله، مؤتزراً على أنصاف ساقيه ، ليس فيها من الهُزّيلى شيء (ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج14، ص179).

وهذا الصحابي عبدالله بن عمر بن الخطاب، عندما حوسب على عمله وذُكِّر بعمل الحسن والحسين عليهما السلام وهما أصغر منه، أقرّ أنهما كانا «يُغَرّان العلم غرًّا» من رسول الله، أي يزقّانه زقا، كما يزق الطائر فرخه، وهو أي الإمام الحسين سلام الله عليه هو من علّم أولاده وأهل بيته، فالإمام زيد بن علي عليهما السلام يروي الحديث عن والده زين العابدين، عن جده الحسين، عن علي عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

كان سلام الله عليه قبل أن يكون قائد ثورة قد حمل مؤهلات القيادة في كل شيء، لقد ميّزه علمه عليه السلام بالواقع ليضطلع بالدور المنتظَر من أمثاله في إحياء الإسلام وإماتة الرجعية العربية القبلية، ولعل القيادات الجاهلة التي حكمت هذه الأمة في هذا القرون المتأخرة هي من أوصلت الأمة إلى هذا الفراغ العلمي الذي نحن عليه اليوم.

إذا يتبيّن أن من الأهمية بمكان كون القائد عالماً، بما تحتاجه الأمة نظرية وتطبيقاً كما قال الإمام زيد بن علي عليهما السلام.

ونحمد الله معشر اليمنيين اليوم أن هيأ الله لنا قيادة حسينية باركها الله بالعلم والحكمة والشجاعة والحنكة، هو السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، وهي نعمة من الله تستوجب الشكر العملي عليها.

 

الدرس الثالث: المبدئية الثورية
هناك محرمات واضحة وبينة ولن يخدم التساهل فيها الثورة ولن يؤدي إلى انتصارها، الدين متغلغل في كيان الحسين سلام الله عليه؛ لهذا لم يساوم في دينه، رفض أن يبايع ليزيد من أول يوم، حيث لا مجال لديه عليه السلام للمراوغة وللمخاتلة، لقد كان عليه السلام ترجمان القرآن في عصره وهادي الأمة، ووارث تعاليم نبيها الكريم صلى الله عليه وآله، لقد حسم خياره من أول وهلة، هذه مسألة مصيرية.

هل يمكن أن يعطي الحسين سلام الله عليه مسحة دينية على الحكومة الفاجرة ليزيد؟ هل يمكن أن يغفل الحسين أنه حين يبايع ليزيد القرود – أنموذج الحاكم الطاغية الذي يلهث وراء الشهوات – أنه سيضفي الشرعية المطلوبة للظالمين، لو كان الحسين سياسياً بالمعنى الميكيافيللي لبايع يزيد، وعمل بمبدأ التقية برهة ثم انقلب عليه حين تواتيه الظروف، وتتغير المعادلات والموازين، لكن إضفاء الشرعية للحكام الظالمين لا يجوز.

حتى لو فعل ذلك، فإن الأمويين سيأخذون هذا الموقف المهادن منه على أنه هو الحق، فإذا خالفه، وثار عليه قالوا إنه متمرد، تمرد على ما كان آمن به، إنه شق عصا المسلمين، إنه غدر بالبيعة وبإمام عصره، وهذا ما لا يمكن أن نجده في أخلاق سادات أهل الجنة والعظماء الذين تصغر الدنيا في أعينهم.
حين يصير الأمر بمثابة التعمية والتلبيس على العامة من الناس يجب أن يجهر العالم القائد بكلمة الحق ولو علم أن في ذلك هلاكه، يجب أن يحدِّد خياره من أول وهلة.

إذن فلنحذر الوقوع في مطبات الانتهازيين التي تقتل الدين في نفوسنا وفي موقفنا، وتحوّله إلى وسيلة يمكن التخلي عنه أو استبداله، وهو الذي يُفْتَرَضُ أننا نحاول إحياءه في واقع الأمة، لا يمكن لك أن تميت الدين في قلبك كوسيلة للوصول إلى إحيائه في الأمة، إن فاقد الشيء لا يعطيه.

