صمود وانتصار

ما هو الـ”يورديم” ولماذا يخشى الغرب سقوط “إسرائيل”؟

الصمود||مقالات|| علي الدرواني

بعد عملية “طوفان الأقصى”، سارع الغرب إلى إنقاذ الكيان المؤقت من السقوط الوشيك، وحشدت أمريكا وبريطانيا ودولاً أوروبية أساطيلها الحربية إلى شرق المتوسط، وأرسلت كبار قادتها إلى “تل أبيب” لمنع سقوط الكيان. وهذه الخشية تعود إلى سببين رئيسيين: الأول هو أن الغرب سيفقد قاعدته في المنطقة ومحط عقد سياساته ومصالحه الاستراتيجية والاقتصادية غير المشروعة فيها، والثاني هو أن انهيار الكيان يعني عودة اليهود إلى أوروبا.
اليهود في المجمل منبوذون في الغرب، وكان الأوروبيون يرونهم جنسًا أدنى، ورأوا أنهم سبب للكثير من المشكلات الأمنية، فكان الغرب بحاجة للتخلص منهم. والتاريخ اليهودي ذاته يشير إلى أنّ نزعة الكراهية كانت موجودة في أوروبا أكثر منها في المنطقة العربية، ففي القرون الوسطى، شاعت في أوروبا أن اليهود كانوا يستخدمون دماء الأطفال المسيحيين في طقوسهم الدينية، وأنهم كانوا يسمّمون آبار المياه ويمارسون شتّى أنواع الضغوط على المجتمع الأوروبي باستخدام الابتزاز المالي، وهكذا نشأت فكرة غربية خالصة تتمثل بضرورة التخلص من اليهود، مهما كان الثمن.
قبل ثلاثة قرون من قيام إسبانيا بطرد اليهود من أراضيها؛ كان ملك إنجلترا إدوارد الأول، قد أصدر أمرًا بطرد اليهود كلهم من بلاده وأصبحت إنجلترا أول بلد يُقدم على هذا الإجراء في أوروبا، مع أن إنجلترا أصبحت فيما بعد الحليف الأساسي للصهيونية في ما سُمّي “وعد بلفور”، وزرع كيان لهم في فلسطين واستخدامه لفرض سياسات أوروبا على العرب.

يؤكد الأستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية د. أسامة بوشماخ، أن اليهود الذين لا أرض لهم، والذين كانوا في تشتت وتفرُّق في جميع أنحاء الأرض، أبعدوا إلى منطقة الشرق الأوسط، بسبب المشكلات والفوضى التي أحدثوها في دول العالم الغربي، وحتّى بالنسبة إلى روسيا. ومن هنا نجد أن المنظومة الغربية ككل قامت بإبعاد اليهود من أوروبا والذهاب بهم إلى منطقة الشرق الأوسط، حتّى تتخلص منهم ومن مشكلاتهم التي كانت عبارة عن تراكمات كبيرة امتدت إلى قرون وقرون كثيرة في أوروبا.
ببساطة هؤلاء المنبوذون تاريخيًّا في أوروبا، يمكن أن يعودوا بمجرد انهيار كيانهم المؤقت في فلسطين المحتلة. فنسبة كبيرة منهم مزدوجو الجنسية، وقد ترسخت فكرة الجنسية المزدوجة منذ إقامة هذا الكيان في فلسطين، حيث تحولت “إسرائيل” ومنذ تأسيسها إلى ما بات يعرف في العالم دولة الهجرة التي تجمع اليهود من جميع أنحاء العالم، وتمكّنهم تاليًا من الحصول على جنسيات متعددة.

