خسائر العدو تتجاوز الكيان إلى الداعمين الدوليين.. إلى أي مدى أغرقت المقاومة الفلسطينية اقتصاد الكيان الصهيوني بالطوفان؟
الصمود||تقرير|| أبو بكر عبدالله
36 يوما على الحرب الوحشية التي تقودها حكومة الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة، لم تحقق أهدافها السياسية والعسكرية في حين أن أهدافا مغيبة تحققت للمقاومة تكمن في حجم الخسائر الفادحة التي تتكبدها دولة الاحتلال، على المستويات والاقتصادية والتجارية والمالية، في زلزال لم تعرفه منذ سبعة عقود، تجاوز دولة الكيان إلى عواصم الداعمين الدوليين.
في كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يبدو الكيان الإسرائيلي المتفوق بآلة الدمار الشامل وجرائم الحرب ،هو الخاسر الأكبر من حربه الوحشية الدائرة اليوم على قطاع غزة، فبعد 33 ألف طن من المتفجرات التي القاها في 35 يوما على التجمعات المدنية في قطاع غزة تبدو دولة الكيان قد وصلت إلى حاله إنهاك تنذر بانهيارها، أو على أقل تقدير إغراقها في طوفان من أزمات اقتصادية قد تمتد لعقود.
قبل أيام قليلة أعلن البنك المركزي الإسرائيلي أن خسائر حكومة الاحتلال الأسبوعية تناهز الـ 600 مليون دولار بمتوسط شهري يصل إلى 2.4 مليار دولار بما يعادل 10 % من الناتج المحلي الإجمالي وهو الرقم الذي دعا وزارة المالية في حكومة الكيان إلى الإفصاح عن احتمال تفاقم الخسائر إلى ارقام فلكية في حال استمرت الحرب في قطاع غزة لعدة أشهر، في أكبر كارثة اقتصادية قد تتكبدها دولة الكيان منذ 75 عاما.
وبعد شهر واحد من العدوان الصهيوني على غزة، ارتفعت فاتورة النفقات بصورة كبيرة بدت ملامحها بوضوح في عجز الميزانية الصهيونية الذي قفز 400 % على أساس شهري بنحو 6 مليارات دولار، بعد أن كان يقدر بنحو 1.2 مليار دولار في سبتمبر الماضي في حين أعلن البنك المركزي الإسرائيلي انخفاض الاحتياطيات الأجنبية بواقع 7.3 مليار دولار دون ان تتمكن سندات وأدوات الدين التي أصدرها بقيمة 3.7 مليار دولار من وقف الانخفاض.
وهذه الأرقام لم تعكس الواقع تماما، إذ تشير التقديرات إلى أن معدل الخسائر مرشح للزيادة في حال تم احتساب تكاليف دفع رواتب جنود الاحتياط وتكاليف إيواء وإجلاء 250 ألف إسرائيلي من منازلهم، وكذلك الخسائر الهائلة المسجلة جراء توقف القطاع الزراعي وتراجع أداء القطاع الصناعي والتوقف الكامل لقطاعات اقتصادية رئيسية مثل السياحة والنقل والبناء والتشييد والتي تمثل نحو 20 % من الناتج المحلي الإجمالي.
يزيد منها تكبد الخزينة الإسرائيلية خسائر فادحة في حجم الإيرادات التي تناقصت بحوالي 15 مليار دولار تضاف إلى حوالي ملياري دولار ينتظر أن تفقدها الخزينة الإسرائيلية على شكل تعويضات للشركات، وملياري دولار لإعادة التأهيل.
هذا التداعي كان كافيا لتخفيض البنك المركزي الإسرائيلي حجم توقعاته لنمو الاقتصاد الذي يقدر حجمه بنحو 500 مليار دولار من 3 % إلى 2.3 % وسط توقعات بانخفاض اجمالي الناتج المحلي بنحو 15 % مقارنة بانخفاض بنحو 0.4 % فقط خلال الحرب على غزة في عام 2014، و0.5 % خلال الحرب مع المقاومة في لبنان عام 2006.
