صمود وانتصار

صاروخ يافا والحسابات الإقليمية

علي الدرواني

لا يختلف اثنان على أن الصاروخ اليمني الذي ضرب يافا “تل ابيب”، سيكون له تداعياته الإقليمية، حتى وإن لم تكن مقصودة، إلا أنها حاصلة بالفعل، فليس من الممكن أن يمر هذا الصاروخ في أجواء الجزيرة العربية، دون أن يثير الهلع في عقول قادة تلك الدول، ليس لشيء، إلا لأنها لا تزال في حالة حرب عدوانية ضد اليمن، منذ ما يقارب عشر سنوات، ولا تزال الرياض تمانع وتعرقل التوصل إلى حل وتطبيق خارطة الطريق المتفق عليها في المشاورات المباشرة في كل من الرياض وصنعاء، برعاية من الأمم المتحدة وسلطنة عمان.

بعد أكثر من عامين، لا تزال خارطة الطريق في الخطوة الأولى المتعلقة بخفض التصعيد، فقط، ولم تتجاوزها لتنفيذ بقية الخطوات الإنسانية من الخارطة، بإعادة تصدير النفط وتقديم الخدمات للشعب اليمني وصرف الرواتب المنقطعة منذ نقل البنك المركزي إلى عدن المحتلة، في سبتمبر من العام 2016، الأمر الذي يفاقم من الحالة الإنسانية وتردي المعيشة، وتفشي البطالة واتساع رقعة الفقر، وهي أمور لا يمكن لصنعاء أن تتفرج عليها طويلا.

اليمن في مواجهة مباشرة مع العدو الإسرائيلي

 

مع اندلاع طوفان الأقصى 7 أكتوبر من العام الماضي، أعلنت اليمن بشكل رسمي دخولها في خط المواجهة اسنادا لغزة، وحضّرت القوات المسلحة كل الأدوات اللازمة للانخراط في المعركة، واختارت البدء من البحر الأحمر، بمنع مرور السفن الاسرائيلية، وبعض العمليات الصاروخية والمسيرة إلى ميناء أم الرشراش “إيلات”، فكانت تلك المشاركة ذريعة أمريكية لتعطيل وإعاقة أي تقدم في خارطة الطريق، ويبدو أنها ضغطت على الرياض من أجل ذلك، وكانت التصريحات الواضحة من المبعوث الأمريكي والسفير الأمريكي والبريطاني، تربط بين الموقف اليمني الداعم لغزة، وعملية السلام في اليمن، بغرض الضغط على صنعاء لمنع اسناد غزة.

تحت عنوان المواقف المبدئية والإنسانية والدينية ، أصرت اليمن على الاستمرار في دعم واسناد غزة، وصعّدت من عملياتها العسكرية متنقلة بين مراحل التصعيد، حتى وصلت المرحلة الخامسة، بضرب عمق الكيان الاقتصادي والسياسي في “تل أبيب”، يافا، المحتلة، بطائرة مسيرة تمكنت من تجاوز كل الدفاعات الجوية وانفجرت في مبنى بالقرب من السفارة الأمريكية، وكانت رسالة واضحة لواشنطن وكيان العدو، بأن اليمن لن يتراجع إلى صفوف المتفرجين، طالما هو قادر على تقديم أي عمل ضد الكيان المجرم، لا سيما في ظل الصمت الدولي والتمادي الصهيوني في ارتكاب المجازر بحق أهلنا في غزة.

واشنطن في مستنقع اليمن

 

بالتوازي عملت واشنطن على تشكيل تحالف عسكري بمسمى “تحالف الازدهار”، لحماية الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، وإذا بالسحر ينقلب على الساحر، ويتم منع مرور السفن الأمريكية والبريطانية أيضا، لتتخذ مسارا طويلا عبر الرجاء الصالح، وبدلا من حماية ملاحة الكيان، إذا بالملاحة الأمريكية تتضرر فعلا ومعها البريطانية أيضا.