مع كلّ هزة يتعرض لها الكيان الصهيوني، تتزايد طلبات الحصول على الجنسية وجوازات السفر من المستوطنين اليهود في فلسطين المحتلة. ولقد شكّلت انتفاضة القدس والأقصى، في العام 2000، مرحلة مفصلية في ما يتعلق بتنامي الهجرة المعاكسة لليهود من فلسطين التاريخية، إذ بلغ عدد الإسرائيليين الذين هاجروا إلى الخارج في العقد الأخير نحو 200 ألف، وتعاظمت الهجرة العكسية وعوامل الطرد الديمغرافي لليهود من الكيان خلال الحروب الإسرائيلية على لبنان وغزّة بسبب العوامل والهواجس الأمنية، وتصاعد مخاوف اليهود بأنه لا توجد لديهم أي حماية مضمونة ومستدامة، في ظلّ تصاعد المقاومة وما كانت تظهره من تطوّر في قدراتها العسكرية والصاروخية، وحتّى العمليات المنفردة التي ضاعفت قلة الأمن وتنامي الخوف الوجودي الفردي للمستوطنين، ودفعت الكثير منهم للتفكير بحياة أخرى في بلاد أخرى، مثل أوروبا وأمريكا.
بعد معركة “العصف الماكول” عام 2015، أشارت بيانات صادرة عن مركز الإحصاء الإسرائيلي إلى أن عدد اليهود الذين غادروا في هجرة عكسية بلغ 16 ألفا و700 شخص، عاد منهم 8500 فقط. وكشف استطلاع للرأي أجري مع المستوطنين الإسرائيليين من فئة الشباب، أن واحدًا من بين كلّ ثلاثة مستوطنين يفضل ترك الكيان والعيش خارجه، وتراوحت أسباب الرغبة بالهجرة عند ثلث المستطلعة آراؤهم بين الأوضاع الأمنية وغلاء المعيشة واليأس من السياسيين.

نُشرت دراسة أكاديمية في “تل أبيب” في يوليو، أي قبل “طوفان الأقصى” بنحو أربعة أشهر، كشفت عن “تفاقم أزمة ثقة خطيرة” بين المستوطنين الإسرائيليين من فئة الشباب والكيان ومؤسساته، بلغ حد اعتراف غالبيتهم (54%)، بأنهم يفكرون في الهجرة، في أعقاب التدهور في العلاقات الداخلية وانعدام الأمان الشخصي والاستقرار. ووصل عدد اليهود الذين غادروا الكيان في نهاية 2020 إلى 756 ألفًا ممن يحملون “الجنسية الإسرائيلية”، ثمّ ارتفع العدد إلى 900 ألف مع نهاية العام 2022، وفقًا لبيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية.
ومع نهاية العام 2022، ظهرت حركة إسرائيلية أطلقت على نفسها اسم “لنغادر البلاد معا”، بعد نجاح اليمين المتطرّف في الانتخابات الأخيرة، وركّزت على استصدار جوازات سفر أجنبية للإسرائيليين، وتوفير فرص عمل لهم في الخارج بهدف نقل 10 آلاف إسرائيلي، في المرحلة الأولى؛ بينما ارتفعت الأعداد بشكل ملحوظ منذ السابع من أكتوبر بعد “طوفان الأقصى”، فوصل عدد المهاجرين اليهود بشكل عكسي من فلسطين المحتلة إلى الآلاف، بحسب إحصاءات رسمية، بعد إخلاء مستوطنات غلاف غزّة. وقد أظهرت معطيات سلطة الهجرة والسكان في الكيان المؤقت أن نحو 370 ألف صهيوني غادروا منذ بدء معركة “طوفان الأقصى” حتّى نهاية نوفمبر الماضي فقط.

ما يطلق عليه بالعبرية “يورديم”، يعني بالعربية “الانحدار” أو “النزول”، والتي تُستخدم لوصف اليهود الذين يغادرون فلسطين المحتلة بعد أن هاجروا إليها في وقت سابق. هذه الهجرة تشكّل عصب المخاوف الأوروبية التي يلخصها المؤرخ الفرنسي هنري لورانس، حين يقول: “نحن الأوروبيين ليست فلسطين التي تعنينا؛ بل تأثيرها على مجتمعاتنا الداخلية. ثمة خشية من أن تعيدنا الأحداث هناك إلى ما قبل العام 1945”. وكأنه يقول بشكل غير مباشر، إن نهاية “إسرائيل” تعنى العودة اليهودية إلى أوروبا بشكل كبير، بكلّ ما فيها من فوضى وفساد، ومؤامرات.