لو أخذ الإمام عليه السلام بمبدإ الغاية تبرر الوسيلة، فإن ذلك هو ما يجعل من يتحرك في حقل الثورة الإسلامية انتهازيا وسوف لن تطيل به المدة، سيشنّع عليه بذلك الموقف المهادن والمتلون أكثر من التشنيع عليه بكونه كان مبدئيا، ومصمما على مسيرته، وهذا مثال صارخ عاصرناه، هل ساهمت الانتهازية التي بدا عليها (الإخوان المسلمون) في مصر بشيء يذكر في استمراريتهم في الحكم؟ ما إن وصلوا إلى الحكم، حتى وقعوا في فخ الانتهازية، طمأنوا إسرائيل والغرب، التزموا باتفاقيات وقرارات تخالف ما قد أعلنوه زمانا بين الناس باعتباره من مبادئهم، فكان عاقبتهم أن سخر منهم الناس، ووضعوهم في دائرة الاحتيال والخداع الذي ينبغي أن يتنزّه عنه المسلم الحقيقي، ولم ينفعهم من ذلك شيء.

 

الدرس الرابع: عاقبة التفريط والخذلان
غادر الإمام الحسين في رجب 60 هـ من بين أولاد المهاجرين والأنصار في المدينة، ولم يجد منهم معينا ولا نصيرا، وكانت تراوحه رسل الأمويين وواليهم على المدنية وتغاديه ليبايع، يتلفت هنا وهناك ولا يجد من أهل المدينة من ينصره، ثم يخرج إلى مكة، ويمكث بين آخرين منهم حتى أيام الحج، أي أكثر من أربعة شهور، ثم لا يجد منهم أنصارا، ثم يغادر إلى الكوفة في ثلة قليلة من أهل بيته وأصحابه، وحرمه، وذريته، ويتفرّج عليه الجميع، يتركونه يواجه الظالمين بمفرده وحيدا، ويقتلونه وأهل بيته وأنصاره على ذلك النحو الوحشي، ثم لا يمر إلا حوالي السنتين، أي سنتي 63 و64هـ، وإذا بجيش يزيد الذي تجرّأ على دم ابن رسول الله، يقتحم حرم رسول الله مكة والمدينة، فيستبيح المدينة ثلاثة أيام ويرتكب فيها الفظائع الشديدة.

إن للتفريط هنا أثرا خطيرا، وشرا مستطيرا، لو أنهم ثاروا مع ابن رسول الله ومَنْ نزل القرآن في فضله وأهل بيته، لكان لهم وللأمة شأنٌ آخر، لكنهم لمَّا فرّطوا في نصرة مَنْ دعاهم إلى الثورة ضد الظالمين، ابتُلوا بذات البلوى، إنَّ مَنْ قَتَل الحسينَ ابنَ رسول الله، لن يُعْجِزَه قتْلُ أبناء المهاجرين والأنصار خوفا وورعاً.

تتبعت في دراسة تاريخية خلفيات ثوار المدينة في وقعة الحرة، ووجدتهم ينتمون إلى كل أحيائها ومن سائر أفرع قبيلتي الأوس والخزرج ومن أبناء المهاجرين، لقد حدثت أهوال مهولة من الفظائع والاغتصاب الجماعي لفتيات المدينة من جيش لا أتصور أنهم فقط كانوا يفعلون ذلك لمجونهم، بل لأنهم تكفيريون، يرون أن الإبادة والنهب لكل موجود داخل المدينة في ما سمي بوقعة الحرة أمر ديني؛ لأن أهل المدينة خرجوا من الإسلام بخروجهم عن حكم يزيد كما ظهر من أدبيات قائد الحملة اليزيدية مسلم (مسرف) بن عقبة المري، ثم يذهب قائد هذا الجيش المتوحِّش لضرب مكة التي تعلَّق بحرمتها ابن الزبير وهو يرى أنه قد تقرب إلى الله بأفضل عمل يقربه إليه من النصح لإمامه يزيد، فيموت في الطريق ويوصي جيشه بمواصلة سلسلة الجرائم التي بدأها.

من هم هؤلاء العلماء والدعاة الذين أوصلوا هؤلاء الطاغين إلى هذه النقطة وهو أن لا يعرفوا من الدين إلا هذا الوضع المحرف، قتل المصلحين في الأمة، إنهم المضلون، علماء السلاطين.

