صمود وانتصار

قراءة في محاضرات السيد القائد خلالَ أَيَّـامِ العشرِ من ذي الحِجَّـةِ :وقفـــــــــــــــــــــــــوهم إنَّهم مســــــــــــــــــــــؤولون

وقفـــــــــــــــــــــــــوهم إنَّهم مســــــــــــــــــــــؤولون

الحقيقة/ قراءة السفير عبدالله علي صبري

أَطَـــلَّ السيِّدُ عبدُالملك الحوثي خلالَ أَيَّـامِ العشرِ من ذي الحِجَّـةِ في محاضرات للتوعية بالمسؤولية المتعلِّقَةِ بإدارة الشأن العام، لكن من موقعه كقائد للثورة الشعبيّة؛ ما يجعلُ أهميَّةَ هذه المحاضرات تتعدَّى الحالةَ الوعظيةَ والإرشادية، وتُنْبِئُ عن سياساتِ المرحلةِ المقبلة، والتي سبق أن دشّـنها السيدُ -حفظه الله- بخِطابِ التغيير الجذري، الذي تأخَّرت خطواتُه التنفيذيةُ؛ بسَببِ الحرب الكبرى التي تخوضُها اليمنُ شعبًا وجيشًا وقيادةً؛ إسنادًا وانتصارًا للقضية الفلسطينية منذ ما يزيد عن ثمانية أشهر.

وفي هذه المحاضرات تطرَّقَ القَائِدُ إلى تفاصيلَ غاية في الأهميّة والحساسية، وأشَارَ إلى عدة صور وسلوكيات لا تَنُمُّ عن إحساس حقيقي بالمسؤولية ومتطلبات العمل العام بما ينطوي عليه في الأصل من خدمة للناس وإنصاف لهم وتيسير لشؤون حياتهم.

وحتى يستقيمَ النُّصْحُ والرُّشْدُ، وتبلغُ الحجّـة لخَاصَّة المسؤولين وعامة المجتمع، فقد استعان السيد القائد بالتراث الديني الأهم للمسلمين بعد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ممثَّلًا في سيرة الإمام علي بن أبي طالب -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-، وموروثه الفكري والسياسي، الذي لا يزالُ في الغالبِ منه صالحًا لواقعنا وعصرنا، بل ومطابقًا لكثير من إشكالات العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مجتمع إسلامي يفترض أن كُـلّ أفراده يبتغون رضا الله سبحانه وتعالى والعملَ وَفْـقًا لتوجيهاته وتشريعاته.

كما تتضاعف أهميّة هذه المحاضرات، في كون المتصدي لها يعيش أوضاعًا مشابهة لتلك التي عاشها الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ- وقد تولَّى إمارة المسلمين في زمن الفتنة الكبرى، وعانى وتأذى من شيعته – بخِذلانهم له – أكثر مما لقي من خصومه وأعدائه من البغاة الخارجين عليه. فاليمن اليوم وفي ظل قيادة السيد عبدالملك الحوثي وثورة 21 سبتمبر الشعبيّة، ومشروع المسيرة القرآنية يتعرض لجملة من التحديات الداخلية والخارجية، لعل أهمها تقديم النموذج الأصلح للحكم وإدارة الشأن العام على نحو عملي ومعاش في الواقع اليومي بعيدًا عن التنظير الزائف الذي عرفته اليمن في العهود السابقة، فإذا لم يكن أبناءُ هذه المسيرة قبل غيرهم هم العونَ والسندَ الحقيقي للقائد، وَإذَا لم يكن المسؤولون المحسوبون على المشروع القرآني هم الأكفأَ والأصلحَ والأكثرَ نزاهةً وخدمةً وقُرباً من الشعب، فلا خيرَ فيهم، ولا أمل يُرتجى منهم.

وإذا كانت الغالبيةُ من الناس يتطلَّعون إلى تغيير الكثير من المسؤولين، واستبدالهم بمن هم أفضلُ منهم، فقد أراد السيدُ من محاضراته أن يكون واضحًا وصادقًا مع الجميع بشأن جِذر المشكلة، التي لا يمكن معالجتُها بمُجَـرَّدِ تغيير الأشخاص على أهميّة وضرورة هذه الخطوة، فأراد من المجتمع نفسه أن يكون جزءًا ومساعدًا على التغيير المنشود، من خلال فهم الواقع والاستعداد لتغيير الثقافة العامة بشأن المناصب السياسية والإدارية في جهاز الدولة؛ تمهيدًا لتغيير سلوك المسؤولين؛ وتعزيزًا لكل فرص النجاح والإنجاز. وما لم يفقهِ المجتمعُ دورَه الأَسَاسي في هذه العملية المعقدة، فَــإنَّ جانبًا كَبيراً من الآمال العريضة في المستقبل لن ترى النور على المدى المنظور.