دوامة خسائر
كل التوقعات تُرجح أن الحرب الإسرائيلية الوحشية في غزة ستكبد العدو ثمنا باهظا لن يقوى على تحمله في ظل التقديرات التي تشير إلى فقدان الاقتصاد الإسرائيلي جميع المكاسب التي حققها خلال العام الجاري، ليفضي إلى معدل انكماش متوقع بـ 11 % على أساس سنوي، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الجاري وبخسائر يتوقع أن تتجاوز الـ 50 مليار دولار بنهاية العام.
آثار هذه الدوامة من الخسائر بدأت في العملة الإسرائيلية التي عجزت عن الصمود لأيام بانخفاضات سجلت لأول مرة منذ سنوات، وفي مؤشرات قطاعات البورصة والعقارات والمصارف وسوق العمل التي سجلت تراجعا حادا خلال الشهر الأول من العدوان على غزة.
ورغم أن إسرائيل ضخت نحو 45 مليار دولار لمساعدة عملتها واقتصادها على الصمود، فإن البيانات الإسرائيلية تشير إلى تأثر ماليتها العامة بصورة خطيرة، إذ ترافق هبوط احتياطي النقد الأجنبي مع هبوط العملة الإسرائيلية إلى أدنى مستوياتها منذ 14 عاماً، دون أن يتمكن من وقف تهاوي الشيكل، أو الحفاظ على استقراره في سوق الصرف الأجنبي.
باعتراف المؤسسات المالية الإسرائيلية والدولية فقد تهاوت أغلب المؤشرات الاقتصادية في البورصة التي فقدت نحو 25 مليار دولار من قيمتها السوقية وفي قطاعات العقارات والمؤسسات الصناعية والتجارية والمصارف، فضلا عن التراجع الحاد في سوق العمل وفي أداء شركات التكنولوجيا.
والأمر لم ينته عند هذا الحد فهناك آثار اقتصادية فادحة ضربت الاقتصاد الإسرائيلي في مقتل، من بينها تقلص حجم القوى العاملة في القطاعين الصناعي والزراعي اللذين تضررا بشدة من جراء نقص العمالة بعدما أدت عملية “طوفان الأقصى” إلى إرغام نحو 1.3 مليون عامل إلى عدم التوجه لأعمالهم، فضلا عن آخرين فرضت عليهم الشركات اجازات اجبارية.
زادت من ذلك الآثار التي أحدثها استدعاء حكومة الكيان موظفي القطاع الصناعي والزراعي إلى التعبئة العامة لقوات الاحتياط، حيث شهد القطاع الزراعي توقفاً شبه كامل نتيجة توقف نشاطاته في غلاف غزة وشمال فلسطين المحتلة عند الحدود مع لبنان، وهذه المناطق تنتج أكثر من 80 % من الخضراوات، وأكثر من 40 % من الفواكه ومنتجات الحليب والدواجن.
وكان لهذه الخطوة انعكاسات سلبية حادة على العديد من الشركات العاملة في قطاع الصناعة ومنها قطاع صناعة السيارات الذي دخل في حالة تباطؤ حاد في الإنتاج يأتي بعد سنوات من الربحية العالية التي حققها هذا القطاع.
كذلك مُني قطاع السياحة بضربة قاتلة وصلت إلى حد خلو الفنادق من السياح تقريباً خصوصا بعد امتناع شركات السياحة الدولية عن إعادة إسرائيل إلى برامجهم في التفويج السياحي خلال العطلات، وهو الإجراء الذي أصاب قطاع السياحة الذي يسهم بنحو 5.5 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي بالشلل الكامل.
الحال كذلك مع نشاطات قطاع النقل الجوي والبحري والبري والتي تراجعت بنسبة تتجاوز 70%، بعد أن علقت نحو 42 شركة طيران رحلاتها إلى إسرائيل أو قامت بتقليلها إلى الحد الأدنى، فضلا عن تقليل رحلات شركات الطيران الإسرائيلية نتيجة ارتفاع كلفة التأمين ضد مخاطر الحرب، ما أدى إلى انخفاض رحلات الطيران من مطار بن جوريون الدولي وإليه، على سبيل المثال بنسبة 80 % خلال الشهر الأول للعدوان الصهيوني على غزة.