ثم يواصل هذا القائد المسرف مسيرته لضرب مكة ورمي الكعبة بالمجانيق.

ماذا لو قام الجميع وثاروا مع ابن رسول الله، من المؤكد أنهم لو تحركوا مع ابن رسول الله لما ورَّثوا للأمة كل هذا الانحراف، ولغيَّروا مسار التاريخ، وواقع الأمة السلبي، إلى واقع إيجابي، فسعدوا في دنياهم وأخراهم.

لكن عاقبة التفريط والخذلان لدعاة الحق، هو هذه الجرائم الخطيرة في حق آل رسول الله وأصحاب رسول الله وأبنائهم وحرم رسول الله وبيت الله الحرام، إنه التفريط، الذي يجعل صاحبه يثور مع ابن الزبير المخادع المخاتل بدلاً من الثورة مع الحسين الذي خرج للإصلاح، وإذا لم نحافظ على المقدسات ونتعاون على نصرها فإن الطغاة والمجرمين سيتجرأون على كل شيء خلفها.

من هان عليه الحسين سيهون عليه كل أبناء الأنصار والمهاجرين، ومن هان عليه آل الحسين فستهون عليه الكعبة وكل المقدسات.

يجب أن لا يتخاذل أهل الحق عن القيام بما يجب عليهم أن يقوموا به، وإلا فإن عاقبتهم أفظع، وأشد وأنكى .

 

الدرس الخامس: توخّي التوفيق وأسبابه
هناك حالات فارقة، تستدعي الوقوف بوضوح في موقف لا مرية فيه، إنها المواقف التي يحتدم فيها الحق والباطل فينسحب المتذبذبون بين الحق والباطل، كلٌّ إلى معسكره الأصلي، حين لا يكون هناك سوى خيارين فقط، هنا تعود الفضيلة إلى معسكرها، والرذيلة إلى معسكرها، الفرق ما بين عمر بن سعد بن أبي وقاص، وزهير بن القين هو الفرق بين الخاتمة الحسنة والخاتمة السيئة، هو درس التوفيق الذي يجب أن نعيه ونوفر بيئته، ونبذل أسبابه.

عمر بن سعد بن أبي وقاص، ابن الصحابي السابق، والذي كان لا يرتبط بعلاقة حسنة مع معاوية؛ لأنه كان يعتبره طليقاً وصل إلى الحكم باستغلال دم عثمان، وكان يسميه ملكاً، وفي نفس الوقت لم تكن لديه مواقف إيجابية في نصرة الإمام علي عليه السلام (مسلم، الصحيح، ج4، رقم2404؛ وابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3 ، ص275؛ والمؤيدي، لوامع الأنوار، ج3، ص88)، كان ابنه عمر يتظاهر بالصلاح، ويروي الأحاديث، ولكن التظاهر لا يكفي إذا كانت النية والقرار مستلبا من قبل الأطماع، بيئته تلك التي خذلت الحق، وإن لم تنصر الباطل، ثم حب الدنيا المتمكن فيه كانت ظروفا كفيلة بتخليد اسمه في الفاجرين، لقد كان رجلا مهووسا بالإمارة والملك في حياة أبيه (ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج20، ص355)، وأي متديِّن تتمكَّنُ الدينا من قلبه فإنها ستورده خواتم السوء.

لهذا يجب أن يسعى الإنسان إلى تكوين البيئة الأسرية والمجتمعية التي تعين على قرارات سليمة، ويجب أن يتخلص من الظروف والبيئات التي تساعد على ارتكاب المحرمات، يجب أن يكون المؤمن مع الحق، وضد الباطل، وعليه أن لا يترك مسافة بينه وبين الحق، ولو لم يكن في خط الباطل مئة بالمئة.
ومثله أحد الكوفيين من أتباع الأمويين الذين كانوا على حظ جيد من العبادة، تضخّمت لديه قضية مقتل عثمان، وكيف كان بعض شيعة علي ينقمون عليه أحداثه تلك التي أدت إلى الثورة ضده، هذا الأموي العابد حضرت قضية عثمان ونقده من قبل أنصار الحسين بقوة في كربلاء، وسمع بعضهم ينتقدون عثمان، فغضب، وتحول إلى معسكر خصوم الإمام الحسين، حيث لم تكن لديه موازين دقيقة للفصل في القضايا والمواقف، وكانت معراجه إلى الخذيلة والخاتمة السيئة.