(1)

عن عبدِ الله بن عباسٍ قال: دخلتُ على أميرِ المؤمنين عليٍّ -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ- بذي قار وهو يخصفُ نعلَه، فقال لي: مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعل؟ فقلتُ: لا قيمةَ لها، فقال -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-: وَاللهِ لَهِيَ أَحْبُّ إِليَّ مِنْ إِمْرَتِكُم، إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقًّا، أَو أَدْفَعَ بَاطِلاً..

استهل السيدُ القائد محاضراتِه باختيار هذا النص الذي يتضمن تبخيسًا للمنصب مهما علا شأنه؛ مِن أجلِ الزهد فيه. فأن تكون أميراً للعالم الإسلامي بما فيه من بلدان وأقطار، ثم نجد أن هذا لا يساوي بكله عند أمير المؤمنين عليٍّ -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-، ذلك النعل البسيط، الذي لا قيمة له؛ فهذا هو المدخل المناسِبُ للفت أنظار المجتمع، وخَاصَّة اللاهثين من الناس وراء السلطة والنفوذ والثروة، حَيثُ نجد أن السائد لدى العموم أنهم ينظرون إلى موقع المسؤولية، وإلى المناصب بشكلٍ عام -بحسب طموحاتهم- إلى أنها ذات أهميّة كبيرة جِـدًّا، وذات قيمة عالية، يبذلون؛ مِن أجلِها الغالي والنفيس.

وهم في سبيل تحقيق أهدافهم ولأجل الوصول إلى مبتغاهم يستخدمون وسائلَ كثيرةً وبطرق مشروعة وغير مشروعة للوصول إلى السلطة، بل إن البعض قد لا يتورع عن ارتكاب الجرائم والمظالم؛ مِن أجلِ هذه الغاية، التي تقوم على أَسَاس التقدير والأهميّة الكبيرة للمناصب في نظر الناس، على عكس العارفين المؤمنين وقدوتهم الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-.

يُعَدِّدُ السيدُ القائدُ دوافعَ الناس الباحثين عن المناصب ومواقع السلطة والنفوذ فيُجمِلُها في عدةِ نقاطٍ منها:-

  • تحقيقُ الذات، وهي نقطة مهمة للشخص ذاته، حَيثُ تتولد لديه ثقة كبيرة في النفس التي لا يشعر بها إلا من خلال طريقة تعامل الآخرين معه، وللأسف فالناس يتعاملون بتقدير كبير مع هذا الشخص الذي بات في مواقع نافذًا ومؤثرًا، وهكذا يرى المَرْءُ نفسَه وقد “أصبح شخصاً مهماً، وأصبح كَبيراً، وله أهميّة، وله موقع أكبر على الآخرين”.

والأصل أن تكون القيم الإسلامية هي السائدة في التعامل بين أفراد المجتمع ولا يشترط أن يكون الإنسان رئيساً، أَو وزيراً، أَو ملكاً، أَو أن يكون مديراً، أَو وزيراً، أَو يحمل مسؤولية معيَّنة، أَو في موقع معيَّن ومنصب معيَّن، حتى يحظى بالاحترام.

إنها رسالة تربوية عميقة؛ إذ يوجه السيد المجتمع اليمني المسلم إلى تعزيز الاحترام المتبادل في علاقة الناس ببعضهم، وأن لا يكون هذا الاحترام مَــرَدُّه إلى الموقع الذي يتسَنَّمُه هذا الشخصُ أَو ذاك.

  • أن يكونَ نافذاً ومن ذوي النفوذ في الدولة، وهذا هو الدافعُ الثاني، بحسب السيد القائد؛ فالبعض من الناس يرى في المنصب أنه موقع للنفوذ، يستطيع من خلاله أن يحقّق بعض الأهداف، سواءٌ أكانت شخصية، أَو فئوية، أَو حزبية. والبعض يرى في المنصب “وسيلةً تساعده على التسلط، وعلى تصفية حسابات معينة”.

