هذا ما كشفته معركة طوفان الأقصى
هذا ما كشفته معركة طوفان الأقصى
الصمود||
مما لا شك فيه أن معركة “طوفان الأقصى” المباركة التي انطلقت في السابع من أكتوبر الماضي، جاءت لتكشف بقوة الخذلان العربي لغزة بشكل خاص وللقضية الفلسطينية بشكل عام، خاصة دول الطوق إلى درجة التآمر والمشاركة في القضاء على المقاومة في غزة بمنع وصول الطعام والماء والدواء للفلسطينيين.
وبالتوازي.. لا عجب أن تأتي النُصرة من دُول وشعوب غير عربية وغير مسلمة، أبرزها جنوب أفريقيا، ورئيسها سيريل رامافوزا، والتي قدمت العدو الصهيوني لمحكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية لأهل غزة، في ظل هذا الخذلان العربي الكبير لغزة الصابرة التي تباد على مرأى ومسمع العالم أجمع.
وفي هذا السياق.. قارن الكاتب الفلسطيني عبد الباري عطوان بين الحدث العظيم الذي لفت انتباه أنظار العالم وتصدر مواقع التواصل الاجتماعي وهو: “إحراق الطيار الأمريكي نفسه” احتجاجا على الإبادة الجماعية بغزة، وبين المسرحية الهزلية التي قامت بها بعض الدول العربية المطبعة وعلى حياء منها وبدلا من فتح المعابر قامت بإسقاط جزء بسيط مما قالت عنه مساعدات غذائية جوا على غزة.
وقال عطوان في مقال حديث له بعنوان (قصف جوعى قطاع غزة جوًّا بالمُعلّبات و”السندويشات”.. إنها قمّة العار والخُذلان): “حدثان استقطبا انتباه العالم الثلاثاء، الأول والأهم: إقدام طيار شاب أمريكي بإحراق نفسه أمام السفارة الصهيونية في بلاده احتجاجا على المجازر التي يرتكبها كيان الاحتلال في قطاع غزة، وشاهد العالم بأسره هذا الشاب وهو يصب الكيروسين على جسده، وبعدها يشعل النار فيه حتى “الشهادة””.
وأضاف: “أما الحادث الثاني، الذي اتسم بصفة استعراضية مفضوحة، وجرى توثيقه أيضا بالصوت والصورة، فتمثل في ارسال ست طائرات محملة بالمواد الغذائية، ثلاث منها أردنية، وأخرى إماراتية ومصرية وفرنسية عسكرية من نوع (سي 130) الأمريكية الصنع”.
وأوضح أن “الحدث الأول كان الأكثر مشاهدة على جميع وسائل التواصل الاجتماعي، وبلغت المشاهدات مئات الملايين، إن لم يكن أكثر، وحظي الشاب الأمريكي بتعاطف عالمي غير مسبوق، خاصة في أوساط مواطني بلاده، وشكل “استشهاده” ضربة صادمة لحكومة بلاده، ولكيان الاحتلال الذي بلغ عدد ضحايا حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنها على قطاع غزة منذ ما يقرب الخمسة أشهر أكثر من 30 ألف شهيد ومائة ألف جريح، وتشريد ما يقرب من مليوني إنسان جرى تدمير حوالي 86 في المائة من منازلهم”.
وتابع قائلاً: أما الحدث الثاني، أي إنزال “مساعدات إنسانية” من الجو إلى الجوعى في القطاع، فتراوحت ردود الفعل بين ناقد وساخر من ناحية، وهي الأغلبية، ومؤيد ومُرحب على استحياء وهي الأقلية.
وقال عطوان: “من المعيب جداً، أن حكومات الدول العربية الثلاث تتباهى، وتتغنى إعلامياً، وهي التي تملك السلاح والمال، والجيوش والولاء لأمريكا بمثل هذه الخطوة الصغيرة جداً، وتشعر بالرضا التام، وربما الفخر أيضاً، باعتقادها أنها أدت واجبها، وأراحت ضميرها، وتحملت مسؤولياتها كاملة تجاه شعب شقيق يعاني ذروة المأساة أمام أعينهم.”
