حقائق القوة الأمريكية والقوة اليمنية
الصمود|
بإعلان السفن المارة بمضيق باب المندب تعريفَها وَتخاطُبَها مع قوات صنعاء، فهذه دلالةٌ كافيةٌ واعترافٌ واضحٌ بسيادة صنعاء وفرضها مبدأَ قوة الحق والجغرافيا والتاريخ.
هناك حقائقُ لم يعد مُجدياً القفزُ عليها وهي رسالةٌ موجهةٌ للعالم الذي يدين بالولاءِ للتوجّـه الأمريكي.
حكومة الإنقاذ ليست حكومة جماعة أَو تيار يعبر عن فصيل، بل هي حكومة اليمن وحكومة ونظام الواقع الذي يغلب توصيفات ومفاهيم تحاول أن تمارس المزيد من خداع الرأي العام العالمي، حَيثُ الحقائق تتكشف تباعاً، حَيثُ لا مجال للمزيد من هذا اللعب السياسي العقيم.
اليوم، بحسب توصيفات وقراءات عقلاء السياسة ومنظِّريها يُعتبَرُ المجلسُ السياسي الأعلى وحكومةُ الإنقاذ الممثِّلَ الرسمي لليمن جغرافية وشعباً ونظاماً وسيادة، حَيثُ يتحقّق معنى الدولة بمفهومها السياسي القائم على أَسَاس أن الدولة تقوم على أركان وعناصر أَسَاسية هي الشعب، والإقليم، والحكومة، والسيادة، وهذا غيرُ موجودٍ في الطرف المقابل الذي يمثل حالة هامشية، لا سلطة أَو قرار له، والشرح فيه يطول، حَيثُ يغيبُ مفهومُ السيادة والسيطرة الجغرافية، والتي تمثِّلُ عناصرَ هامةً لوصف الكيان بالدولة.
في صنعاء، حَيثُ تترسَّخُ مكانةُ نظامها اليوم كقوةٍ تمثل غالبيةَ الشعب اليمني حوالى ٨٠ % من سكان اليمن وهم النسبة الأكبر من سكان اليمن.
وبحسب المحلِّل فيصل جلول، فَــإنَّ أي حديث عن نظام غير نظام صنعاء كممثل لليمن لا يعبر في حقيقته إلا عن أتباع الرياض وأبو ظبي ومن خلفهم المشروع الأمريكي الغربي، حَيثُ لا وجود لذلك المسمى الرائج أمريكياً وخليجياً “الشرعية” على الأرض، إلا في مخيلة ساسة المشروع الاحتلالي لليمن وتقودهم واشنطن وفي إعلام دول التحالف ليس غير.
وخلال الشهرين الماضيين ترسخت المزيد من الحقائق على مستوى العالم والنظام الدولي وإن كانت واشنطن وحلفاؤها يسعون لإخفاء ما لا يمكن إخفاؤه من حقائقَ حول اليمن، ومن يتولى زمامَها اليوم، حَيثُ أظهرت مواجهة تحالف واشنطن -تل أبيب، أن اليمنَ بقوتِه الثورية قوةً ممانعةً ليس بالسهل تجاوزها.
ففي غضون ثمانين يوماً برزت حقيقةُ أن صنعاءَ نظامٌ سياسيٌّ وعسكريٌّ وإداريٌّ هي من يديرُ دفةَ اليمن بكاملها، حَيثُ لا مجالَ للحديث عن أوهام وأحلام واشنطن وتحالفها في من يجب أن يحكُمَ اليمن أَو يتحدَّثُ أَو يمثِّلُ اليمن.
فصنعاءُ التي تجاوزت حقيقةَ مرحلة مواجَهة السعوديّة والإمارات وبروزها لمواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل بفرضها سيطرتها على المياه الإقليمية اليمنية بنجاح ملفت ومنع مرور سفن تل أبيب فرضت بهذا الفعل غير المسبوق معنى السيادة الحقيقي للدولة اليمنية، وهذا لم يكن حاصلاً في عهد اليمن الجمهوري، وهي إلى جانب هذا مثلت الصوت العربي الثوري الجهادي الذي كانت المنطقة العربية وشعوبها تتوق لسماعه ولم تكن تتوقع كما رصدنا أن يأتي من صنعاء، حَيثُ التجريف الثقافي والإغراق للشارع العربي الإسلامي بالتغريب، غيب إدراك حقيقة اليمن الثوري الأصيل.
