صمود وانتصار

ما يجب أن نفهمه عن موضوع التغيير الجذري

الصمود|| القول السديد|| كلمة السيد القائد عشية المولد النبوي الشريف 1445هـ

التغيير الجذري كان ضرورةً منذ البداية، يعني: مما بعد انتصار ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر، كان لابدَّ من القيام بالتغيير الجذري، لكننا انشغلنا جدًّا بالتصدي للعدوان، العدوان الشامل الذي استهدف بلدنا في كل شيء، حجم العدوان معروف لدى الشعب العزيز، لا يحتاج إلى توضيح؛ لأنه عانى من هذا العدوان الذي استهدفه في كل شيء: بالقتل، والتدمير الشامل، والاستباحة لكل شيء، والحصار الخانق، والسعي لاجتياح البلاد والسيطرة عليها كلها، حاول العدو أن يسيطر على البلد بكله، لكنه فشل، سيطر على أجزاء واسعة، لكنه فشل في إكمال عمليته، التي كان يطمح من ورائها إلى السيطرة التامة على كل البلد. حجم العدوان حدد وأوجب أن تكون الأولوية الأولى والكبرى هي: في التصدي له؛ لأنَّا كنا على وشك أن يخسر الشعب اليمنى حريته واستقلاله بشكلٍ تام، وأن يخسر مستقبله، وأن يتحول إلى بلدٍ محتلٍ بالكامل، وشعبٍ محتل، يخضع للسيطرة الخارجية بشكلٍ تام، وهذا مؤسف.

ولذلك فمسألة التغيير الجذري ليست مسألةً تعود إلى مستجدًّات، أو ضرورة جديدة، أو مسألة طارئة، بحيث نقول: أن الواقع كان صالحاً، وأن مؤسسات الدولة كانت كما ينبغي، وأن الوضع في أدائها على مدى المراحل الماضية كان بالشكل المطلوب، ثم ساء وضعها، وتطلب الأمر العمل على إصلاحها. الخلل قديم، المواطن يصيح منذ فترة طويلة، المواطن هو الذي يردد على لسانه منذ زمن طويل: (يوم الدولة سنة).

الروتين الطويل، الابتزاز المالي، المظاهر السلبية، الخلل الكبير في كل مؤسسات الدولة، مسألة معروفة للشعب منذ زمن، ومواقف الشعب- ومن ذلك ثورته في الحادي والعشرين من سبتمبر- هي من أجل ما يعاني منه، نتيجةً لذلك الخلل الكبير والمتجذر في معظم مؤسسات الدولة، ولذلك فالخلل يعود إلى مشكلة كبيرة، يعود إلى العمق، يعني: هناك كثير من الأنظمة، من القوانين، من اللوائح، وهناك إشكالية في الكثير من المفاهيم المترسخة في الأداء الرسمي، لها تأثير كبير وسلبي في أداء مؤسسات الدولة، مفاهيم غير سليمة عن المسؤولية، المسؤولية والمنصب في الدولة عند الكثير من الناس: هو موقع للحصول على الامتيازات والمصالح الشخصية، وتحقيق المكاسب الشخصية، وليس موقعاً لخدمة المجتمع، ولأداء مسؤولية بين الإنسان وبين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذه تؤثر على الكثير من المسؤولين، والكثير من الموظفين، ولا شك أن هناك في الموظفين والمسؤولين من يختلفون عن ذلك، من لديهم الكفاءة، النزاهة، من لديهم النيَّة الصادقة في العمل لخدمة الشعب، من يستشعرون المسؤولية بما تعنيه الكلمة، لكنهم يعانون حتى هم من مشكلة الكثير من القوانين، من الكثير من الإجراءات، الكثير من السياسات السلبية الخاطئة، التي تؤثر على أدائهم، وتكبلهم عن خدمة شعبهم كما ينبغي.

بل من الشيء الغريب في الأنظمة والقوانين هو: غياب معيار الكفاءة بشكلٍ تام، من أكبر وظيفة ومن أكبر موقع في الدولة، إلى أصغر موقع، غياب معيار الكفاءة، حتى في موقع الرئيس، ليس هناك لا في الدستور ولا في غيره ما يشترط مؤهلات ومعيار الكفاءة، في من يكون حتى في أهم المناصب في الدولة غائب تماماً هذا الموضوع، هذا فتح الباب لكل من هب ودب، بإمكانه وفق اعتبارات معينة وأمور معينة أن يصل إلى موقع معين ثم يتصرف كما يشاء ويريد، فالمشكلة قديمة، وليست طارئة ولا جديدة، والمواطن طالما شكا: سواءً على مستوى القضاء، قضايا لها من خمسٍ وعشرين عاماً لم تصل بعد إلى نتيجة، لماذا؟ لأنه حتى القوانين والأنظمة، تساعد على أن تأخذ القضية مدىً بعيداً ومساراً طويلاً جدًّا، ولا تصل في نهاية المطاف إلى نتيجة، قوانين البلد، نظمه، تساعد على هذا الضياع.