في الجانب المقابل كان زهير بن القين عثمانيا مواليا لبني أمية يرتبط بهم لمصالح شخصية، ولظروف المجتمع المسلم الاقتصادية حينذاك التي كانت تتحكم فيهم، حيث كان المحاربون يستلمون أعطياتهم من ديوان بيت المال، لكنه كان رجلا له مروءة، آتاه الله ظروفا استفاد منها واستجاب لها استجابة إيجابية، لقد رفض الانضمام إلى الحسين في بداية الأمر، ولكن لما أرسل له الحسين ليأتي إليه ويسمع منه، حثّته زوجه الصالحة للمجيء إليه، وحينها تذكّر أثراً يحث على نصرة آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص203)، لقد استفاد من هذه البيئة وهذه الأحداث وتلك المعرفة لينتزع قراره التاريخي بالانضمام إلى الحسين، حيث لا دنيا تؤثِّر في قوة صفائه الروحي سلبا، لمّا تجلى له الحق.

ومثله الحر الرياحي كان قائدا شجاعا، ومقاتلا محترفًا، وكان يعيش قوة المروءة وأجواء الفطرة، وكما يبدو أتيحت له الفرصة للتعرف على الإمام الحسين عن كثب، حين أرسله ابن زياد ليجعجع بالحسين ويضطره للمضي في الطريق التي تحصره للنزول على حكمه، لكن لأنه معدنٌ طيبٌ للخير فقد وفقه الله، وانضم في نهاية الأمر إلى قافلة الصالحين، إنه التوفيق وأسبابه الحسنة.

جدير بنا أن نقف على هذه الأسباب، وأن نشجع وجودها في بيئاتنا، وأن نعمل على دفع الظروف والأسباب السيئة التي تشجع على الانحراف شيئاً فشيئاً، وإذا بمن يكون فيها قد أصبح على بُعْدٍ شاسعٍ عن الحق، مثقلا بالذنوب، ومكبلا بالأطماع.

 

 

الدرس السادس: الانتباه لدور المرتزِقة
المرتزِقة مصطلح يُطْلَقُ على تلك الأدوات البشرية التي يستخدمها الظالم في جريمته؛ حتى إذا تطلّب الأمر أن يتنصل عنها يستطيع أن يلقي باللائمة عليها، هؤلاء المرتزقة نجدهم كثيرين اليوم كما وجدناهم كثيرين في الثورة الحسينية، الشمر مثلا، شبث بن ربعي، وآخرين، قاتلوا مع الإمام علي، ثم قتلوا أبناءه تحت لواء الأمويين.

هؤلاء مخلوقات عجيبة جنّدت أنفسها لممارسة العنف والقتل فقط تحت أي راية كانت، ويمكن أن نجدهم تحت راية أهل الحق في لحظة تمكُّنه، ولا يبعد الزمان الذي سنجدهم وهم يعودون للانضواء تحت راية الباطل، هم مستعدون للقتل دائما تحت راية الحسين أو راية عمر بن سعد.

نحن اليوم بحاجة إلى أن نحذِّر من هذه الفئة ونحذَرَها، يجب أن نسعى لتهذيب هذه النفوس الشريرة وتوجيه استعدادها وشجاعتها توجيهاً سليماً، يجب أن يقوم الدعاة بإظهار القبح الذي يعود على هؤلاء وتكريه الشباب، لا سيما من يلتحق بالسلك العسكري أن يكونوا أدوات للحاكم الظالم، الذي سيتبرأ منهم حين يلام، وربما سيقدمهم ضحية كقربان يتنصل به عن جرائمه.

 

 

الدرس السابع: أهمية الإعلام
أدّى الإعلام دوراً فاحشاً في إطفاء جذوة الثورة الحسينية، لقد استخدم ابن زياد الإعلام بدهاء وخبث كبير في التخذيل عن النصرة لمسلم بن عقيل، ومن السهولة بمكان على المجتمعات التي تعفّنت فيها القيم، وأصبحت لغواً على ألسنتهم أن تنتشر فيها الشائعة، لأن جدار وعيها الإيماني ضعيف وهش.