  • التكسُّبُ المادي والإثراءُ غيرُ المشروع، فالبعض يضعُ الأمورَ المادية نصبَ عينَيه؛ فيجعل المال هدفًا في حَــدِّ ذاته، حتى وإن استخدم وسائلَ غير مشروعة في سبيل مراكَمة المال والثروة وانتهاز فرصة الوصول إلى هذا المنصب أَو ذاك؛ وهذا ما يؤدي إلى خيانة الأمانة والفساد المالي وابتزاز الآخرين.

  • التسلُّط وهواية الأمر والنهي، وهو دافعٌ يقومُ على لذة الاستبداد وشهوة التسلط؛ فالبعض يتطلع إلى المنصب حتى يكون آمرًا ناهيًا بالحق وبالباطل، وهذه بالنسبة له “فوق كُـلّ لذة ورغبة، وفوق كُـلّ طموح”.

  • أجندةٌ خفية وباطلة، حَيثُ يعمل البعض على تسخير المنصب بما يوفره من نفوذ وإمْكَانات، وذلك لخدمة باطل يفرضه على الناس ويحميه؛ ليكون سائداً في واقع الحياة.

(2)

سيكولوجيةُ عُشَّاقِ المناصب:

لا يتوقَّفُ السيدُ عند الحالة الطبيعية الملازمة لغالبية المجتمع، وهم يتطلعون إلى السلطة والنفوذ، ولكنه يضيء أَيْـضاً على حالة من يسميهم بـ “عشاق المناصب” وماهية النفسيات التي تطبع سلوكياتهم، وهؤلاء هم “الأكثر ظلماً، وفساداً، الأكثر طغياناً وشراً في واقع الناس”.

هذه النوعية من الناس لا شك أن السيد القائد قد اصطدم بهم في واقع التعامل وأثناء تقييم الأداء لكثير من القائمين على الأعمال والمناصب في أجهزة ومؤسّسات الدولة؛ وحتى لا يظن أمثال هؤلاء أن القيادة غافلة عنهم، فَــإنَّ محاضرات السيد قدمت وتقدم المعالجة التربوية أولًا، من خلال الإشارة إلى خطورة وثمن العشق للمنصب، حَيثُ إن الإنسانَ المشمولَ بهذا التوصيف “يُضَحِّي بدينه، ويضحِّي بكرامته وبشعبه وبأمته، ويضحِّي بإنسانيته ويخسرُ كُـلّ شيء”.

ومن الأمراض النفسية التي يعيشها “عشاق المناصب” أن يكون أحدهم شديدَ التعلق بالمنصب “لا يريد أن يبرح منه، ولا أن يفارقه، ولا أن ينتقل عنه، ولو إلى أي عملٍ آخر”. وهذا ما يعني أن الموقع أَو المنصب قد أصبح ملكيةً شخصية يستميت المرءُ في التشبث به والدفاع عنه. والحل الإداري أمام مثل هذه الحالات يكمن في التغيير أَو التدوير الوظيفي على الأقل، بالإضافة إلى تغيير الثقافة المتعلقة بمفهوم المسؤولية دينيًّا وأخلاقيًّا، ومحورُها “أن يتخلص الإنسان من التصور أنه لا قيمة له، ولا أهميّة له إلَّا إذَا كان في منصب معيَّن”. وبالإضافة إلى ما سبق، فَــإنَّ عشاق المناصب يتحولون إلى مصدر إشكال للمجتمع وللقيادة؛ لأَنَّ الممارسات الظالمة والمخالفة تغدو “سلوكاً يستمر عليه، لا يجدي معه النصح، ولا التذكير”. والبعض الآخر يعتور أداءَه العملي الكثيرُ من القصور، وذلك لعدة أسباب:

  • النقص المعرفي وضعف الخِبرة الإدارية.

  • مشكلات ذاتية ونفسية.

  • الطموحات غير الواقعية، وَغير الممكنة.

  • روحية الاستهتار، واللامبالاة، واللاشعور بالمسؤولية أمام الله.

وهنا ينصح السيد أن من كان هذا حاله، من الخطأ أن يحصل على الحماية أَو العون من أحد؛ فهذه عصبية مقيتة في غير محلها، وقد تكون عصبية مناطقية، أَو عشائرية، أَو أسرية، أَو حزبية، “بينما لو شعر أنَّ الكل ليسوا معه فيما هو عليه من مخالفات، ومن أخطاء وممارسات سيئة ظالمة، وأنَّ الكل سيقفون مع القيادة في أي إجراء ضده، فهذا سيكون عاملاً مساهماً في زجره وردعه”.