شملت العمليات اليمنية بحار الأحمر والعربي وخليج عدن ووصلت إلى المحيط الهندي، والبحر المتوسط، واشتبكت القوات المسلحة اليمنية مع البوارج والمدمرات الأمريكية عشرات المرات، ومع حاملات الطائرات الأمريكية “ايزنهاور” أكثر من أربع مرات وأجبرتها على الهروب من البحار اليمنية، وألقت بظلالها على خليفتها “روزفيلت” التي لم تجرؤ على الاقتراب من ميدان الرماية اليمنية ، خوفا من مصير “ايزنهاور”، وبعدها كذلك جاءت الحاملة “لنكولن”، لتبقي هي الأخرى بعيدة جدا عن مرمى الصواريخ والمسيرات.

الانجازات والنجاحات التي حققتها القوات المسلحة اليمنية، كانت مثار إعجاب ممزوج بالقلق لدى الأعداء وخصوصا الغرب وأدواتهم العربية للأسف الشديد، وبالتحديد في الرياض وأبوظبي، لا سيما مع التطور والتقدم في التقنيات والتكنولوجيا والتكتيكات المتبعة والتي وصلت إلى مراكز الدراسات العسكرية والاستراتيجية الشرقية والغربية على حد سواء.

تبعات فشل ردع اليمن

 

وعودا على بدء، فإن التطور الأخير بالصاروخ الباليستي الذي ضرب عمق الكيان، في يافا، “تل أبيب”، في إطار عملية التصعيد بمرحلتها الخامسة التي افتتحتها الطائرة المسيرة يافا، 19 يوليو، قد ترك أثره على العقل السياسي الغربي والاقليمي على حد سواء، وبالأخص وقد تجاوزت الطائرة يافا والصاروخ الباليستي كل وسائط وطبقات الدفاع والرصد الصهيونية، ومعها الأمريكية والبريطانية والعربية، والأقمار الصناعية والأجهزة والرادارات الحديثة والمنظومات المتعددة الطبقات الصهيونية التي ظل الكيان يفاخر ويباهي بها.

إن الفشل الأمريكي في حماية الكيان وملاحته وعمقه الاستراتيجي في “تل أبيب”، رغم حالة الاستنفار الكبيرة، في كل القطاعات والقواعد والانتشار العسكري الهائل في المنطقة، يلقي بظلال قاتمة على صانع القرار في دول تحالف العدوان على اليمن، ويجعلهم يضربون الأخماس بأسداس، بحثا عن السلامة، في بلدان تعتمد على البنية التحتية النفطية لها، على الأمن أولا، وإذا أخذنا في الاعتبار أن عمليات القوات المسلحة اليمنية قبيل إقرار الهدنة ، كانت قد وصلت إلى أهم الأهداف النفطية في السعودية والإمارات، وأشعلت النيران في أرامكو جدة، لعدة أيام، في عملية كسر الحصار الثالثة، كما أشتعلت النيران في ثلاثة مستودعات بمصفاة المصفح في أبو ظبي، بعملية اعصار اليمن.

تلك العمليات في السعودية والإمارات، حصلت قبل التطور الأخير في القدرات العسكرية اليمنية، وقد أحصت دراسة معمقة لمنظمة ACLED ، بأن 50 % من الهجمات اليمنية جاءت بعد طوفان الاقصى، ما يعني زيادة القوة النارية والمخزون العسكري من الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، وشرحت المنظمة في تقرير مطول ومفصل لها، الاستراتيجية الفعالة المتبعة من القوات المسلحة اليمنية في استخدام هذه الأسلحة، وعددت منها ست استراتيجيات بشكل تفصيلي، وخلصت إلى ذلك التحليل الشامل لهذه الاستراتيجيات يوضح كيف يمكن للتكنولوجيا، أن توفر ميزة تكتيكية، واستغلال نقاط ضعف العدو الهيكلية بطرق ابداعية لتحقيق الانتصارات.

وحسب المنظمة، فقد منحت التكنولوجيا في الطائرات المسيرة ميزة تكتيكية تسمح للحوثين حسب تعبيرها، بالبقاء متقدمين خطوة على خصومها، وتنفيذ هجمات ناجحة، وتوسيع الأهداف العسكرية، من خلال الابتكار التكنولوجي.