بثَّ ابنُ زياد – كما هو معروف تاريخياً- شائعات كثيرة بلسان شيوخ القبائل الكوفية الذين كانت الدولة الأموية تحكم المجتمع المسلم من خلالهم، من خلال نظام العطاء باعتبارهم جيش الدولة ومحاربيها، فحين تحرّك مسلم بن عقيل في الكوفة بعد انكشاف أمره، وتحلّق معه بعض المقاتلين، جاء هؤلاء الشيوخ إليهم مرة ليعظوهم بالسمع والطاعة، وأن لا يتعرضوا لسطوة الأمير ونقمته، ومرة يهددونهم بجيش الشام القادم، فتأتي المرأة إلى ابنها أو إلى زوجها، والأب إلى ابنه، والأخ إلى أخيه يخوفونهم من البقاء مع مسلم، بثوا كثيرا من الشائعات (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص287- 288)، ومن ذلك أيضا التشكيك في بعض قيادات الثورة، مثل اتهام ابن زياد مسلم بن عقيل بشرب الخمر.

كما كانوا قد روجوا في عقول الناس بأن ولاية بني أمية أصبحت إرادة لله تعالى، وأن قضاء هذه الأمة وقدرها أن الله سلط بني أمية عليهم وولاهم شأنهم إلى يوم القيامة (ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج38، ص268؛ وحمادة، الوثائق السياسية، ص119).

لقد روجوا بدعايات سياسية معادية لأهل البيت تشويه صورتهم الناصعة في الشام، وصوروهم على غير الصورة الحسنة التي كانوا عليها.

إن الحرب الإعلامية جزء مؤثر في المعركة لا يقل شأناً عن الحرب المباشرة، يجب أن تركز الأمة الثائرة على تحصين أتباعها من الشائعات المخذِّلة والمثبِّطة، يجب أن تمتلك رؤية إعلامية منطلقة من الصدق وإظهار القوة أمام الأعداء وفضح الإعلام المعادي الذي يعتمد الكذب منهجا وطريقة.

في الجانب الآخر، لما كان الإمام الحسين سلام الله عليه يريد لثورته الاستمرار والتألق دائما فقد أطلق قبل المعركة خطابات كثيرة ومناشدات تزلزل الصم الصلاب، كانت كفيلة بإطلاق حزن عميق في وجدان الأمة، وإيقاظ ضميرها الميت، وهز كيانها المتداعي، لقد كانت كفيلة بإطلاق فكر ثوري متحرر، كان للتو يتشكّل على أرض الواقع، هذا مهم في الجانب الإعلامي؛ لأنه سينصر الثورة ولو بعد حين، وسيعطيها صفة الخلود، وإمكانية أن تكون تجربة يمكن الإفادة منها. وكذلك أحضر سلام الله عليه نساءه وأهل بيته، حتى يكونوا سفراء هذه الثورة إلى العالم وإلى الأجيال اللاحقة، هنا يعتمد الإعلام اللاحق الذي يسلط الضوء على ما حصل وينقله بأمانة، وقد تحمّل زين العابدين وزينب الكبرى عليهما السلام مسؤولية كبيرة في هذا الصدد، بما اتخذوه من مواقف ونقلوه من واقع الثورة وأحداثها إلى الأمة في الكوفة وفي دمشق وفي المدينة، وكان في ذلك أثر كبير لا يزال مستمرا إلى يومنا هذا.

 

 

الدرس الثامن: أهمية الجهاز الوقائي الأمني
من المهم أن يحافظ الثوار على سرية تحركاتهم وخططهم، وأن يكون لهم جهاز معلوماتي يجمع المعلومة ويحللها، ويستفيد منها، فيحتاط من الخصم، وإلا لوقعوا فريسة الطغاة الذين دائما ما يجنّدون عيوناً يأتونهم بالأخبار.

