الفراغ.. هل من سبيل للقضاء عليه؟
يتوقع بعض المفكرين أن يكون وقت الفراغ هو مشكلة المستقبل القريب.. هنا يتساءل الإعلامي المعروف محمود المراغي.. هل تتحقق نبوءة العلماء والمفكرين وينتقل الإنسان من فراغ البؤس والبطالة.. إلى فراغ الوفرة والرفاهية، حيث يكفيه حينذاك يوم عمل أو اثنان كل أسبوع ليعيش بدخلها طيلة الأسبوع، ومن ثم تصبح هناك مشكلة حقيقية اسمها وقت الفراغ؟
الأرقام تشدنا للواقع، وأنه نتيجة للتقدم العلمي والصناعي والعولمة، باتت البطالة أكثر، وبات الفقر منتشرا حتى أنه – في عالم “1996م” كان مليار نسمة يعيشون بأقل من دولار في اليوم و “89” بلدا تدهورت أحوالها مقارنة بعشر سنوات للوراء! إنه البؤس في مواجهة الثراء، ففي عام “1999م” قال نفس التقرير إن هناك ثلاثة أفراد يحوزون أصولا تفوق الناتج القومي لكل الدول الأقل نموا.. وأكد التقرير التفاوت الشديد بين الأعلى دخلا والاقل دخلا بين دول الشمال في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وبين سائر بلاد العالم، حيث حازت دول المنطقة في ذلك العام:”71%” من تجارة السلع والخدمات في العام و “58%” من استثماراته، وفي المقابل زاد فقر الجنوب.. وكان أحد المصادر الرئيسية للفقر- شمالا وجنوباً – البطلة.. أو فراغ البؤس والفاقة.. وعلى النقيض من ذلك كان يتحدث عالم الاقتصاد كينز والذي تنبأ بأنه سوف يأتي يوم يحل الإنسان فيه كل مشاكله الاقتصادية والسياسية ولا تبقى له غير مشكلة وقت الفراغ، وهو ما توقعه مفكر اقتصادي عربي هو د. جلال أمين أيضا حين قال إن المشكلة الاقتصادية سوف تختفي من العالم عام “2050”.. فلن تكون الزيادة السكانية كارثة، ولن يكون هبوط دخل الفرد معضلة.. سوف يتحسن كل ذلك – حتى لو ساء توزيع الدخل بين الأغنياء والفقراء –لكن الكل سوف يتمتع بقدر أكبر من الإشباع.. وسوف يواجه بدرجة أكبر أيضا مشكلة وقت الفرغ.
وربما تكون نفس النتيجة قد وصلت إليها دراسة معهد “هدسون” الأمريكي والتي تنبأت – في عام 1976- بأن العالم وبعد “400” عام من استقلال أمريكا أي في عام “2176” سوف يصل إلى “15” مليار نسمة، لكنه لن يواجه مشاكل اقتصادية تذكر. سوف يحل مشاكله التي نعرفها ليواجه نوعا آخر من المشاكل الاجتماعية ومن بينها مشكلة وقت الفراغ!
من التاريخ إلى المستقبل
ومشكلة وقت الفراغ مشكلة جديدة نسبيا، ففي عصر العبودية ومن بعده عصر الإقطاع كان الإنسان ووقته كله مملوكا للسيد وللإقطاعي.. فلما جاءت الثورة الصناعية ودخلت الآلام حياة الناس، بات السؤال واردا عن ساعات وأيام الراحة.
