صمود وانتصار

الإسناد اليمني مسنوداً بشواهد التجارب المحلية إلى فضاء النجاحات العالمية

الصمود||تقرير|| يحيى الشامي||

 انطلاقاً من الحقيقة المُثبتة والمؤيّدة بآلاف الشواهد تاريخياً وحاضراً أشهرَ اليمنُ سيفَ القوةِ في وجه القوة الغربية، حين أعلن من ساعاتِ الطوفان الأولى مساندته فلسطين ونصرته غزّة، دون اللجوء إلى لغة الاستجداءات السياسية والمناشدات الدبلوماسية التي لم تعد ذات جدوى ، وهو يعلم – أي اليمن – أن الحق المسلوبَ إنما اُغتصب بقوة السلاح ويدرك -والعالم كله يدرك- أن القوةَ سبيلٌ أوحدُ لاستعادةِ الحق، ثم حين تعتدل الموازين وتنتصف القوتان حينها فقط يمكن البدء في التفكير في سلوك الحلول السياسة، حيث تكون هنا تحصيلٌ للقوةِ وتحصينٌ للحق لا طريقٌ لاستعادته أو استرجاعه، حول هذه الفكرة الواضحة الجلية تدور خطابات وأحاديث وكلمات السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، ولعلها في بعدها الثقافي الديني تعبّر عن جوهر رؤية المشروع القرآني لطريقة إدارة الصراع في مقام الدفاعِ عن الحقوق والانتصار للمظلومين.

في البدء وبينما استفاق الجميع على صدمة الطوفان وجد اليمنيون أنفسهم في قلب معركة هم أحدُ طرفيها بالأصالة، لم يمثّل طوفانُ السابع من أكتوبر بالنسبة لليمنيين صدمةً بالمعنى الحقيقي، بقدرِ ما مثل فرصةً لرفع مستويات المواجهة مع العدو والانتقال لطورٍ آخر من الصراع القائم منذ أزمنة.

اليمن في قلب المعركة

وبالنظر للظروف المحلية بتوقيت معركة الطوفان فاليمن كان يعيش حرباً طاحنة شنت عليه عبر تحالف دولي أدارته أمريكا ورعته وقامت عليه، وهي حرب وُصفت بأحد أشرس حروب العصر الحديث، وقد كانت سبباً وجيها ومنطقياً يدفع عن اليمن عبء مناصرة فلسطين لو كان قرّر التخاذل، لكنه قلَب بعيداً عن كلِ الحسابات قرّر خوضَ غمارِ الإسناد من أعلى مستوى وبأعلى جهدٍ يمكنه، مسقطاً الذرائع عن الجميع و واضعاً الحجة على المسلمين ومقدّماً درساً إنسانياً يصنّفُهُ الكثيرون كواحدة من أعلى قيم المؤازرة الإنسانية، ولعل مراجعة بعض خطابات السيد القائد وأحاديثه عن القضية الفلسطينية -حتى تلك التي سبقت طوفان الأقصى- يُبيّنُ مركزيتها في الوعي اليمني المبني على أسس إيمانية وإنسانية صرفة

يقول السيد القائد في كلمته بمناسبة يوم القدس العالمي في العام 1444هـ الذي سبق طوفان الأقصى:

( ولذلك فإننا ننطلق من هذا المنطلق القرآني، بكل إيمان، بكل ثقة، وما يحاول الأعداء أن يصوروه، تجاه أي توجه كهذا- يقصد مناصرة الشعب الفلسطيني وتبني قضيتهم- ، وكأنه مجرّد عمالة لإيران، وتأثر بإيران، وعلاقة مادية بإيران: هو افتراء، هو بهتان، هو تشويه لهذا الموقف، إيران- بنفسها- تقف هذا الموقف من منطلق إيماني، وعقائدي، وديني، أبناء الأمة الأحرار، بما فيهم أحرار فلسطين، بما فيهم المجاهدون في فلسطين، يتحركون من هذا المنطلَق، نحن نتحرك من منطلق قرآني، يجمعنا بأحرار أمتنا، بأبناء أمتنا، الذين يتحركون وقد سَلِمَت لهم فطرتهم، ليس في قلوبهم مرض؛ لأن الموقف من عدو، كالعدو الصهيوني، واللوبي الصهيوني في العالم، ومن ورائه من أمريكا والغرب، الموقف منهم هو موقف طبيعي، موقف فطري، موقف سليم، هم عدو، يستهدف أمتنا، يحتل الأوطان، يقتل الناس، ينهب الثروات، فكيف يأتي البعض ليروِّج بأن تُقَبِّل تلك اليد، التي تصفعك، وتعتدي عليك، وتقتلك، والتي تسخر من مبادئك وقيمك، تحارب دينك، تستهدف مقدساتك؟!).