أحد الوسائل المهمة التي اتخذها ابن زياد في إطفاء جذوة الثورة الحسينية هو أنه تعامل مع المعلومة بحضور قوي، لقد أرسل أحد عيونه في صورة محب لأهل البيت يريد نصرتهم بالمال، ومكث أياماً طويلة، يتودد لرجال مسلم بن عقيل، ويبذل لهم الأموال، ويعبد الله عز وجل في جانب من المسجد، حتى وثق به أنصار الحسين وأدخلوه في خاصتهم، واطّلع على كثير من الأمور، هذا الأمر مكّن ابن زياد من أن يطلع على كل شيء، وأن يكون في صورة التحركات أولا بأول، ثم بنى قراراته على ضوء تلك المعلومات.

هذا يفيدنا أنه لا بد من المعلومة، وأن تكون هناك معلومات طازجة، لا بد من تحليل المعلومات أولاً بأول، ولا بد أن يكون لدى التحرك الثوري جهاز وقائي، يقي الحركة وجدارها الأمني الداخلي من الاختراق، وإلا لحضر عيون الخصوم واطلعوا على كل شيء.

هناك حركات ثورية لديها أجهزة استخبارية ووقائية، استطاعت أن تحقق النصر على خصومها، لقد كانت حرب المعلومات والاستخبارات جزءاً من تحرك حزب الله اللبناني، وحركات التحرر الثورية الفلسطينية، في مواجهة جهاز المخابرات الصهيوني، وساهمت المعلومة الاستخبارية في صناعة النصر الذي تحقق في جنوب لبنان وغزة، ثم ما تحقق من النجاحات للأجهزة الأمنية اليمنية على مدى سنوات الصمود والثبات ليشكل معجزة خالدة، أفشلت خطط الأعداء، ودمّرت مكائدهم، وساهمت في صناعة نصر أسطوري عظيم.

من الغفلة بمكان أن يكون هناك تحرك ثوري ما وعلى رقعة جغرافية كبيرة ومفتوحة ولا تهمه المعلومة الأمنية والوقائية، إن ذلك التحرك سيكون مجازفة ومخاطرة ممقوتة، وكشفاً للخصم بكافة الأوراق .

 

 

الدرس التاسع: المرأة الرسالية
مثلت المرأة الكربلائية درسا خالدا ومقدسا للمرأة المؤمنة الصابرة المحتسبة في الله في ما نزل بها من أليم المصاب، وفقدان الأحباب، في القوة وإقامة الحجة وخلافة الرجال على ناشئتهم وأولادهم، والوقوف بعزة أمام الجبروت والطغيان، لقد كانت زينب سلام الله عليها – بكلماتها ومواقفها القوية أمام ابن زياد ثم أمام يزيد – أمضى من السيوف الحداد، لقد قتلت يزيد وابن زياد مرات ومرات، قتلت رجولتهم وشهامتهم، ونغّصت عليهم فرحتهم، أذلّتهم، أذلّت كبرياءهم، لقد فضحت إسلامهم، وكسبت القضية الاجتماعية لدى العامة من الناس، لدى النساء في الكوفة، لدى النساء في الشام وفي كل مكان مروا فيه، موكب الإباء الذي شق العراق إلى الشام ثم إلى الحجاز، أدخل قضية كربلاء وثورة الحسين ومبادئها ووحشية السلطة الأموية الحاكمة وفظائعها إلى كل بيت في امتدادٍ كبيرٍ في بلاد المسلمين، لقد فضح سفراءُ هذه الثورة وسفيراتُها هذه الدولة التي كانت تلبس مسوح الدين، وتحكم الأمة بقرشيتها التي تجمعها مع نبي الأمة وموجدها صلى الله عليه وآله وسلم، لقد بان للجميع أن هؤلاء لم يعودوا مؤتمنين على حكم المسلمين، وأنهم هم أعداء الدين، ولم يعد ينطلي على الكثير أنهم أمراء المؤمنين أبدا، ولهذا دارت عجلة الثورات ضدهم في أكثر من مكان.

 

زينب اليوم في اليمن وغيرها تؤدي دوراً أكبر، في مجالات مختلفة، وقد مكّنتها التقنية الجديدة من ناصية تلك المجالات المختلفة، يمكنها أن تؤدي ذات الدور الرسالي الذي قامت به زينب الكبرى ونساء الحسين وبنات الحسين.

