مرحلة ما بعد سيد المقاومة
الصمود||مقالات||عبدالرحمن مراد
الواقع اليوم غيره بالأمس واستشهاد سيد المقاومة الشهيد حسن نصر الله، سيكون له أثره الكبير في قابل الأيّام، فالقضية اليوم تحمل تحت إبطيها تبدلًا كَبيرًا في معادلة الوجود، كما أن الموقف المتخاذل بشأن الحرب في غزة، والحرب والعدوان على لبنان من قبل الحكام العرب، تحمل علامات واضحة، ومؤشرات لا تقبل التأويل بحدوث متغير في المسار السياسي والثقافي، والمسار الإنساني، وهو أمرٌ بالغ الأهميّة، والوعي به يتطلب توظيف المعلومات بما يحقّق المصالح العليا للعرب والمسلمين، لا الإمعان في المسارات المضادة فتعود العجلة إلى الوراء ونحن ننوي التقدم بها خطوات إلى الأمام، ذلك أن العودة إلى الحالة الانكفائية، وإلى البنى التقليدية في تنظم مقاومة غير متكافئة، كالانسحاب من الزمن المعرفي المعاصر بالعودة إلى الذاكرة، فمن خلال المرجعيات قد نحدّد وعينا بالعالم لكن في حالة من التوازن النفسي والثقافي حتى لا تتجاهل الفجوة الكبيرة بين الحاضر والماضي فنحن نعلن احتجاجًا سلبيًّا غير فاعل وغير مؤثر في المسار العالمي الجديد إذَا حدث ذلك.
اليوم ندرك -كما يدرك الكثير من الحكماء والمفكرين- أن النظام العالمي القائم على مبادئ الرأسمالية يرى في البعد الإنساني، والحريات، والعدل، والمساواة، والحقوق، وفي البعد الأخلاقي، وفي التعدد وتنوع الحضارات، أدوات في فرض هيمنته، وخضوع الأنظمة في الرقعة الجغرافية العالمية لشروطه ومقاصده، ومن خلال تلك الأدوات فرض ثنائية الخضوع والهيمنة وأدار العالم وفق شروط المصلحة الاقتصادية والنفع العام، ووصل من خلال تلك الأدوات إلى مقاصده، ومثل ذلك أمر لا يمكن الشك فيه، فالحروب التي تحدث أَو التي حدثت منذ نشأته في القرن الماضي -وبالتحديد في منتصفه- حملت العنوان الإنساني، وهي تخفي تحت إبطها المصالح الدولية كما يحدّد معالمها -أي تلك المصالح- صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي وضرورات المجتمعات التي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي، بمعنى أن الدول التي تدير العالم عبر الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، والمنظمات الإنسانية التابعة للمؤسّسة الدولية، هي من كانت تدير العالم وهي من تحدّد مساراته، وتعدل في سياقاته، وفق رؤية توافقية تتشابك فيها المصالح، وتبدع عالمها، بعيدًا عن تفاعل الثقافات والحضارات المقهورة، كالحضارة العربية والإسلامية مثلًا التي يراها المجتمع الدولي أنها ثقافة جامدة، وحضارات غير إنسانية، كما يبدو من خطابه ومن حركة تفاعله مع الأحداث، ومن تصوراته الذهنية التي ما تفتأ الأجهزة الاستخبارية العالمية تمتّن أواصرها عبر شبكة المنظومة الإرهابية التي تمارس أنشطتها في الجغرافيا العربية، وتمتد بها اليد إلى المجتمعات الغربية لترسم أنموذجًا بدائيًّا قاتلًا ومدمّـرًا ومستهلكًا غير منتج، وهو يحاول تمتين تلك الصورة من خلال حركة العدوان على الدول وإمعان بعض الدول وعلى رأسها “إسرائيل” في انتهاك القانون الدولي والعهود والمواثيق الدولية الخَاصَّة بحقوق الإنسان والشواهد اليوم ماثلة للعيان في غزة وفي لبنان ومن قبل في اليمن وفي سوريا وفي العراق.