تداعيات مفتوحة
ما سبق لم كن كل شيء، فالتقارير المحلية والدولية تؤكد أن التصدعات الاقتصادية في دولة الكيان تطاول حاليا جميع القطاعات الاقتصادية، ومنها على سبيل المثال التصدعات الناتجة عن اختلال سلاسل الإمداد بأسواق المواد الغذائية، وتراجع المعاملات النقدية بكروت الائتمان بنحو 12 % على أساس سنوي بمعظم القطاعات.
وقد أدى تلاحق الرشقات الصاروخية المتكررة من جانب المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة إلى توقف أعمال البناء والتشييد، بما أدى إلى تكبد الحكومة الإسرائيلية خسائر تصل إلى 37 مليون دولار يومياً.
وهناك أيضا الاضرار التي خلفها تفاقم العجز والتضخم في تنامي عدد العاطلين عن العمل، إذ سجل 70 ألف شخص أنفسهم عاطلين عن العمل خلال شهر أكتوبر الماضي فقط، يضافون إلى حوالي 764 ألف إسرائيلي لا يعملون حاليًا بوظائفهم، بنسبة تصل إلى 18 % من القوى العاملة.
تزيد منها الأضرار التي لحقت بالمواطنين جراء الزيادات التي فرضها البنك المركزي الإسرائيلي في أسعار الفائدة، والتي وضعت الكثير من الأسر في حالة عجز كامل عن سداد أقساط القروض في ظل تهاوي سعر العملة (الشيكل) كما حدت من زيادة نفقات التمويل على المستوردين.
خسائر ما بعد الحرب
المرجح أن خسائر دولة الكيان من جراء عملية “طوفان الأقصى” لن تقتصر على فترة الحرب وحسب، فعجلة الخسائر مرشحة للتفاقم بصورة كبيرة، في ظل التقديرات التي تشير إلى احتياج إسرائيل لفترة طويلة من أجل إعادة الاستقرار لوضعها الاقتصادي في ظل الهزات الكبيرة التي تعرضت لها أكثر القطاعات الاقتصادية خلال الفترة الماضية.
والخسائر الاقتصادية الهائلة التي تتكبدها دولة الاحتلال اليوم، لن تكون الجانب الوحيد في معادلة الخسائر التي يُرجح أن تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة والأمن، في ظل الازمات التي تتقاذف حكومة نتنياهو، والانهيار الكلي لمفهوم الأمن لدى الشارع الإسرائيلي الذي لم يعد يثق أن دولة الكيان المحتل تستطيع أن توفر الأمن لمواطنيها أو حماية حدودها.
وما يزيد المشهد قتامة أن مشهد الحرب التي تشنها اليوم على قطاع غزة تتجاوز الأهداف العسكرية إلى أهداف سياسية وثقافية وتحمل أبعادا أوسع بعد أن وجدت إسرائيل نفسها وحدها في محيط ساخن أعقب فترة استرخاء وانتشاء بالنجاحات التي حققتها بدعم أميركي كبير في ملف التطبيع وكسر حاجز المقاطعة مع بعض الدول العربية منذ العام 2017، وشروع نتنياهو ببرنامج التهيئة الإعلامية الواسعة لتهيئة الرأي العام العربي لتقبل واقع العلاقات الجديدة بين الكيان المحتل والدول العربية وبناء أسس الشرق الأوسط الجديد.