من هذه المعطيات بتطور القدرات العسكرية اليمنية، سواء في مجال الصواريخ البالستية، أو الطيران المسيرة، في المديات والفعالية، والقدرة التقنية والتكنولوجية، بالإضافة إلى تطور القدرات الدفاعية، وإسقاط عشر طائرات أمريكية من نوع “أم كيو ناين”، حتى اللحظة، تجعل السعودية والإمارات بالفعل تعيد التفكير، وتنأى بنفسها عن الصراع الذي تجرها إليه واشنطن، وقد تجلى بعض الشيء في رفض المشاركة في تحالف “حارس الازدهار” الأمريكي، رغم الالحاح الأمريكي لضم أبو ظبي والرياض.

لكن الأمر الذي لا تزال الرياض تناور فيه، ولها مصلحة أيضا، هو الاستناد إلى الضغط الأمريكي والتذرع به، لوقف أي تقدم في خارطة الطريق، بانتظار جلاء الأمور على حقيقتها، وقد يكون الضغط الأمريكي الفعال هو السبب، وليس مجرد ذريعة.

اليمن يصنع التحولات

أخيرا، لا يمكن أن تظل مفاعيل الصاروخ الباليستي في “تل أبيب” دون تأثير على قرار الرياض، وأيضا على استثمار صنعاء لهذه الانجازات لتحقيق أهدافا تعتبر ثانوية، وإن كانت ذات أهمية قصوى، بتخفيف عن كاهل الشعب وتقديم الخدمات، وانتزاع الحقوق الشعب اليمني.

وأبعد من التسريع في المضي بخارطة الطريق بين صنعاء والرياض، فإن التطور العسكري اليمني، خصوصًا مع ظهور القدرات في مجال الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، يعني تحولًا استراتيجيًا هامًا في توازن القوى بالمنطقة. ويؤثر بشكل مباشر على مكانة اليمن الاقليمية والدولية، ويدخلها كلاعب فاعل في معادلة الصراع الجيوسياسي الأوسع.

وبعد أن كان ينظر إلى اليمن سابقًا كبلد هامشي ودولة هشة توصم بالفقر والصراعات الداخلية، فإن التطور العسكري سينقل اليمن من هذا الإطار إلى دولة مؤثرة بشكل مباشر على أمن واستقرار المنطقة لتصبح شريكا في تحديد مستقبل وصياغة المعادلات الأمنية ويضمن نفوذًا تفاوضيًا أكبر مع القوى الإقليمية والدولية، ويجعل اليمن محور اهتمام عالمي، سواء من الناحية السياسية أو العسكرية. لأن القوى الدولية الكبرى تُراقب التطورات في اليمن باهتمام بالغ وتسعى إلى التعامل معه كطرف أساسي في معادلة المنطقة.

بالنسبة لدول الخليج، التي قد تشعر أن اليمن بات يشكل تهديدًا مباشرًا لها، الأمر الذي يدفع هذه الدول إلى إعادة التفكير في استراتيجياتها الأمنية، ويجبر هذه الدول على التعامل مع تعقيدات الصراع بطريقة مختلفة.

لكن الحقيقة التي يعلنها اليمن، أن القوات المسلحة اليمنية، لن تكون تهديدا لأي بلد عربي، ولن تعمل على الإضرار بمصالح الشعوب العربية والاسلامية، وقد أثبت ذلك خلال مراحل الاسناد لغزة، بتنفيذ عمليات دقيقة على تحالف العدوان الأمريكي البريطاني والإسرائيلي فقط، وهذا بحد ذاته رسالة سلام واضحة، وحثا لعواصم الخليج وخصوصا تحالف العدوان السعودي الإماراتي بأن تظل بعيدة عن التحريض الأمريكي المتواصل، وأن ترى في اليمن ظهرا وسندا، وتبدأ بإصلاح علاقتها مع شعبه الذي لا يستحق إلا كل الاحترام والتقدير، وأن تنظر إلى اليمن كبلد مستقل، وليس مجرد حديقة خلفية.