وجاء الحديث عن استغلال أصحاب العمل للعمال من خلال أجور متدنية أو ساعات عمل أكثر أو شروط عمل سيئة.. والقصة بعد ذلك معروفة: نضال دائم من أجل أوضاع أفضل .. وساعات وأيام عمل أقل وهو ما حققته دول كثيرة حين جعلت أسبوع العمل خمسة أيام .. وتناقش البعض “هل يكون الأسبوع أربعة أيام”. وحتى ذلك الوقت لم تكن هناك، وعلى اتساع، مشكلة وقت فراغ.. ولكن وفي الآونة الأخيرة جاءت رياح القضية من باب آخر هو تحسن الأعمار مع تراجع فرص العمل الذي فرضته التكنولوجيا المتقدمة. حينذاك، والإنسان بات يعيش حتى الثمانين وأكثر من ذلك، أصبح السؤال: كيف يقضي أي شخص رحلة الحياة بعد أن يعتزل العمل؟.. هل يركز للبقاء في المنزل “وهذا سبب للوفاة المبكرة” أم يجد نشاطاً خارجيا اجتماعيا؟ أم يزيد من الاستمتاع بالحياة عن طريق السياحة؟.. أم يشغل نفسه بتربية الأحفاد؟
المشكلة تتفاقم، فهناك وبدرجات متزايدة أعداد أكبر من المسنين القادرين على العمل والراغبين فيه لكنهم لا يواجهون غير الفراغ.. وربما الضياع، وسوف تزيد الأعداد حيث تذهب التوقعات إلى أن متوسط العمر – وربما خلال قرن واحد – سوف يلامس المئة العام!
إنه الفراغ أيضا، ولكن من منظور آخر غير الذي قدمه كينز وجلال أمين والتقرير الأمريكي.. وهو فراغ صنعته المشاكل المتفاقمة التي لا يلاحق فيها الاقتصاد حاجات الإنسان، ولم يصنعه اقتصاد الوفرة في جميع ربوع العالم.
السؤال: هل من سبيل للانتقال بين التصورين؟.. هل يمكن أن يحل العالم مشاكله، وفي ذلك الأمد المتطور ويصبح وقت الفراغ بالفعل هو ما يشغل الإنسان؟
يمكننا أن نقول إن هناك آليات للانتقال قادرة على صنع الثورة في حياة الإنسان. هناك التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل والمتسارع بدرجة لم تحدث في التاريخ قبل ذلك.. وإذا كان ذلك له انعكاسه على توفير جهد الإنسان وإحلال الآلة والكمبيوتر مكانه، فإن رافدا آخر من هذا التقدم سوف يحدث انقلابا من نوع آخر.. أعني الهندسة الوراثية وتطور علم البيولوجيا والذي سوف يتيح للإنسان عمرا أطول، وصحة أوفر، وإنتاجا ماديا زراعيا وحيوانيا أكثر، وبما قد يحل مشكلة ” السكان والموارد” أي أنه في مقابل تناقص الحاجة للجهد الإنساني بسبب التقدم، فإنه سوف تكون هناك قناة أخرى تزيد إشباع الحاجات وقد تحدث هذه الموازنة: أيام عمل أقل تكفي للحصول على عيش رغيد ودخل وفير! والتصورات بعد ذلك كثيرة حتى أن البعض قد حاول أن يتصور العالم سنة “2500” كما فعل “ادريان نوبي” عندما أصدر كتابا يحمل هذا العنوان وتصور استنادا إلى أبحاث علمية – حياة الإنسان بين كواكب مختلفة ينتقل بينها في دقائق معدودة!
نقول، إن هناك آليات لانتقال البشرية من حلة إلى حالة، وهي ليست آليات علمية فقط.. لكنها أيضا آليات سياسية واجتماعية.. ففكرة “الحدود المفتوحة” والتي تتيحها العولمة الآن تؤثر في مسيرة المجتمعات بالضرورة.. فهناك انتقال المعرفة، وانتقال الأموال، وانتقال السلع والخدمات، بل وانتقال البشر والذي سجل في أواخر الحقبة الماضية – وفي جانب واحد هو الهجرة واللجوء والخروج – ما عانت منه “143” دولة حيث بلغ عدد اللاجئين والنازحين حينذاك:”49″ مليون شخص.. واذا كان انتقال المعرفة يصنع التقدم، وانتقال السلع والأموال يصنع واقعا اقتصاديا جديدا، فإن انتقال الأفراد يعني انتقال الثقافة، لكنه قد يعني أيضا تزايد المشاكل و.. تمتد آليات الانتقال من حالة إلى حالة فنشهد اجتهادات حول ” دور الدولة” واجتهادات حول عملية اتخاذ القرارات ومقرطة المجتمعات وبما يجعل الجميع شركاء في صناعة المستقبل.. ثم تأتي قضية البحث عن هوية فلا الاشتراكية قد حلت مشاكل العالم “في غيبة الديمقراطية” ولا الليبرالية باتت هي نهاية التاريخ حيث غاب العدل وانقسمت المجتمعات بدرجة أكبر.