هذا على صعيدِ الدروس الأخلاقية، أما الحال بالنسبة للاعتبارات والظروف المادية والإمكانات العسكرية، فالحديثُ يطول ويختلف نوعاً ما.

بناء القدرات العسكرية

معلومٌ أن العدوان على اليمن في أيامه الأولى قضى تقريباً على معظم أسلحة الجيش اليمني الاستراتيجية من “صواريخ سوفيتية ومنظومات دفاع جوي وسلاح الطيران الحربي وغيره” ما وضع اليمنيين في فترة العدوان بأعوامها التسعة أمام تحديات البحث و توفير العتاد الحربي اللازم للمواجهة، وقد خاضوا بالضرورة اختبارات محاولات الإنتاج والتصنيع و التطوير وكانت نتائجها المؤكدة -وفق حسابات المنطق والمادة- شبه صفرية وغير مجدية، لكن ولأن منطلقات المشروع القرآني الذي تبنّاه اليمنيون إيمانية بحتة وبالدرجة الأساس، فقد كانت التجربة في هذا المجال فريدة بما يجعلها مستحِقة للتأمل ، وهي النقطة الأكثر إضاءة والموضوع الأجدر بالدراسة والتعميم والذي ظهر لا حقاً أنه يقود الى ثورة في الوعي الجمعي المسلم لجهة طريقة وأسلوب المواجهة والصراع مع العدو الأول للمسلمين “الصهيونية” أمريكا بريطانيا و”إسرائيل” والذي غالباً ما يواجه ويصطدم بإشكاليات ما يعرف بـ”موازين القوة المختلة أو غير المتكافئة” وهي العناوين التي يُعادُ تدويرها مع كل مواجهة وجولة للصراع.

مع إطلاق المقاومة الفلسطينية نداءات الإسناد والمناصرة صبيحة السابع من أكتوبر لم تعتبر القوات المسلحة اليمنية نفسها في سياق مواجهة أخرى أو حرب إضافية بقدر ما اعتبرتها مواجهة حتمية أعدّت نفسها لها ولو معنوياً منذ سنوات، وبالتالي فإن الحرب الإسنادية لن تمثل عبئاً إضافياً بقدر ما هي فصلاً جديداً وتطوراً دراماتيكي في سياقه الطبيعي، معاييره ترتبط تطوراتها ومعوقاتها فقط بالإمكانات والقدرات

يقول السيد القائد في أوضح حديث له عن حيثيات الإسناد اليمني ومنطلقاته:

(نحن نسعى باستمرار إلى تطوير قدراتنا العسكرية، وعندما نتخذ القرار بمرحلة معينة، معناه: أنها توفرت لنا الإمكانيات التي يمكن أن نستفيد منها لتنفيذ ذلك القرار، إلى ذلك المستوى، وهكذا نحضِّر فيما بعد ذلك لتوسيع دائرة العمل، وتوفير الزخم اللازم بذلك المستوى، ونحضِّر ما بعد ذلك لما هو في إطار مدى أوسع، ومدى أكبر، يعني: من الآن نحن نفكِّر أيضاً في المرحلة الخامسة، ونفكِّر أيضاً في المرحلة السادسة، ولدينا خيارات مهمة جداً وحسَّاسة ومؤثرة على الأعداء، وليس هناك بالنسبة لنا أي خطوط حمراء يمكن أن تعيقنا أبداً، يهمنا فقط أمران:

– الأول: هو الضوابط الشرعية الأخلاقية، نحن نلتزم بها في أعمالنا وعملياتنا.

– والثاني: هو مستوى الإمكانات والقدرات.

ولذلك نحن نسعى فيما يتعلق بتطوير القدرات، وتوفير الإمكانات، إلى أن نحقق- إن شاء الله- أهدافاً كبيرة).

