التوحّش الصهيوني في سياق التوحّش الغربي
وليد شرارة
التوحّش الصهيوني الراهن، ما كان ممكناً لولا اندراجه في سياق توحّش أشمل ومتزايد للولايات المتحدة، وتالياً لأتباعها في الغرب، وثيق الصلة بمحاولاتهم المحمومة للحدّ من تراجع وانحسار هيمنتهم، والتصدّي للتحدّيات المتصاعدة لها في أنحاء مختلفة من المعمورة. التوحّش صفة ملازمة للإمبراطوريات في مراحل تشكّلها وتوسّعها الأولى، بالغزو والقتل والإبادة والتهجير، ويتأكد مع ما نراه اليوم من توحّش وجموح أمريكيين وغربيّين في مناطق عدّة من العالم، من الشرق الأوسط إلى روسيا ــ أوكرانيا وصولاً إلى الصين، للمثال لا الحصر، أن التوحّش هو صفة ملازمة للإمبراطوريات عند تسارع انحدارها. ليس المقصود من هذا الكلام التقليل من دور العوامل الداخلية عند السعي إلى تفسير توحّش الكيان الصهيوني غير المسبوق الذي تجلّى أولاً في حرب الإبادة التي يشنّها ضد الشعب الفلسطيني. وبطبيعة الحال، تحتل عملية «طوفان الأقصى» البطولية، ووقعها الزلزالي على النخب السياسية والعسكرية الصهيونية ومجتمع المستوطنين، موقعاً مركزياً بين العوامل المشار إليها. لا حاجة إلى تكرار ما قيل حول الضربة التي وجهها «الطوفان» لأسطورة «تفوّق الجيش الإسرائيلي النوعي» ولهيبته وسمعته في داخل الكيان وخارجه، وكذلك لفكرة الملاذ الآمن الذي يمثّله بالنسبة إلى قطعان مستوطنيه. حول هذه النقطة بالذات، وفي إطار شرحه للتوحّش الإسرائيلي، يرى المفكر الفلسطيني رشيد الخالدي، أن هذا الأخير يشكّل امتداداً للمنطق العميق الذي حكم المشروع الصهيوني منذ بداياته: «أي مشروع استعمار استيطاني ينبغي أن يتّسم بالشراسة ليفرض نفسه على حساب السكان الأصليين. لكن ما شهدناه في الأشهر الماضية لا مثيل له في السابق، حتى في عام 1948».
عامل مهم آخر، في تفسير هذا التوحّش، هو التحوّلات البنيوية السياسية والاجتماعية التي عرفها الكيان في العقود الثلاثة الأخيرة، وصعود قوى التطرّف القومي والديني وصيرورتها قوّة وازنة على المسرح السياسي الداخلي ما حدا بعدد من الخبراء والمحللين الصهاينة كأبراهام بورغ، رئيس الكنيست الأسبق، في كتابه «الانتصار على هتلر مجدداً»، وعالم الاجتماع باروخ كيمرلينغ، وحتى رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك، للتحذير مما سمّوه بلا مواربة «انزلاقاً نحو الفاشية». سال الكثير من الحبر حول هذا الموضوع أيضاً في السنوات التي خلت. وقد خصّص شلومو بن عامي، وزير الخارجية الصهيوني الأسبق، مقالاً على موقع «ريسبونسيبل ستايت كرافت» بعنوان «غزة ويوم الدينونة»، لتناول ما يعتبره تطوّراً بالغ الخطورة على هذا الصعيد، وهو تعاظم قوّة التيار الديني اليهودي الخلاصي ونفوذه في المؤسسات السياسية والأمنية العسكرية، وفي المجتمع، والداعي إلى إبادة الفلسطينيين. يستند أنصار هذا التيار إلى تأصيل برنامجهم السياسي عقائدياً لآراء مجموعة من الحاخامات، أبرزهم أبراهام إسحق كوك وابنه زفي يهودا كوك وإسرائيل هيس، ويعتمدون خاصة على نص للأخير كتبه في عام 1980 عنوانه «الإبادة: أحد تعاليم التوراة». يعتبر هؤلاء أنهم يخوضون اليوم المعركة التي ستسرّع ظهور المخلّص وفقاً لمعتقداتهم.
