صنعاء.. القرار والموقف
الصمود| بقلم- طه العامري|
تبدو صنعاء في قرارها ومواقفها المساندة لمعركة طوفان الأقصى وكأنها تقف في قلب عاصفة هوجاء، يتوهم الواهمون أنها كفيلة باقتلاعها من جذورها..!
لكنها –صنعاء- التي اتخذت قرارها وحددت موقفها واختارت الوقوف في الجانب الصح من التاريخ، لم تكترث لحجم رد الفعل القادم عليها من أباطرة الشر وقتلة الأطفال والنساء من تل أبيب إلى واشنطن ولندن وما بينهما من بيادق مساعدة إقليمية ودولية..!
صنعاء اتخذت قرارها وحددت موقفها ومضت تعبر عن قناعتها منهمكة في المعركة ومعبرة عن قناعة يمنية تماهت بين القيادة والشعب، بل جاءت إرادة القيادة في صنعاء ترجمة لإرادة الشعب اليمني من صعدة للمهرة ومن كمران حتى سقطرى ولا يوجد يمني واحد يمكن أن يعترض على موقف صنعاء في نصرة الشعب العربي في فلسطين إلا إن كان عميلا أو مرتزقا تابعا لأنظمة الذل والعار أو أحد المحسوبين على وكالة التنمية الأمريكية أو لجهاز mi6 البريطاني، وما دون هؤلاء فإن فلسطين حاضرة في وجدانهم أطفالا كانوا أو شبابا أو شيوخا أو نساء حتى، فكل يمني حر مسلم وعروبي فلسطين الأرض والقضية تستوطنه ويتشرب قضيتها ومعاناتها منذ نعومة أظافره.
نعم أمريكا ليست قدراً، قالتها صنعاء وقائدها ونظامها، وبريطانيا كذلك لم تعد البعبع الذي يمكن أن يخوف من امتلكوا قرارهم وسيادتهم وحريتهم، ولأن فلسطين قضية كل حر عربي ومسلم، فإن صنعاء عمَّدت هذه القناعة ورسَّختها ميدانيا وترجمت القناعات الفكرية التي تستوطن وجدانها ووجدان الشعب إلى مواقف عملية وميدانية امتدت من البحرين العربي والأحمر وخليج عدن وباب المندب إلى المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، ولا ندري ماذا تخبئ لنا الأيام القادمة إن تطوَّر الصراع والمواجهة؟ وإلى أي مدى قد تصل القدرات اليمنية التي أربكت عواصم الاستعمار وأعاقت مشروعها الاستعماري والاستهدافي لفلسطين؟
مواقف صنعاء عكست وجسَّدت حقيقة إيمانها وانتمائها القومي، وأيضا عكست مدى تلاحم وحدة الساحات التي يمكن وصفها بوحدة عناق شعلة الحرية الممتدة من صنعاء، مرورا ببيروت والقدس ودمشق حتى طهران، وحدة لم تأت بها المصالح العابرة، بل جاءت بها وحدة القناعات والأهداف الاستراتيجية والمصير، مؤكدة على شبق الحرية وتناغم ألحانها على امتداد هذا النطاق الجغرافي في زمن تصدح فيه (سيمفونية الاستسلام) في أجواء عواصم الارتهان والتبعية والذل المكتسب.
كثيرون سخروا من مواقف اليمن واستهانوا بموقفها واعتبره البعض (هروبا من استحقاقات داخلية)، لكن أثبتت تداعيات الأحداث ومسار الطوفان أن قرار صنعاء حمل من الحكمة أعظمها ومن الواجب أهمه، كيف لا وهذه فلسطين وهناك واجبات مطلوبة من كل أحرار الأمة تجاهها وتجاه شعبها المناضل الذي يعيش تحت نير الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الأقذر والأقبح تاريخيا.
إن صنعاء بقرارها جسَّدت إرادة وهوية الشعب اليمني وأبرزت أصالة هويتها وانتمائها ومصداقية مشاعر قيادتها وقائدها الذي لم يكن يغامر حين قرَّر الاصطفاف في خندق الطوفان وإغلاق الممرات والبحار في وجه السفن الصهيونية -أولا- ثم حين جاءت البوارج وحاملات الطائرات الأمريكية والبريطانية بهدف حماية الملاحة الصهيونية، قرَّرت صنعاء التصعيد والمنازلة، ساخرة من عظمة أمريكا ومن يتحالف معها، فكان موقف صنعاء أكثر من مربك لواشنطن ولندن اللتين أخفقتا في إنقاذ ربيبهما الصهيوني، فكان أن أصبحت الموانئ داخل الأرض المحتلة خاوية على عروشها، ناهيكم عن الاستنزاف الذي تتعرض له الخزانتان الأمريكية والبريطانية، وهذا قد لا يعنينا بقدر ما يعنينا الموقف المبدئي الثابت لليمن وقائدها الذي لم يتردد ولم يتخاذل ولم يحسب حساباً لمن يواجهه أو لعائد ومكسب المواجهة، بل خاص المعترك معبراً عن قناعته وقناعة شعبه، ضارباً عرض الحائط بكل الحسابات المتخاذلة، فكان لصنعاء دور محوري في الإسناد والمواجهة، لم يستوعبه أولئك المتخاذلون والمترددون الذين جعلوا من أمريكا وبريطانيا أصناما تعبد من دون الله وكأنهم يقتفون أثر عبدة (اللات “والعزى” وهبل)..!
صنعاء ساهمت بشكل فاعل ومؤثر ومحوري في إرباك المخطط الاستعماري، من خلال التحامها في المعركة الوجودية للأمة وهي المعركة المقدسة التي لا قدسية لأي معركة تفوقها ولا معركة أهم منها.
نعم نحن في حالة عدوان وحصار ولسنا في مرحلة ترفيه ولا في حالة استكانة، لكن ما يحدث في فلسطين كاف لأن يحرك القلوب المتحجرة، إلا قلوب طمس الله عليها وأحرمها القدرة على الفهم، كقلوب بعض المستعربين الذين هم في حالة صم وبكم وعمي، ولم يعد في دواخلهم ما يحرك ضمائرهم المتصلبة، إزاء قضية حرَّكت ضمائر الشعوب الغربية والأمريكية، ولكنها لم تحرك شعور بعض الأعراب والمسلمين، الذين جعل الله قلوبهم غلفاً، فزادهم عمياً إلى عماهم وجهلا إلى جهالتهم..!
لذا كانت صنعاء عاصمة القيم والمبادئ وأيقونة الحرية المتَّقدة شعلتها العصيَّة على الإنطفاء، لأنها تستمد من نور الله توهجها (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) صدق الله العظيم.