حينما يكون البيت الواحد رجالا ونساء يتحركون في مشروع واحد، فإن هذا أضمنُ للنجاح، وأوفقُ للفلاح، إنه يعطي البيئة المحصَّنة والقوية والمتكاتفة لصناعة النصر، ونخطئ حينما نريد عزل المرأة عن العمل الرسالي، ونريدها فقط للخدمة المنزلية، إن هذا سيُحْدِثُ ثغرة في جدار الوعي على مستوى المنزل والأسرة، بخلاف ما لو كان هناك قناعة كاملة في البيت فإن هذا أولا يحصن البيت من أي اختراق ولو كان اختراقا عاطفيا، ثم يعطي دافعية قوية للمضي في التحرك الثوري وعلى جميع المستويات.

يجب أن تكون زينب الكبرى وأمها فاطمة الزهراء ونساء أهل البيت عليهم السلام القدوات الفاضلات للمرأة في عصرنا، وخليق بهذه المرأة المعاصرة أن تتوجه إلى كربلاء ونساء آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتتعلم منهن ما يفيدها اليوم، لا سيما وقد أصحرتها الحضارة المادية الحديثة لمواجهة كافة أشكال الاستغلال للأنوثة الرقيقة، وحوّلتها من مصنع تربوي وجهادي رسالي إلى بضاعة رخيصة في الإعلانات والجنس وما شاكل ذلك.

يجب أن تعود المرأة لمكانتها ودورها وأن يكون لها في نساء كربلاء القدوة الحسنة والمثال الطيب.

وإن النموذج اليمني اليوم الذي رسّخته المرأة المجاهدة في اليمن نموذج مشرف، أعتقد جازما أنه لولا ارتباط المرأة اليمنية بمدرسة أهل البيت واستمدادها من محطاتهم المعرفية والروحية والقيمية لما سجّلت هذا الشرف العظيم، وحققت هذه الإنجازات الكريمة.

 

 

الدرس العاشر: الثورة العاشورائية ثورة خالدة
لا يمكن للإيديولوجيا المذهبية اللاحقة أن توقف الثورة الحسينية في عام 61 هجرية، لا أستطيع مثلا أن أجد فرقاً بين ثورة الإمام الحسين بن علي عليه السلام وثورة حفيده الإمام زيد بن علي عليه السلام، ومن يريد تصوير عاشوراء على أنها أحداث سنة61 هجرية لتدخل الأمة بعدها في سرداب طويل من البكاء والعويل والتقية للظالمين فإنه يُشَكِّلُ الوجه الآخر للخاذلين للحسين العارفين لوجوب نصرته، وهو يشكل الرافد الأهم لتفرعن الفرعون واستمراره، وبالتأكيد فإنه كما يجب أن نحتفي بالحسين وثورته يجب أن نحتفي بزيد وثورته، فهما ينبعان من عين واحدة، ويتحدان شكلا وموضوعا، وهذا هو ما ميّز ثوار أهل البيت الزيدية على من سواهم.

 

هذا المنهج العلوي المتدفق بالعطاء هو الذي جدَّدَ رونق الإسلام وأنار بهاءه، وأحيا مآثره ومشاريعه، فعند كل بدعة يتفرعن فيها فرعونٌ من هذه الأمة نجد هؤلاء الأئمة العلماء المجتهدين المجاهدين يحملون أكفانهم على أيديهم ويخرجون لاقتلاع جذور الفرعنة والاستبداد، لا مجال لديهم في المهادنة، ولا في المحاباة، لقد شكلوا الينابيع الثرة التي يكتسب الإسلام منها حياته مرة أخرى، بعد كل عاصفة من الضلال تحل به، إنهم الأمان من الضلال كما ورد في حديث الثقلين، وهم كسفينة نوح، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

هذا المنهج لا يمكن أن يغيب عن الأمة في الوقت الذي تحتاجه ولا بد أن يتجدد على مر الزمن وكر الدهر.

وهذه الدروس هي غيض من فيض العطاء الحسيني المتدفق، وقطرة من بحره المتلاطم، رقمتها، أرجو أن ينفعني الله بها ومن يقرأها، وتذكرة للمتذكر، والله ولي التوفيق والسداد، نعم المولى ونعم النصير..