وفي ختام حديثه اعتبر عطوان أن ذلك “حركة استعراضية مخجلة تسيء للحكومات التي أقدمت عليها، ولا تحقق إلا القليل جداً للشعب الفلسطيني المُباد، المُحاصر، المُجوّع في قطاع غزة، والمزيد من المهانة والإذلال، وحتى الاستغلال، في محاولة فاشلة لتخفيف حدة غضب شعوبها، وحالة الغليان التي تعيشها، في ظل هذا العجز الرسمي العربي المصطنع، والغطرسة الدموية الصهيونية في المقابل”.
هذا وأظهر استطلاع رأي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مطلع العام الجاري، وشارك فيه أكثر من ثمانية آلاف مستجيب ومستجيبة، أن الشارع العربي يُجمع على اعتبار القضية الفلسطينية “قضية جميع العرب وليست قضية الفلسطينيين وحدهم” وبنسبة بلغت 92 في المائة، وهي نسبة غير مسبوقة مقارنة بالتي سُجلت في نهاية عام 2022 والتي بلغ مُعدلها 76 في المائة.
وأوضح الاستطلاع أن المواطنين العرب يتعاملون مع هذه الحرب على أنها تمسّهم مباشرة، إذ عبّر 97 في المائة من المستجيبين عن أنهم يشعرون بضغط نفسي بدرجات متفاوتة نتيجة للحرب على قطاع غزة، حتى أن 84 في المائة قالوا إنهم يشعرون بضغط نفسي كبير.
وهذا يؤكد أنه لا يمكن إنكار المكانة التي تحملها القضية الفلسطينية في وجدان “الشعوب العربية”، وإن كان البعض في غفلة أيقظته معركة “طوفان الأقصى” منها، ولكن سيسجّل التاريخ صمتهم أمام تجويع وقتل وتهجير أهل غزة، ما لم ينتفضوا لنصرتهم ويثوروا على سياسات حكوماتهم.
ولطالما كانت القضية الفلسطينية قضية مركزية في العالم العربي، ولطالما تعهدت دول عربية بدعم الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية والاستقلال، ولكن خلال السنوات الأخيرة، شهدنا خذلاناً متكرراً من قبل بعض الدول العربية، سواء من خلال عدم اتخاذ موقف واضح ضد العدو الصهيوني، أو من خلال التطبيع مع هذا العدو، أو من خلال تقديم مساعدات مالية وعسكرية له.
ويشار إلى أن العدو الصهيوني يتلقى مساعدات مالية وعسكرية ضخمة من أمريكا، كما يتلقى مساعدات من بعض الدول العربية، مثل الإمارات والسعودية ومصر والأردن والبحرين.. وغيرها، وقد استخدم هذه المساعدات لتعزيز جيشه واستمرار انتهاكاته ضد الفلسطينيين.
ويرى مراقبون أن أكبر غلطة “مقصودة طبعاً” قام بها حكّام الدول العربية هي منع المواطنين العرب من زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلّة بحجة مقاطعة الكيان الصهيوني، إلا أنّ الخاسر الحقيقي هنا لم يكن الصهاينة بل العرب والمسلمين الذين يُشاهدون العدو الصهيوني يقتحم باحات المسجد الأقصى ويمنع إقامة الصلاة ورفع الأذان، بينما الصهاينة يصولون ويجولون في القدس المحتلّة، والحكّام العرب مشغولون إمّا بقتل شعوبهم وقمعهم أو بمحاصرة جيرانهم وبقذفهم بالاتهامات الكاذبة، بل وبدون أي خجل أصبح دعم المقاومة الفلسطينية تُهمة يُعاقب عليها.
تاريخياً.. من المؤكد أن خذلان غزة جاء امتداداً لتاريخ طويل من خذلان الحكومات العربية لفلسطين، فقد كانت بدايات الخذلان العربي للفلسطينيين مُبكرة.