الحرمان في الخدمات، مسألة يشكوا منها المواطن في كل المحافظات، في ضواحي صنعاء، في المديريات القريبة من العاصمة [في بني مطر، في مديريات أخرى] قرى لحد اليوم لم تصل إليها طرق السيارات، الطرق العادية غير المعبدة، الطريق إليها مشياً على الأقدام فقط، أو استخدام وسائل النقل القديمة (على الحمير) تنقل إليها بعض الأشياء، ما بالك ببقية المحافظات؟
الثروة الوطنية على مدى عشرات الأعوام أُهْدِرت، وَنُهِبت، وَسُرِقَت، ولم تُسَخّر لخدمة هذا الشعب، ولم تُسَخّر للبنية التحتية لهذا الشعب، على مدى عشرات السنوات كانت تقدم لهذا الشعب الوعود، وعود بالخدمات بكل أشكالها وأصنافها وأنواعها: بالطرق المعبدة، بالكهرباء… بغير ذلك من الخدمات، ولكن لم تصل حتى على مستوى بعض ضواحي صنعاء، وأثرى مسؤولون، وأثرى شخصيات حزبية امتلكت شركات ضخمة جدًّا، واستثمارات هائلة، أصبحت اليوم تتنعم فيها في الإمارات، وفي مصر، وفي تركيا، وفي ماليزيا، وفي دول أخرى، والبعض في أثيوبيا، البعض منهم ممن يذرفون دموع التماسيح في هذه المرحلة، على شعبنا العزيز، وعلى ظروفه الصعبة، البعض منهم ممن هو في صف العدوان، وأيَّد وساهم في سفك دماء شعبنا، وفي تدمير مصالحه الحيوية: في تدمير البيوت، في تدمير المدن، في تدمير القرى، في تدمير الشيء المحدود الذي كان قد توفر لهذا البلد، من بعض الخدمات المحدودة والقليلة جدًّا، مقارنةً بثروته الوطنية، في بعض الحسابات لما كان قد توفر، أو يمكن أن يكون قد توفر من الثروة النفطية والغازية للبلاد خلال أكثر من خمسٍ وعشرين سنة، يطلع الرقم بشكل هائل، كم يمكن أن يتحقق منه من خدمات، وبنية تحتية لهذا البلد، ولكن ذلك كله غائب.

* لنكن منصفين في اعتماد المعايير لإنجازات الحكومة

فالمشكلة مشكلة قديمة، ليست جديدة، والبعض كان يتوقع (أو يريد) أن يكون من المعايير المعتمدة للإنجاز من الحكومة، من المؤسسات الرسمية، في الظروف التي شنَّ التحالف العدوان الشامل على هذا البلد، والحصار الخانق، والدمار الشامل، والاستيلاء على ثروة البلد من نفطٍ وغاز، والاستيلاء على أكثر الموانئ والمطارات، ومحدودية الإيرادات، كان يريد أن يكون ما يفترض من مؤسسات الدولة في هذه المرحلة بالذات، في هذا الظرف العصيب جدًّا، أن تقدِّم ما لم تقدِّمه تلك الحكومات المتعاقبة على مدى عشرات السنين، هذا ليس معياراً منصفاً، ليس معياراً منصفاً، البعض هي في إطار الدعاية العدائية، والتحريض المستمر، الهادف إلى تفكيك الجبهة الداخلية، واختلال الوضع الداخلي للبلد.

مستوى الظروف يجب أن نقيِّمها بشكل صحيح، مستوى الظروف لمؤسسات الدولة، والواقع الذي هي فيه، من محدودية الإيرادات، من ضغط العدوان ودماره الشامل، معروف، فلا يمكن أن نتوقَّع منها تقديم المستحيل، كان التماسك بحد ذاته في السنوات الماضية يمثِّل إنجازاً مهماً، التماسك لمؤسسات الدولة، ثم السعي نحو التعافي خطوة مهمة جدًّا، ومع ذلك لا ينبغي أن يستمر الحال كما هو عليه؛ لأنه هناك اختلالات فعلاً، واختلالات عميقة، في الأنظمة، في القوانين، في المفاهيم الخاطئة، في الإجراءات، في السياسات… في كل شيء، اختلالات كبيرة، مؤثرة سلباً، كان بالإمكان من دون تلك الاختلالات أن يكون الأداء أفضل- بلا شك- مما هو عليه، وبشكلٍ ملموس، لكن النظرة غير الواعية، غير المنصفة، أو النظرة المتأثرة بالأعداء، بأطروحاتهم التي هي في سياق الحرب على هذا البلد، على شعبه، وعلى بنيته ومؤسسات دولته، هي النظرة التي تقدِّم تصوراً سلبياً قاتماً، وكأنه ليس هناك أي إنجاز.