فحين أشتد الصراع بين النظام الرأسمالي والاشتراكي، حاول النظام الرأسمالي تنمية الأصوليات ليتمكّن عن طريقها من القضاء على خصمه اللدود في الشرق وهو النظام الاشتراكي وينفرد بعد ذلك بإدارة شؤون العالم وفق قيم ومبادئ الرأسمالية التي لم تشهد شعوب العالم المستضعفة منها سوى الغبن والاستغلال والضياع، وقد اعتمدت استراتيجية دعم الحركات الأصولية -كما هو ثابت- مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وكانت أفغانستان مسرحًا لهذه الاستراتيجية واشتغلت الأجهزة الاستخبارية عليها اشتغالًا مكثّـفا في عموم الخارطة الإسلامية، ونشأت على إثر ذلك الاشتغال الجماعات الجهادية السلفية التي جرى استثمارها وتوظيفها من قبل النظام العالمي الرأسمالي منذ مطلع الثمانينيات إلى اليوم.
لا شك أن قطر ودول الخليج قاطبة أدوات في يد النظام العالمي الرأسمالي بدليل أن النظم العشائرية الخاضعة والخانعة لم يتحدث عنها هذا النظام العالمي كنظم متخلفة وغير مدنية وعلى تضاد مع حقوق الإنسان، ومع مقاييس المجتمع المدني وهي ضد الحريات، بل اتضح من خلال إدارة ترامب للنظام العالمي في السنوات الماضية القيمة الفعلية للنظم العشائرية ودورها الحيوي الذي تمارسه في استمرار سياسة الغبن والاستغلال الذي تفرضه أمريكا على العالم الإسلامي على وجه الخصوص، ذلك أن العالم غير الإسلامي نادرًا ما نشهد فيه اضطرابًا وصراعًا تديره أمريكا.
لا تدخر أمريكا جهدًا في دراسة وتحليل الواقع الإسلامي والعربي، مع أنه قد استطاعت التمكّن من الهيمنة الاقتصادية والعسكرية على بلدان العالم الإسلامي، بل استطاعت أَيْـضًا ممارسة دور كبير في التأثير الفكري والتوجيهي في كثير من المجالات العلمية والفكرية.
فأمريكا لا تريد للمسلمين سلامًا ولا نماء ولا استقرارًا ولكنها تدير مفردات الموت والدمار والضياع للمسلمين وشواهد الواقع اليوم كثيرة فالاغتيالات التي تباركها أمريكا كثيرة ولا يمكن لعاقل أن يمر بها مرور الكرام ولن يكون آخرها اغتيال رموز المقاومة الإسلامية في محور المقاومة، بل سنشهد الكثير منها في قابل الأيّام فهي ضد حركات التحرّر والمقاومة وخَاصَّة الإسلامية التي تخافها أشد الخوف.
لا يرجع هذا التخوُّف من العالم العربي أَو من التيارات الدينية وحركات المقاومة على وجه التحديد –كما يشير تقرير (راند)- إلى ضعف التأثير الفكري للغرب في العالم الإسلامي؛ ولكن لأَنَّ المرحلة المقبلة تسعى إلى ممارسة تأثير فكري أكثر عمقًا، يصل إلى حَــدّ التغيير والتبديل الكامل، وُصُـولًا إلى صياغة إسلام متوافق مع القيم الغربية، وتابع لها بغير شرط ولا قيد، بل وقابل للتغيير المُستمرّ وفقًا لما يجد من متطلبات ومطالب وقد عبر رئيس وكالة المخابرات الأمريكية عن مثل ذلك بقوله “سنصنع لهم إسلامًا يناسبنا، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، فيتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر”.
يبدو أن العرب أمام مرحلة مفصلية وأمام حالة تتراوح بين الوعي واللاوعي بها، ولذلك فالتفاعل مع المستقبل معناه عدم التشبث بالماضي ومعناه إعادة صياغة المنظومة الثقافية والحضارية بما يحقّق الوجود الذي يتوازى مع العرب والمسلمين في العالم قاطبة ويتوازى مع الرسالة المحمدية التي تخص البشرية كلها.