ففي عام 1936م أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى قامت الحكومات العربية بإرسال برقيات إلى اللجنة العربية العليا التي كانت تدير الثورة طالبتها بإنهاء الإضراب الفلسطيني الذي استمر ستة أشهر رفضاً للسياسات البريطانية، واستجاب الفلسطينيون لهذه البرقيات، وأنهوا إضرابهم وكانت نتيجة ذلك قيام بريطانيا بتقسيم فلسطين.
أما في العام 1948م، فقد تدخلت الجيوش العربية لطرد اليهود من فلسطين، ولكن الذي حدث كان عكس ذلك تماماً!! ما دفع الشهيد عبدالقادر الحسيني إلى الصراخ في وجه أحد مسؤولي العرب: “أنتم خائنون، سيكتب التاريخ أنكم أضعتم فلسطين”، وحصل ما قاله الحسين للأسف، واستشهد الرجل بعد يومين من كلامه هذا في معركة القسطل.. وقامت الجيوش العربية بسحب الأسلحة من الفلسطينيين، وسلمت فلسطين للصهاينة وانسحبت، وهكذا ضاعت فلسطين.
وفي عام 1967م، كانت الهزيمة المروعة التي أدت إلى ضياع كل فلسطين، وتسبب فيها نظام جمال عبدالناصر، وحافظ الأسد، وزير الدفاع السوري آنذاك، حيث أشارت وثائق صهيونية نُشرت عام 2000م حول وقائع حرب عام 1967م، إلى أن حجم الانتصار الصهيوني لم يكن يرتبط بكفاءة التخطيط العسكري أو إدارة العمليات الحربية من جانب القيادات الصهيونية، بقدر ما كان يرتبط بتلك الانهيارات السريعة الكاملة التي تعرضت لها الجيوش العربية.
وفي عام 1979م، كان الخذلان العربي متمثلاً في توقيع الرئيس المصري أنور السادات لاتفاقية السلام مع كيان العدو الصهيوني التي أفرغت القضية الفلسطينية من محتواها، وأخرجت أكبر دولة عربية من دائرة الصراع العربي الصهيوني.
كما ظهر هذا الخذلان العربي عام 2006م، عندما فازت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بالانتخابات، عندئذ فرض العدو الصهيوني حصاراً شاملاً على قطاع غزة بتأييد بعض الدول العربية.
وفي العام 2020، أعلنت الإمارات والبحرين تطبيع علاقاتها مع كيان العدو الصهيوني، في اتفاقات بوساطة أمريكية، وهذا التطبيع أثار غضب الفلسطينيين، الذين اعتبروه خيانة للقضية الفلسطينية.
وفي الكثير من المناسبات، فشلت الدول العربية في اتخاذ موقف واضح ضد العدو الصهيوني، مما أعطاه ذلك الضوء الأخضر للاستمرار في انتهاكاته ضد الشعب الفلسطيني.. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك، رفض الجامعة العربية في عام 2023 قراراً بقطع العلاقات الدبلوماسية مع كيان العدو، وعدم إدانته بعد مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة.
الجدير ذكره أن مستقبل القضية الفلسطينية يعتمد بشكل كبير على موقف الدول العربية، فإذا استمرت في الخذلان لفلسطين، فإن ذلك سيعني استمرار الاحتلال الصهيوني واستمرار معاناة الشعب الفلسطيني، لكن إذا اتخذت الدول العربية موقفاً موحداً وواضحاً لدعم القضية الفلسطينية، فإن ذلك سيشكل ضغطاً قوياً على العدو الصهيوني للانسحاب من الأراضي الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وحقيقةً لا يُمكن للمنطقة العربية أن تنعم بالاستقرار والأمان والحرية في ظل وجود العدو الصهيوني المُحتل، ولا يمكن للشعوب العربية أن تتحرّر من قيود جلّاديها طالما وأن الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية مستمر وباقي.