(3)

“اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلطَان، وَلَا التماسَ شِيءٍ مِنْ فُضُولِ الحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الإصلاحَ فِي بِلَادِكَ، فَيَأمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ المُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ.. “الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-”

هذا هو المقطع الثاني من خطبة الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-، الذي تناوله السيد القائد بالشرح والتحليل، وهو متصل بالنص السابق في مضمونه ومعناه؛ فمن يرى في نعلَيه قيمةً أكبرَ من السلطة، فَــإنَّه لا يمكن أن يفكر في شيء من حطام الدنيا إذَا وصل إلى أكبر المناصب، ولن يكون همه إلا الإصلاح وإقامة الحق ونصرة المظلوم.

وكما يقول السيد القائد فَــإنَّ أولياء الله وأهل الحق عندما يتحَرّكون، فليس للسلطة عندهم أية قيمة وأي اعتبار لوحدها، بدون أن تكون وسيلةً للهدف المقدَّس، الذي هو: إقامة الحق، والدفع للباطل. وعلى عكس سمات وسيكولوجية عشاق المناصب، فَــإنَّ الحالة الصحية إسلاميًّا وإنسانيًّا في التعامل مع السلطة يقوم على ثلاثة ركائز:

الأولى: الإخلاص لله؛ أي أن يتجه المسؤول في عمله بإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يعيَ قيمة هذا الإخلاص، في أن يكون عمله مقبولاً عند الله، وأن يكون لموقفه مع الحق قيمةٌ إيمانية وأخلاقية، بحيث يرضى عنه الله ويحظى بما وعد الله به أولياءَه المؤمنين.

الثاني: إحقاق الحق، فالحق هو الأَسَاس الذي ينبغي العمل على إقامته، ليكون سائداً في موقع إدارة شؤون الأُمَّــة، الحق في المجال السياسي، الحق في المجال الاقتصادي، الحق في الجانب الاجتماعي، والحق في كُـلّ المجالات.

الثالث: دفع الباطل، الذي يتفرع عنه كُـلُّ المنكرات، وكل المفاسد والمظالم، إذَا كانت مواقع إدارة شؤون الناس والمناصب بحسب مستوياتها مِنصَّةً لخدمة الباطل، بالاستناد إلى إمْكَانات الدولة، وسلطة الدولة، ونفوذ الدولة، “حينئذٍ يتضاءل حضورُ الحق في حياة الناس، في مقام العمل به، والالتزام به، وتضيع حقوقُهم المشروعة”.

على أن هذه الأهداف الكبيرة والمهمة تحتاج إلى هِمَمٍ أكبرَ تساعدُ على تحقيقها في الواقع العملي وإنْ في الحد الأدنى؛ ولهذا لا بد أن تتوفرَ في القائمين على المسؤولية صفاتٌ حميدة، بعضها قد يكون فطريًّا والبعض الآخر قد يكون مكتسبًا، والأهم أن يحرص كُـلّ مسؤول على تنمية كُـلّ هذه الصفات والقدرات؛ كي تكون له خير معين على تأدية مهامه التي لا يبتغي من ورائها إلا مرضاة الله سبحانه وتعالى. ومن هذه الصفات التي وردت في محاضرات السيد القائد:

  • أن يكون أميناً مؤتمَناً، وموثوقاً على أعراض الناس وحياتهم، وعلى ممتلكاتهم وحقوقهم، وهذا هو المعيار الأخلاقي الذي يطمئن إليه الناس.

  • الكرم؛ لأَنَّ البخيل عادةً ما يحرصُ على جمع الأموال وإيرادات الدولة والاستحواذ عليها، والبخل عن إخراجها في خدمة الأُمَّــة والمصلحة العامة.

  • نزيهًا؛ لأَنَّ الكرمَ لا يعني الإسراف والتبذير، بل على المسؤول أن يكون نزيهًا فلا يستغل المال العام لصالح المنفعة الشخصية، أَو لشراء الولاءات، وأن يكون حريصًا على أن تصرف الأموال في نصابها الصحيح دون إفراط أَو تفريط. ويرتبط بالنزاهة الكَفُّ عن تعاطي الفساد والرشوة ومصادرة حقوق الآخرين.

  • العلم والمعرفة، فلا مناص عن العلم والـتأهيل وتنمية الخبرات والقدرات؛ مِن أجلِ الأداء الصحيح والسليم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. “وكلما كانت المسؤولية أكبرَ كانت الحاجة المعرفية أكبر”.

