المولد النبوي كملهم في التغيير والبناء
الصمود||مقالات||عبدالرحمن مراد
يحتفل المسلمون بذكرى المولد النبوي في كُـلّ عام، وقد تحولت المناسبة كتقليد سنوي جامد دون أن يدرك المسلمون طبيعة الرسالة وضرورات التحول التي أحدثها الرسول الأعظم في حياة البشر، هذا التحول يفترض أن يتحول إلى سؤال حيوي وفكري، إذَا سلمنا جدلاً أن الرسالة المحمدية كانت ثورة حقيقية أحدثت متغيراً جذريًّا في البناءات المختلفة وحولت الإنسان من كائن محتقر مذل إلى كائن له معنى وقيمة ومكرم.
وبقراءة حركة التاريخ تتضح الغايات والمقاصد في السياق العام للثورة المحمدية، فقد جاءت بقيم ومبادئ أخلاقية تحفظ للإنسان كرامته ووجوده وفاعليته في السياق العام للحياة مع حفظ الحقوق وتنظيم العلاقات الجدلية بينه وبين الآخر المختلف، كما أن الثورة المحمدية حملت فكرة التحرّر والاستقلال ولم تفرض خياراتها على البشر بل قالت ببيان الفكرة فمن شاء فليكفر بها ومن شاء فليؤمن بها، وحين فتح المسلمون البلدان لم يفرضوا دينهم على البلدان بل تركوا لهم حرية البقاء على معتقداتهم وحرية الدخول في الإسلام، وشكل ذلك بعداً ثوريًّا وحضاريًّا كَبيراً في حياة البشر أضاء هذا البعد الحياة المعاصرة في عالمنا المعاصر، وبسببه حدث هذا التحول العميق والتطور في الحضارة الغربية المعاصرة، في حين غفل عنه العرب والمسلمون كنكسة غير مبرّرة بعد أن تغللت العصبيات الجاهلية إلى نفوسهم، فكان السلطان مستبد طاغ خاضع لفكرة الصراعات الطبقية في المجتمع، وقد كانت ثورة الرسول الأعظم قضت على تلك العصبيات.
وبالعودة إلى الحركة الثقافية الإسلامية وبقراءة أبرز تجلياتها نجد أن جماعة أهل السنة حين عطلت قدراتها العقلية غاب عنها أن الإسلام مدني بطبعه وفطرته، وأنه وضع حداً موضوعيًّا فاصلاً بين القروية والمدنية، وأن وثيقة المؤاخاة بين المسلمين في المدينة كانت بمثابة أول دستور ينظم الحياة المدنية في التاريخ، وأن روح المساواة يمكننا استنباطها من حركة التاريخ التي تجسدت في الخلفاء الراشدين، فأبو بكر في أول خطاب له يؤسس للتعدد والمعارضة حين قال: لقد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، وتلك هي العلاقة الجدلية بين السلطة والمعارضة، وعمر يقف على المنبر قائلاً للناس: اسمعوا وأطيعوا فيقوم له سلمان الفارسي قائلاً له: لا سمع ولا طاعة، كيف لك أن تستأثر لنفسك بثوبين وتهب الناس من ثوب واحد.. عدالة اجتماعية ومساواة وعدل.. والإمام علي- كرم الله وجهه- يقف على قدم المساواة أمام القاضي شريح وهو أمير المؤمنين وخصمه يهودي مثل ذلك- وغيره كثر مبثوث في كتب الأخبار والسير والتاريخ- هو مظاهر وقيم الدولة المدنية الحديثة التي فلسفها الفكر الإنساني عبر مسار تطوره حتى وصل إلى مظهرها الحديث، أما فكرة المثلية التي يحتج بها بعض الفرق المعاصرة التي تنتمي للتيار السني فهي مظهر أخلاقي تنبذه الفطرة السليمة وقد ضبطه النص الشرعي ولا معنى للقول به أَو الخوض فيه، فقيمة الإسلام الإضافية تكمن في اشتغاله على البعد الأخلاقي وضبط معياريته بالنص المقدس بعكس الأديان الأُخرى التي كان اشتغالها على البعد الروحي فقط لذلك شاعت في مجتمعاتها المظاهر الأخلاقية غير السوية وغيرها من السلوكيات الشاذة التي تتنافى مع الفطرة وطبيعة الإنسان العربي على وجه الخصوص.
وقد رأينا كيف تناقضت مواقف تلك الجماعات التي تنتمي للتيار السني من موضوع الإساءة للرسول عليه الصلاة والسلام بين الأمس واليوم، فالقضية الدينية وفكرتها لا تكاد تتجاوز عندها عتبة الذاتية وظلالها القاتم، وقد نجد عندهم الانبهار بالنمط الغربي وهو ذلك النمط الذي يتقبل الفكرة في كلياتها ولا يعمل على تحريك وظائفه العقلية في التجزئة والتحليل والمقارنة، ونقل التجارب لا يعني مطلقاً التقدم والعصرنة والتحديث، فالقضية المدنية قضية معقدة، ولا يمكنها أن تتحقّق بمنأى عن العوامل الجوهرية المساندة وبمنأى عن المعوقات الموضوعية وخصوصية المجتمعات المسلمة.
ونحن اليوم أمام منعطف تاريخي مهم في تحقيق الوجود والقدرة والفاعلية ونخوض معركة مع قوى عالمية ترى في تفكيك النظم الاجتماعية والثقافية وجوداً حيويًّا وفاعلاً لها، ولمواجهة مثل تلك التحديات لا بُـدَّ لنا أن نسير في خطين متآزرين هما: خط التفكيك النظري والثقافي، وخط البناء وتوسيع دائرة الوعي والالتفاف الجماهيري بالطرق والوسائل الفنية الحديثة، فالفنون والآداب حياة مكرّسة قادرة على فتح عوالم المستقبل في الوِجدان الجمعي وقادرة على صناعة موقف جمعي من قوى الإقصاء والإبعاد والفناء والموت؛ فبقاءُ فاعليتنا رهن قدراتنا على اقتناص اللحظة التاريخية للتحول والتحديث والانتقال، واحتفالنا بالمولد النبوي ينبغي أن يلهمنا الثورة والانتقال والتحديث وليس مظهراً اجتماعيًّا جامداً.
ونحن اليوم أمام تحول وليكن المولد النبوي هو الملهم لنا في أحداث عملية التغيير والبناء التي ننشدها وذلك من خلال البحث والتدقيق واستلهام الممكنات من السيرة النبوية ومن حركة التاريخ الإسلامي حتى نرسم معالم الخصوصية العربية الإسلامية وبما يتسق مع المستوى الحضاري المعاصر من خلال الاستفادة من التجارب وليس اجترارها.