لا شكّ أن العوامل المذكورة، وغيرها من العوامل الداخلية، تسهم في فهم خلفيات التوحّش الإسرائيلي، لكن هذا الأخير ما كان ليتحوّل سياسة يومية للكيان، تضرب عرض الحائط بقسم كبير من الخطوط الحمراء المحلية والإقليمية، لولا اندراجها في سياق توحّش غربي أشمل. ما كان الكيان المؤقّت ليتجرّأ على شنّ حرب الإبادة على غزة من دون الدعم اللامحدود السياسي والعسكري الأمريكي والغربي لإسرائيل، والحشد العسكري الأمريكي والغربي لصد أي تدخّل حاسم من أطراف محور المقاومة ضدّها. تكرّر هذا الحشد الهائل ثلاث مرات في 11 شهراً، وهو أمر استثنائي في تاريخ الصراع مع إسرائيل وتاريخ النزاعات الدائرة في العالم منذ عقود. بلغ هذا الحشد الآن مدى غير مسبوق واتخذ طابعاً هجومياً، كما يشير دوف زاخايم، المستشار الرئيسي في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية، ونائب وزير الدفاع الأمريكي بين 2001 و2004، في مقال على موقع «ذا هيل». وبعد استعراضه التفصيلي لقدرات حاملتي الطائرات أبراهام لينكولن وثيودور روزفلت اللتين أرسلتهما واشنطن لدعم إسرائيل، يلفت زاخايم الى أن الطابع الهجومي لهذا الحشد يظهر بوضوح مع إرسالها للغواصة النووية الحاملة للصواريخ الموجهة «يو.إس.إس جورجيا»، التي «لا تستطيع شيئاً في مواجهة الصواريخ والمسيرات لأنها سلاح هجومي. هي مجهزة بصواريخ توماهوك البعيدة المدى، والتي يصل مدى نسختها الأحدث إلى 1600 كم، أي ما يكفي لكي يتم قصف موانئ النفط الإيرانية في جزيرة خرج انطلاقاً من الشواطئ الإسرائيلية».
لا داعي بالتأكيد للتذكير بالجسر الجوي المستمر منذ اندلاع المواجهة في غزة، وصلت الطائرة الأمريكية رقم 500 منذ أيام، وبالقنابل التي تصل زنتها إلى 2000 رطل و500 رطل المرسلة للإسرائيليين والذين شرعوا في استخدامها عند تسلّمها، ولا بمحاولات وزير الخارجية الصهيو-أمريكي أنتوني بلينكن للتسويق لفكرة تهجير أهل غزة إلى سيناء، التي فشلت، ولكن التي تشي بمشاركة أمريكية فاعلة في مشروع نتنياهو وحكومته الفاشية لاستكمال التطهير العرقي في فلسطين.
تحشد واشنطن أساطيلها وغواصاتها للسماح لإسرائيل بالمضي بحرب الإبادة، و«تقود من الخلف»، هي وأتباعها الأوروبيين، هجوماً أوكرانياً داخل الأراضي الروسية، ويقر رئيسها بايدن استراتيجية نووية جديدة تركز على كل من التهديد النووي الصيني وعلى التهديد النووي المشترك لكل من الصين وروسيا وكوريا الشمالية. خيار اعتماد سياسة هجومية في جميع الاتجاهات، لا تستبعد اللجوء إلى السلاح النووي في حال استعار الصراع مع أحد الخصوم، ودفع هؤلاء الخصوم الأقوياء والصاعدين، أو في الحد الأدنى الممتلكين لقدرات عسكرية نوعية تتيح لهم تأثيراً كبيراً في جوارهم الإقليمي، كالصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، لتعزيز التعاون والتعاضد في ما بينهم، يكشف تعامياً متعمّداً عن حقائق صلبة وعن أكلاف باهظة قد تترتب عن مثل هذه السياسة، هي بين مؤشرات التوحّش الأمريكي والغربي. وتثبت التجربة أن التعامي عن الوقائع المتصلة بتغيرات موازين القوى الإجمالية، والميل نحو اللجوء المفرط للعنف لم يحل دون استمرار انحدار أية إمبراطورية عبر التاريخ.