الذين لديهم هذا التصور لا يمكن أن يعتبروا أي إنجازٍ إنجازاً على الإطلاق، بما في ذلك القدرات العسكرية التي امتلكها بلدنا في ظل هذه الظروف الصعبة، والكبيرة، والمعاناة الرهيبة، والمحدودية في الإمكانات، القدرات العسكرية والتي شاهد الشعب جزءاً منها في العرض العسكري في يوم الحادي والعشرين من سبتمبر، وشاهد الأعداء وعرفوا مدى فاعليتها في ضرباتها لمنشآتهم النفطية والحيوية، بوصول الصواريخ والطائرات المسيَّرة إلى العمق السعودي، والعمق الإماراتي، وتحقيق أهدافها، بالرغم من وجود منظومات متطوِّرة جدًّا في التصدي للصواريخ والطائرات المسيَّرة، من مثل أنظمة الباتريوت الأمريكية، ومنظومات ثاد، حجم هذا الإنجاز الكبير يرسِّخ الأمل لهذا الشعب، أنَّه بالإمكان أن يكون هناك تغيير حقيقي، وإصلاح فعلي لوضع مؤسسات الدولة، وتغيير للواقع، وتحويل الحالة التي يعيشها شعبنا العزيز إلى حالة بنَّاءة؛ لأن هناك من يرسِّخ اليأس دائماً في أوساط الناس، من يسعى للتشويش الذهني عليهم، من يسعى لترسيخ حالة الإحباط في نفوسهم، من يذرُّ الملح على جرح الهم المعيشي، والظروف الصعبة، التي يعاني منها شعبنا، وسببها الأكبر: العدوان، والحصار، والدمار، والخراب، مضافاً إليه: أنَّه لم يكن هناك بنية اقتصادية بنيت في عشرات السنوات الماضية، يوم كانت كل موارد البلاد متاحة، لم تستثمر تلك الموارد لبناء اقتصادي حقيقي يبني بلدنا كبلدٍ منتج، بالعمد حوَّلوا وجعلوا السياسة الأساسية التي يعتمدون عليها في المجال الاقتصادي: أن يكون بلدنا مستورداً ومستهلكاً، وليس بمنتج، سياسة معتمدة، ساروا عليها عشرات السنوات، حتى أصبح الاستيراد في بلدنا لكل شيء، من الملخاخ، إلى الصلصة، إلى أبسط الأمور، وحتى ضاعت الحرف اليدوية، وتعطَّل أي مسار لتطوير الإنتاج، وبناء بنية للإنتاج، لا في المجال الزراعي، ولا غيره، أشياء بسيطة، بقي اهتمام المواطن وهو يعيش حالة حرب وصراع ومعاناة في تشبثه بالزراعة إلى مستوى محدود.

البعض من المواطنين في بعضٍ من المحافظات بقوا متشبثين بالعمل الزراعي؛ لأنه أساسي في حياتهم، لكن كم تراجعت الزراعة حتى عن الماضي، تراجعت كثيراً عمَّا كان عليه الأجداد، وأجداد الأجداد، تراجعت كثيراً، كثيرٌ من الأشياء التي كان ينتجها بلدنا تعطَّل إنتاجها حتى زراعياً، والمزارع لم يكن يشعر بأي مساندة من الدولة، ولا من أيٍّ من مؤسساتها.

فالبعض يأتي ليذرّ الملح على الجرح المعيشي، والهم المعيشي والاقتصادي، والمعاناة التي يعاني منها شعبنا العزيز، ويحمِّل كل المسؤولية، وكل الملامة على مؤسسات الدولة في هذه المرحلة بالذات؛ لأنه يقدِّم تصوراً عمَّا عليها أن تنجزه يفوق المستحيل.
ينبغي أن تكون النظرة واعية ومتفهِّمة؛ لأن هذا هو الذي يفيد في الاتجاه الصحيح، بإذن الله تعالى، وبتوفيقه، وبالأمل في فضله ومعونته، وبالعزم، والإرادة، والهمة، والوعي، يستطيع شعبنا أن يغيِّر واقعه الاقتصادي بشكلٍ تام، وأن يتحوَّل إلى بلدٍ منتج، وأن يغيِّر سياسته الاقتصادية، وأن يزيح من أمامه العوائق في وضعه الداخلي، سواءً العوائق في مؤسسات الدولة، من: قوانين، أو أنظمة، أو سياسات خاطئة، أو بعض المسؤولين الذين يعملون لمصلحة العدو في إعاقة أي نهضة لهذا الشعب، أو بعض المسؤولين من قليلي الخبرة، أو منعدمي الكفاءة، الذين لا يؤدون مسؤولياتهم بالشكل المطلوب.
التغيير الجذري يجب أن يترافق معه توجهٌ شعبي، وتحركٌ فاعل من أجل تغيير هذا الواقع؛ لأن تغييره يتطلب تحركاً شاملاً من الجميع، وتغييراً يبدأ من الأنفس.