 

وعليه فإن أدوات المواجهة من الأسلحة و الذخائر والعتاد الحربي ليست محدِدات لقرار خوض الصراع من عدمه بل أدوات تعزّز وتسرّع من وتيرةِ المواجهة القائمة أصلاً، وبالتالي فإنّ تحديات امتلاكها لا تختلف كثيراً عنها في مرحلة الحرب مع تحالف العدوان الأمريكي السعودي في سنواته التسع، بما رافقها من تأييدات إلهية لمسها المجاهدون في مختلف الأقسام العسكرية وشهدها العالم في محطات المواجهة المختلفة سواء على امتداد أربعين جبهة داخل الجغرافيا اليمنية أو في امتداداتها الإقليمية التي طاولت نقاطاً عدة في عمق دول العدوان “السعودية والامارات”.

بين العامين 2021 و2023م كانت القوات المسلّحة، من واقع استشرافها للمواجهة القادمة، تعمل بشكلٍ دؤوب وبجهدٍ عال على مسارين الأول رفع مستوى الكفاءة التصنيعية للأسلحة (التي استقرّت خطوط إنتاجها وثبتت فعاليتها) والثاني تزخيم ومضاعفة مخزون هذه المنتجات الحربية باعتبارها أسلحة استراتيجية تمثل عماد القوة ليمن ثورة الـ21 من أيلول سبتمبر وخلاصة خبرته العسكرية المتراكمة على مذبح تضحيات معركة التحرير واستعادة السيادة، على هذين المنوالين دارت تروس مكائن التصنيع المحلي بالاستفادة من خبرات سنوات المواجهة المتحصلة لدى العقل اليمني بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ الحروب الحديثة، وبما أهل العقل اليمني لمضاهاة والاشتباك مع أحدث الأسلحة الغربية وتحديداً الأمريكية التي استخدمت بكثافة في العدوان على اليمن، وبعضها لأول مرّة.

التغلب على المستحيل

تعود البدايات إلى العام الأول من العدوان حيث باشر الخبراء اليمنيون في مختلف المجالات العسكرية في دراسة بقايا المخزون الاستراتيجي للجيش اليمني في قصة تطول فصولها، ولعل صاروخ توشكا الروسي أنموذجاً ذائع الصيت لنجاح اليمنيين في هذا المجال، فالصاروخ المعروف بالنقطي شهد بعد نجاح القوة الصاروخية اليمنية في استخدامه خاصة في عملية 04- 09 – 2015م المعروفة بضربة صافر رواجاً عالمياً لم يحظ به في أي من الحروب العالمية السابقة، بما فيها حروب الروس أنفسهم، لقد استطاع اليمنيون من ترميم الصاروخ وتأهيله ليصبح أحد أكثر أدوات الحرب حسماً وتغييراً لمعادلة الحرب الجارية في حينه، تقول التقارير يومها إن ضربة صافر ألغت عملية عسكرية كبيرة كانت الإمارات تعتزم تنفيذها انطلاقاً من مارب باتجاه صنعاء، التقارير ذاتها تذكر أن الخبراء اليمنيين في الصاروخية أجروا تعديلات مطولة أولاً لإعادة الصاروخ الى الخدمة، وثانياً لتطوير قدرته الهجومية وفعاليته القتالية، ولم يقف الأمر عند هذا النجاح، حيث شرّح الخبراء اليمنيون الصاروخ واستنسخوا منه فكرة صواريخ مماثلة تعرف بتقنية الصواريخ النقطية ومن النسخ اليمنية الشهيرة بدر الذكي ونكال وغيرهما ..