والحقيقة الواضحة اليوم أن عملية “طوفان الأقصى” هدمت كل ما بنته الولايات المتحدة وإسرائيل خلال السنوات الماضية في قاطرة التطبيع وفي مفهوم الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي، وإمكانية المضي بقاطرة التطبيع لن تكون ممكنة على المدى المنظور في ظل التقاطعات التي انتجتها مشاهد الجرائم الوحشية لجيش الاحتلال ضد المدنيين في غزة، والسمعة السيئة التي تراكمت خلال 36 يوما من العدوان الوحشي الذي قدم كل أعضاء الحكومة الإسرائيلية اليمينية بوصفهم مجرمي حرب.
خسائر الداعمين
رغم أن الحرب في قطاع غزة تجري بعيدا عن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا فإن آثارها وصلت إلى هذه الدول وفي المقدمة الولايات المتحدة الأمريكية التي تتكبد خسائر اقتصادية وعسكرية هائلة من اليوم الأول بسبب دعمها اللامحدود لحكومة الكيان وحربها في غزة.
أكبر دليل على ذلك التقارير الدولية التي تحدثت عن خسارة الولايات المتحدة نحو 40 % من مخزونها من صواريخ جافلن بسبب دعمها للحرب في أوكرانيا وإسرائيل، وتناقص مخزونها الاستراتيجي من قذائف المدفعية من عيار 155 ملم، وهو التناقص الذي اضطرها إلى تحويل شحنة كانت متجهة نحو أوكرانيا إلى الأراضي المحتلة لدعم سلطات الاحتلال.
اليوم تحذر أوساط اقتصادية أمريكية من أن استمرار واشنطن في تقديم الدعم لإسرائيل المتزامن مع الحرب في أوكرانيا وفي غزة ستكون له آثار اقتصادية سلبية، في ظل الخيارات الضيقة أمام الإدارة الأمريكية لتمويل حربين متزامنتين من طريق القروض ما سيقود إلى ارتفاع حاد في التضخم والعجز وتضخم الدين الوطني الذي زاد من 300 مليار دولار عام 1946 إلى نحو 33 تريليون دولار بحلول سبتمبر 2023.
والخسائر الأمريكية لن تقف عند هذا الحد، فالحروب عادة ما تتسبب بحالة من عدم اليقين في الأسواق المالية تؤدي إلى تقلبات في أسعار الأسهم والسندات والعملات، وهو ما يؤثر بدوره على قدرة الشركات والأفراد على الحصول على التمويل والتخطيط للاستثمارات، ويؤثر على ثقة المستهلك والمستثمر في نمو الاقتصاد.
وبالنسبة لدول القارة الأوروبية فقد انتجت الحرب الدائرة في أوكرانيا حالة انقسام واسعة بين دول القارة من جهة وبين الحكومات وشعوبها من جهة ثانية، وهي حالة تزايدت بصورة أكثر فداحة مع اعلان الحكومات الأوروبية دعما غير محدود لإسرائيل في حربها الهمجية ضد قطاع غزة.
وهذا التداعي بدأت نذره بصورة واضحة بين الحكومات الأوروبية التي أظهرت انحيازا ودعما كبيرا لإسرائيل عسكريا وسياسيا وإعلاميا وشعوبها التي خرجت إلى الشوارع في تظاهرات منددة بهذه السياسيات شارك فيها عشرات الآلاف في واشنطن ولندن وباريس وبرلين ومدريد والعديد من العواصم الأوروبية، منتقدين دعم حكوماتهم لإسرائيل، ما اضطر بعضها إلى خنق التظاهرات، بل وذهب بعضها إلى حظر الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين بصورة قسرية تلوح باضطرابات سياسية داخلية ستطاول الكبار والصغار دون استثناء.
وحاليا تساور واشنطن شكوك جدية بأن الهزات التي احدثتها حرب إسرائيل في غزة، قد تؤثر في المدى القريب على حالة التماسك في التحالف الدولي الذي حشدته ضد روسيا استنادا إلى الاختلافات المجتمعة بين الحكومات وشعوبها بما يجعل استمرار حرب إسرائيل في غزة تهديدا لمساعي واشنطن في الإبقاء على تماسك التحالف الغربي الهش في أوكرانيا والذي بالكاد استطاع الصمود خلال الفترة الماضية.