ومع تأكيد السيادة البحرية التي عبرت عنها صنعاء بقوة وكانت مفاجئة للعالم وهي العنصر الذي اكتملت به عناصر الدولة الحقيقية، فرض الواقع اليمني القوي شروطه بصور مباشرة وغير مباشرة، حَيثُ قادت دولاً للتواصل مع صنعاء لإثبات حسن النية، مقابل تواصل أمريكي خفي لمحاولات التهدئة والسماح بمرور سفن العدوّ، حَيثُ كان رفض صنعاء الصارم معبراً عن حقيقة المبدأ والقوة والاستعداد المدروس لكل تطورات المشهد هذا الموقف، الذي أشعر اليمنيين بالعز والفخر كما أشعر العرب والمسلمين لم يكن حاضراً في وجدان وذاكرة أجيال يمنية منذ عقود طويلة.
ومع إدراك النظام السعوديّ للواقع بمسمياته وتفاصيله، فما من خيارات لمزيد من المراوغة مع تسليم العالم وإن لم يقل ذلك صراحة بفرض صنعاء لقوتها وشروطها، حَيثُ تعرض تحليلات كتاب ومراقبين حقيقة ذلك صراحة.
هذا الأمر الذي قاد ويقود حوار صنعاء الرياض بات من المسلمات التي تعكس حقيقة التسليم بالأمر الواقع بل وبقوة وحقائق التاريخ والجغرافيا، حَيثُ تغيب جماعات الارتزاق للأسف في هامش المشهد السياسي والعسكري، وهذا ما تؤكّـده حقيقة المفاوضات اليمنية رغم محاولات الجانب السعوديّ لاستنساخ تجربته القديمة في ضرب المشروع اليمني باستخدام اليمنيين أنفسهم كما حصل بعد ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م، والسعي لقضم المزيد من الأراضي اليمنية مرة أُخرى، حَيثُ بدت تلك التجربة والخديعة السعوديّة غير صالحة للتعامل مع اليمن مرة أُخرى، وفقاً لمعطيات ومتغيرات جديدة، ظهرت اليمن فيها ضمن محور عالمي جديد، يواجه المحور الذي تدور فيه أطماع ومصالح الرياض القديمة الجديدة.
ولعل ترجمة الرفض الغربي للتحالف البحري الأخير لواشنطن كاف لإدراك أن لعبة الاحتلال تقزَّمت إن لم نقل إنها في طريقها لتتلاشى عن الأنظار، حَيثُ الصراع الدولي يفرض معطياته بقوة في أية تحَرّكات أمريكية غربية بحق اليمن وبحق محور المقاومة وبحق الدول التي تمثل قُطباً عالمياً جديداً.
وكما يسرد الكاتب الأمريكي ويليام فاجنين، جملة من تلك الحقائق التي تجعل من مهمة واشنطن البحرية مجازفة مجنونة، إذ يؤكّـد أن طائرات أنصار الله بدون طيار والصواريخ المنتجة محلياً وغير المكلفة نجحت في تسوية الملعب التكنولوجي…، وأنه نظراً للتركيز المتجدد على حكومة الأمر الواقع في اليمن بقيادة أنصار الله وقواتها المسلحة، فقد حان الوقت لتجاوز التوصيف المبسط والمستهتر بالـ”حوثيين”؛ باعتبارهم مُجَـرّد جماعة “متمردة” أَو جهة فاعلة غير حكومية.
وبحسب تحليله “منذ بداية الحرب التي شنها التحالف الذي تقوده السعوديّة ضد أنصار الله في عام 2015، تحولت حركة المقاومة اليمنية إلى قوة عسكرية هائلة لم تُذِل السعوديّة فحسب، بل تتحدى الآن أَيْـضاً أعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزةَ، بالإضافة إلى حلفائها المتفوقين، والقوة النارية وموارد البحرية الأمريكية في أهم ممر مائي في العالم.
فقد نجحت صنعاء حتى الآن في استهداف تسع سفن باستخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ، كما تمكّنت من الاستيلاء على سفينة واحدة تابعة لإسرائيل في البحر الأحمر، بحسب تصريحاتها الرسمية، وقد دفعت هذه العمليات أكبر شركات الشحن الدولية، بما في ذلك CMA CGM وMSC، وعملاقتي النفط BP وEvergreen، إلى إعادة توجيه سفنها المتجهة إلى أُورُوبا حول القرن الإفريقي، مما يضيف 13000 كيلومتر وتكاليف وقود كبيرة إلى الرحلة، مع انخفاض حركة الشحن التجاري في إيلات بنسبة 85 %.