  • حليمًا رَحْبَ الصدر، بحيث يتعامل المسؤول مع الناس على أَسَاسٍ من الاحترام وحسن الخُلق، دون جفاء أَو غلظة، كما يقولُ عزَّ وجلَّ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) صدق الله العظيم.

(4)

(لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأنفسكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُونِي عَلَى أنفسكُمْ، وَايْمُ اللهِ لَأُنْصِفَنَّ المَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ، حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً) الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-.

استرسل السيد القائد في وقفته مع هذا المقطع من خطبة الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-، متحدثًا عن شرعية ومشروعية الحاكم، كأَسَاس لقيام الناس بواجباتهم الدينية تجاه وليِّ الأمر، وهي في حالة الإمام علي جليةٌ على نحوٍ لا يمكنُ الادِّعاءُ معها أنه قد وصل إلى هذه المكانةِ “بطريقة انتهازية “بل عن “قناعةٍ وجدارة”.. ولعلَّ هذه الحالةَ تنطبقُ اليومَ على حال شرعية ومشروعية السيد القائد عبدالملك الحوثي -يحفظه الله-.

أريدكم لله وتريدونني لأنفسكم: هذه الفجوة التي تحدث بين القيادة والمجتمع، مَــرَدُّها إلى الاختلاف في التوجّـه وفي الفهم، فـ “القادة الأبرار، المؤمنون، المتقون، هم الذين لا يريدون الناس لأنفسهم”، في مقابل أن البعض لا يريد من القيادة إلا ما يخدم مصالحهم الشخصية فحسب، “فإذا لم يرَ في القائد أنه يلبي له رغباته، أَو يحقّق له طموحاته الشخصية، أَو يُنَفِّذ له آراءه الشخصية، أَو يترك له المجال في أمورٍ لا ينبغي أن يسكت له فيها: إمَّا فيها مظالم، أَو أخطاء، أَو مخالفات… أَو غير ذلك؛ حينها تبدأ هذه الفجوة”.

وهنا يتوسع السيد القائد في الشرح توضيحًا وتحذيرًا لكل من هم في موقع المسؤولية، أَو من يلهثون وراء المناصب، معاتبًا من يتذمر نتيجة أمور تتعلق بواقعه الشخصي، كأن تكونُ لديه طموحاتٌ معيَّنة، مادية أَو معنوية، أَو يرفض مبدأ المساءلة ويريد أن تكون يدُه مطلقةَ التصرف دون محاسبة. فإذا لم يحدث شيء مما يتوقعه تصبح ردة فعله في إطار متدرج يبدأ بالتذمر والسخط، وُصُـولاً إلى عدم التفاعل في أداء المسؤوليات، وقد يصل إلى العناد والشقاق.

أَعِينُونِي عَلَى أنفسكُمْ: فمن واجب الجميع ممن هم في مواقع المسؤولية، أَو حتى بقية الأُمَّــة، أن يكونوا عوناً للحاكم على البر والتقوى؛ لما فيه الخير للأُمَّـة، وعزَّتها، وصلاحها، وفلاحها، وكرامتها. لكن هذا الأمر يفوت على عشاق السلطة الذين لا يهمهم إلا “تثبيت سلطتهم وترسيخ سيطرتهم وهيمنتهم، وهمُّهم أن يكون الناس متجهين إليهم (..) يعظِّمونهم، يقدِّسونهم، يطبِّلون لهم، ويخضعون لهم ويطيعونهم في الباطل؛ فهم لا يشدون الناس إلى الله، الذي له الولاء ومنتهى الطاعة”. وهذه رسالة مزدوجة للمسؤولين الذين يعجبهم الإطراء وينشُدُونه من الناس، وهي كذلك، لمن يبالغون في المدح والتعظيم من شأن المسؤولين والتزلف إليهم بالثناء نثرًا أَو شعرًا أَو غير ذلك.

وما أشبهَ الليلة بالبارحة؛ فلعلَّ السيدُ القائدُ يتوجَّـُه إلينا كمواطنين وكمسؤولين، طالِبًا منَّا أن نكونَ عونًا له على أنفسنا أَوَّلًا؛ حتى يقوم بما عليه من واجبات ولاية الأمر، وإلا فَــإنَّ النتيجة ستكون مأساويةً، على غرار ما حدث في التاريخ مع الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ- حين فرَّطت الأُمَّــة ولم تتعاون معه وتجاهلت خطورة الانحراف عن سيرته.