العقل اليمني الذي اعتاد العمل والإنتاج تحت الضغط الكبير الناتج عن الغارات الجوية لتحالف العدوان، وجد في فترة التهدئة النسبية فرصةَ ذهبية لاجتراح الإبداع والتمكين من أزِمّة التطوير وفق أسس علمية مهنية لكن غير معقدة (وفق ما يصوّره الغرب في دعايته الترويجية المضخّمة لإنتاجاته الصناعية) أو على الأقل بعيداً عمّا يقدمه الغرب من هالات تجعل من صناعاته العسكرية علماً خاصًا ومعقداً لا يقوى على فك طلاسمه ورص مصفوفاته سوى العقل الغربي بعيداً عن كل هذه البروباغندا الهُلامية اجترح اليمنيون التجربة التصنيعية بفضاءات رحبة من الحرية الفكرية المطلقة من كل قيود الغرب الموضوعة على سبيل التعجيز، أما اليمني فقد فعلها بأدمغةٍ وأيدٍ وطنية من واقع الحاجة والإيمان المطلق بتوفيق الله ورعايته، وببساطة تجمع بين ضرورات الواقع العسكري التجريبي في الميدان والأسس المنهجية للبحث العلمي المعمول به عالمياً ، وليس مبالغة القول إن واحدة من تمظهرات هذا الإبداع هو “إنزال السعودي من الشجرة” وإجباره على تخفيض سقوف اشتراطاته وإلغاء أهدافه المعلنة مطلع “عاصفة الحزم” وعمليات “الأمل” وهو إبداع كان واضحاً -لا سيما لدى الأمريكي- أنّه يمثل تهديداً استراتيجياً يتعدى حدود المواجهة بين اليمن وأشقائه الأعداء.

في قلب المعركة البحرية

يخطئ، ويبالغ كثيراً، من يعتقد أن اليمن أدار عمليات المواجهة والاشتباك البحري مع “القوة الأمريكية الضاربة” في البحر الأحمر بأسلحةٍ غير تلك التي استخدمها في معارك الدفاع عن السيادة في معاركه ضد العدوان الأمريكي السعودي، ذلك أن الإمعان في التجربة اليمنية يظهر جلياً أن جوهر التطور اليمني في المجال العسكري اعتمد أساساً على تحسين النوع وتجويد السلاح أكثر من التركيز على تزخيمه، ويمكن الاستدلال هنا بعمليات التطوير المستمرّة التي جرت على سبيل المثال مع صواريخ منظومة سام التي استقرت على تحويلها الى صواريخ بر- بر بدلاً من كونها بر- جو، جرت عمليات التطوير بالتزامن مع محاولات التصنيع، إلى أن وُلد صاروخ بدر “المقذوف ثم الذكي” كسلاحٍ يمني خالص والذي يمكم اعتباره نقطة الانطلاقة الحقيقية لعملية صناعة المنظومة الصاروخية اليمنية.

ومع أن الجهات الرسمية في الدفاع اليمنية لم تتطرق حتى اليوم الى التفاصيل الفنية المتعلقة بطريقة التصنيع والتطوير، وتكتفي في بيانتها الصادرة بعبارة “بسلاح مناسب محلي الصنع” إلا أنّ تتبع المسار التاريخي للعمليات العسكرية الكبرى والأسلحة المستخدمة فيها من الصواريخ البالستية والطائرات غير المأهولة، وأيضاً بالاستفادة من العروضات العسكرية الكبرى التي جرت في الأعياد الوطنية يمكن من ذلك كله فهم طريقة إنتاج اليمنيين للصواريخ البالستية البحرية أو “المضادة للسفن”، ليُسجّل اليمنيون بذلك أول عملية انتاج واستخدام ناجح لهذا النوع من الصواريخ والتي أضحت -بين عمليةٍ وأخرى- حديث الصحافة ومحط اهتمام المختصين وخبراء الأسلحة حول العالم.

خلاصة القول:

يُمكن إيجازُ التجربة اليمنية الفريدة (بشقّيها الإيماني الإنساني والعسكري الميداني) في حقيقة لا غبار فيها وهي أن اليمنيين اعتمدوا على “مخزون هائل من الإصرار” أكثر من اعتمادهم على” مخزون الأسلحة”، لأن الأخير مهما يكن حجمه ينفد في معركة بهذا المستوى من العالمية والكثافة، وهو ما يفسّر استمرار المفاجآت التي يكشف عنها اليمنيون بين عملية وأخرى، وأيا يكن، فالتجربة اليمنية في كل فصولها بما فيها العمليات البحرية في مسرحها الممتد من الأبيض المتوسط شمالاً وحتى الهندي جنوباً، تستأهلُ فعلاً أن تُفرد لها الدراسات المنصِفة والمفصلة على سبيل الاستفادة والتعميم، سيما في لحظة مفصلية من عمر المواجهة المصيرية التي تقف عليها منطقتنا ويتوقف على نتائجها مستقبل شعوبنا وأمتنا.