وبتأكيدات فاجنين فَــإنَّ الاضطراب في البحر الأحمر يقوض بشكل مباشر عنصرًا أَسَاسيًّا في استراتيجية الأمن القومي للبيت الأبيض لعام 2022، والتي تنص بشكل لا لبس فيه على أن الولايات المتحدة لن تسمح لأية دولة “بتعريض حرية الملاحة عبر الممرات المائية في الشرق الأوسط للخطر، بما في ذلك مضيق هرمز والممرات المائية في الشرق الأوسط”. باب المندب، وهذا ما لم يتم، حَيثُ دمّـرت القوات اليمنية ركيزة أُخرى من ركائز استراتيجية الأمن القومي للبيت الأبيض، والتي تسعى إلى “تعزيز التكامل الإقليمي من خلال بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركاء الولايات المتحدة، بما في ذلك من خلال هياكل الدفاع الجوي والبحري المتكاملة”.
ومن ضمن الحقائق التي يسوقها أن القوة العظمى في العالم، التي تعتمد الآن إلى حَــدّ كبير على نفسها، لا تملك القدرة العسكرية اللازمة لمواجهة الهجمات القادمة من اليمن الذي مزقته الحرب، وهي أفقر دولة في غرب آسيا بحسب تصنيفات معتمدة.
وذلكَ لأَنَّ الولايات المتحدة تعتمد على صواريخ اعتراضية مكلفة وصعبة الصنع لمواجهة الطائرات بدون طيار والصواريخ غير المكلفة وذات الإنتاج الضخم التي يمتلكها أنصار الله والقوات المسلحة اليمنية.
فتكلفة كُـلّ صاروخ من صواريخ SM-2 التي استخدمتها السفينة الأمريكية يو إس إس كارني حوالي 2.1 مليون دولار، في حين أن تكلفة طائرات أنصار الله الهجومية أحادية الاتّجاه بدون طيار لا تتجاوز 2000 دولار لكل منها.
وهذا يعني أنه؛ مِن أجل إسقاط طائرات بدون طيار تبلغ قيمتها 28 ألف دولار في 16 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أنفقت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 28 مليون دولار في يوم واحد فقط!!.
وقد شنت القوات البحرية والجوية اليمنية حتى الآن أكثر من 100 هجوم بطائرات بدون طيار وصواريخ، استهدفت عشر سفن تجارية من 35 دولةً؛ مما يعني أن تكلفةَ الصواريخ الاعتراضية الأمريكية وحدَها تجاوزت 200 مليون دولار.
هذه التكلفة ليست القيد الوحيد، فإذا استمرت صنعاء ضمن هذه الاستراتيجية، فَــإنَّ القوات الأميركية سوف تستنزف بسرعة مخزونها من الصواريخ الاعتراضية، والتي لا تحتاج إليها في غرب آسيا فحسب، بل وَأَيْـضاً في شرق آسيا.
ويتابع فاجنين عرض ما تخشاه واشنطن مع طول الوقت، حَيثُ يورد تحليلاً لفوريتس، يقول إنَّ الولاياتِ المتحدةَ لديها ثماني طرادات ومدمّـرات مزوَّدة بصواريخ موجهة تعمل في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، مع إجمالي 800 صاروخ اعتراضي من طراز SM-2 وSM-6 للدفاع عن السفن فيما بينها.
ويشير إلى أن إنتاجَ هذه الصواريخ بطيء؛ مما يعني أن أية حملة مُستمرّة لمواجهة القوات اليمنية سوف تستنزف بسرعة مخزون الصواريخ الاعتراضية الأمريكية إلى مستويات منخفضة بشكل خطير، وفي الوقت نفسه، لن تستطيع شركة تصنيع الأسلحة الأمريكية رايثيون إنتاج سوى أقل من 50 صاروخًا من طراز SM-2 وأقل من 200 صاروخ من طراز SM-6 سنويًا.
وإذا تضاءلت هذه المخزونات، فَــإنَّ هذا يترك البحرية الأمريكية عرضة للخطر ليس فقط في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، حَيثُ تنشط روسيا أَيْـضاً، ولكن أَيْـضاً في المحيط الهادئ، حَيثُ تشكل الصين تهديداً كَبيراً بصواريخها التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والصواريخ الباليستية.
ونتاج هذا أنه كلما طال أمد استمرار القوات اليمنية في ضرب السفن التجارية والبحرية الأمريكية والسفن والقطع البحرية المتحالفة معها، كلما أصبحت الحسابات أسوأ، حيثُ إن سلاسل التوريد تفوز بالحروب، وهذا ما تخشاه واشنطن وتحذِّرُ منه.