“لقد كان أميرُ المؤمنين عليٌّ -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ- نعمةً كُبرى على المسلمين، لو حظي بالتعاون اللازم -آنذاك- لغيَّرَ وجهَ التاريخ، وصحَّحَ مسارَ الأُمَّــة، ولَكانَ وجهُ العالم مختلِفاً عمَّا هو عليه اليوم”.

“وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأنفسكُمْ”، هذه خلاصةُ المشكلة في الماضي وفي الحاضر؛ ولهذا فَــإنَّ الحالة الصحية والصحيحة للجميع بلا استثناء: أن تكونَ الوجهةُ للجميع إلى الله، وأن نسعى؛ مِن أجلِ رضاه، وطاعته، “عندما تتوحَّدُ الإرادَة، ويتوحد الهدف والغاية، يستقيمُ الواقع”.

(5)

البديلُ المُــــر:

(وَايْمُ اللهِ لَأُنْصِفَنَّ المَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ) الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-

هكذا يقولُه الإمامُ عليٌّ -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ- حازمًا ومتوعِّدًا الظالمين بالإنصاف، ومبشِّرًا المظلومين بالعدالة التي كانت ولا تزال أهمَّ المسؤوليات في دولة الإسلام. وهذا ما ينبغي أن يكونَ عليه الحاكم المسلم في كُـلّ زمان ومكان؛ ولأن السيد القائد عازم على السير في هذا الخط قبل وبعد التغيير الجذري، فَــإنَّه يوجه نصيحته الأخيرة للبعض من المسؤولين الذين يتعمدون افتعال المشكلات، ويستمرئون عدمَ إنصاف الناس فيزجرهم بقوله: ليس من الشجاعة ولا من الشهامة والمروءة، ولا يشرِّف الإنسان العنادُ في موقع الإصرار على الظلم، فالعناد في حالة الإصرار على باطل قد يصل بالإنسان إلى جهنم، والعياذ بالله.

كما يحذِّرُ الجميعَ من التعصُّب للظالم على حساب المظلوم، “فالعصبيةُ مع الظالم هي عصبية جاهلية، سواءً وقفَتْ معه جماعته، أَو حزبه، أَو قبيلته”، والمطلوبُ إذا كانوا حريصين عليه أن يدفعوا به إلى الإنصاف من نفسه، وليساعدوه في الحق، حتى لا يبقى مُستمرًّا في الظلم والباطل.

ولَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ، حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً: هذا هو البديلُ المُــــــرُّ الذي يشير إليه السيد القائد في كلام جلي واضح لا يحتاج إلى تعليق:

“أحياناً تصبحُ هذه الصرامةُ أمام هذا النوع من الناس، ممن هو متعنت، لا يقبلُ بمنطق التذكير، بمنطق الأُخوَّة، بمنطق النصح، ولا تنفعُ معه، ولا تجدي أيةُ مساعٍ لتدفعه إلى الإنصاف، فتكون الصرامة الضرورية معه، والتي هي مفيدة للمجتمع؛ لأَنَّها تمثّل ردعاً لغيره، يراه الآخرون من نوعيته، فيدركون أنه لا مجالَ لأن يبقى الوضع منفلتاً”.

وتبشيرًا بعهدٍ جديدٍ يضعُ السيدُ القائدُ النقاطَ على الحروف، ويستنفر الجميع حتى يكونوا عونًا له في أية خطوات قد يُقْــدِمُ عليها حاضرًا أَو مستقبلًا:

“والمفترَضُ أن يتعقَّدَ الناسُ من الظالم، ومن المسيء، ومن ذوي التصرُّفات الظالمة والخاطئة، أن تكون العُقدةُ منهم، وليس على مَن يسعى إلى أن يتَّجه بالجميع الاتّجاه الصحيح، الذي يتحقّقُ فيه العدلُ والخير، والذي فيه المصلحةُ للجميع، للناس جميعاً، مثل هذه الأمور يجب أن تكونَ ثقافَةً عَامَّةً، ثم أن تكونَ توجُّـهاً لدى الجميع، ليكونوا عوناً، وَإذَا تحقّق هذا التعاون -كما قلنا وكرّرنا- تكونُ له نتائِجُ عظيمةٌ في الاستقرار الاجتماعي، في الازدهار، وفي تحقيق النتائج المهمَّة للأُمَّـة”