على كل حال، فهذه هي آليات صناعة المستقبل: العلم، والاتصال، ونظم السياسة, والخيارات الأيديولوجية.. فهل يصل العالم فعلاً لما تصوره البعض حول مشكلة وقت الفراغ.. وهل يكون بالفعل فراغ الرفاهية والوفرة، وليس فراغ البؤس والبطالة كما نشهد الآن؟
..سيناريوهات مختلفة
ويستطرد الكاتب بقوله: الأحلام كثيرة والسيناريوهات قد تختلف والقياس بالأرقام أمر متعذر وقد نمضي في التصور فنقول إن الإنسان سوف يملك من وقت الفراغ أكثر ما يملك من وقت العمل.. وإن عملاً أساسياً له سوف يصبح إعداد برنامج الفراغ القاتل والممتد طيلة عمره!
سوف يحاول الإنسان خلق مشاغل ومتع جديدة سوف يذهب للفضاء حيث قد تنتظم الرحلات.. سوف يذهب إلى كل بقاع الأرض في سياحة ممتدة وتكاليف أرخص مما نشهده الآن، وسوف يكون رياضيا بدرجة أكبر، وقد يحل العلم مشكلة ندرة المياه فيمتلك كل شخص مسكنا وحديقة ويشتغل الإنسان بهواية الزراعة إلى جوار مهنته الأصلية وقد تغري الصحة الأوفر، مع عمر أطول بتكرار الزواج، بل قد تكون للزواج دورات يقتل بها الرجل – ومثلة المرأة – الملل من حياة زوجيه قد تمتد إلى سبعين أو ثمانين عاما. قد يحدث – وبقدر كبير من التفاؤل – كل ذلك.. فهل يكون الإنسان سعيدا؟.. وهل نعتبر حينذاك، وبعد خمسين عاما فقط، أن العمل مجرد وسيلة لكسب الرزق، فإذا حقق دخله إشباعا في ساعة كل أسبوع.. أصبح ذلك كافيا؟
لا أظن أن المعادلة يمكن أن تسير على هذا النحو.. ولا أظن أن الإنسان يستطيع أن يعود للصورة البدائية حين كان يعيش في كهف أو تحت الشجرة ويجمع رزقة من الطبيعة في يسر.. وربما في ساعات محدودة.
الإنسان قد تغير ومعادلة “العمل – الراحة” أو “العمل- الفراغ” لا يمكن أن تميل لشقها الثاني رغم أننا نعرف الآن ما نسميهم “عاطلين بالوراثة”.
المستقبل سوف يكون لمعادلة جديدة يستمر فيها العمل هو الأساس في حياة الإنسان.. فالعمل ليس مجرد وسيلة ارتزاق، لكنه قيمة في ذاته.. إنه العطاء والرضا النفسي. إنه الإنتاج والإضافة، وقد خلق الله الإنسان معطاء، ولم يخلقه ليتلقى “المن والسلوى” دون جهد يبذله!
ولكن.. كيف يتحقق ذلك والتقدم قد يصنع بالفعل إشباعا للبشر دون ساعات وأيام عمل طويلة، والحل كما نظن، هو خلق حاجات جديدة للإنسان، فتستمر الدورة: “حاجات أكثر- عمل أكثر- فراغ أقل”.
هكذا يقول التاريخ، فلم يعرف الإنسان قبل سبعين عاماً حاجته إلى الفضائيات أو الهاتف النقال. كانت وسائل الاتصال حينذاك تفي بما يريد.
ايضا، لم يكن الإنسان يعرف الطائرة أو السيارة أو القطار.. ولكن وبالتقدم العلمي جاءت وسائل المواصلات لتمثل احتياجا لا غنى عنه. هكذا بات القانون واضحا: احتياجات أكثر – استهلاك أكثر- إنتاج أكثر.. ويختم رجل الإعلام المراغي – بقوله: ولست مع المتفائلين الذين سيقولون: سيحل العالم مشاكله الاقتصادية سريعا.. وتبقى لديه مشكلة وقت الفراغ كمشكلة أساسية.
خالد الأشموري -عرب جورنال