صمود وانتصار

كيف برز السلوك الإعلامي الإسرائيلي في تغطية الحرب البريّة على لبنان؟

لا تعطي المواقع الإخبارية الإسرائيلية أي أخبار دقيقة أو مفصّلة عما يدور على الجبهات القتالية التي تخوضها. يعود ذلك بشكل أساسي، إلى القرارات العسكرية التي تفرض حظراً على نشر الأخبار المتعلقة بالميدان، وإلى منع التداول بأي خبر أو صورة أو تسجيل يتعلق بسير المعارك، تحت طائلة المحاسبة. ولذلك، فإن الخبر الرسمي الوحيد المسموح بتناقله وتداوله، هو فقط الصادر عن المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري. ومع قيام الحرب وفتح الجبهة مع لبنان، يحكم الاختصار والإيجاز لغة السلوك الإعلامي المتعلّق بالجبهة، بحيث تكون الإحاطة الخبرية على النمط التالي: الجيش يبدأ عملية عسكرية محدودة/ انضمام الفرقة كذا إلى العملية البرية/ اللواء كذا يتّجه نحو الحدود/ هذه كلها عناوين موغلة في الاختصار والترميز، تكفي لإعطاء العناوين فقط من دون التفاصيل.

ينقل الإعلام الإسرائيلي تفاصيل أخرى، ولكنها تفاصيل موجّهة، تنشر أخبار الخسائر التي تتكبّدها المقاومة، وهي أخبار غير صحيحة في جزء منها، وتهدف لرفع الروح المعنوية لدى المجتمع الإسرائيلي في الأجزاء الباقية.

خلال الأسبوع الأول من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2024، ومع بدء المواجهات البرّية على الحدود اللبنانية بين المقاومة والإسرائيليين، خصوصاً على محاور مارون ويارون وميس الجبل والطيبة وغيرها، ومع الخسائر الكبيرة وغير المتوّقعة لدى الإسرائيليين، كيف برز السلوك الإعلامي في تغطية أخبار الجبهة البرية على الحدود اللبنانية الفلسطينية؟

 

ميزات السلوك الإعلامي الإسرائيلي في تغطية الدخول البرّي

– المبالغة والتفخيم

كتب المراسل العسكري للقناة 12، نير ديبوري نقلاً عن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، إن “الجيش الإسرائيلي قضى على 440 إرهابيًا منذ بداية المناورة في لبنان ودمّر أكثر من 2000 بنية تحتية”، فإن كان المتحدّث يقصد بداية المناورة البرّية فهو غير صحيح وكلامه للتشويق والإثارة.

 

– عرض الإنجازات

إن الأخبار التي ينقلها الإعلام الإسرائيلي من جبهة الحدود اللبنانية، تأتي من قبيل النموذج التالي: “كتيبة المظليّين في جنوب لبنان عثرت على آليات وأسلحة تابعة لقوة الرضوان/ القضاء على نحو 60 إرهابياً واستهداف نحو 200 هدف إرهابي…

 

– الاستعراض والتباهي للتركيز على خسائر المقاومة

تعرض المواقع الإخبارية الإسرائيلية صوراً للتدمير الوحشي في بيروت، وتكتب: “الدمار في منطقة الضاحية/ قُتل 100 من إرهابيي حزب الله في اليوم الأخير/ اكتشاف أنفاق مجهولة ومقتل 21 قيادياً في حزب الله في المناورة البرية/ قتل المسؤول عن إطلاق الصواريخ المضادة للدبابات في كفركلا”، مع نشرٍ مكثّف ومكرر للصور والمشاهد التي يشرحها الإعلام الإسرائيلي بقوله، إنها أسلحة قوة الرضوان التي عثر عليها الجيش الإسرائيلي.

الملاحظة الغالبة، هي أن الإعلام الإسرائيلي في غمرة احتدام المعارك البرية، وما يواجهه على أيدي رجال المقاومة، يلجأ لاستثمار أحداثٍ أخرى، كأن يعيدَ ويكرّر كل عدة دقائق، أخبار “الهجمات العنيفة وغير المسبوقة في الضاحية، حيث أصداء الانفجارات تُسمع في كل أنحاء بيروت” وبهذا، فهو يستعمل القاعدة النفسية الشائعة المسمّاة “تشتيت الانتباه”، التي تستخدم لتخفيف القلق والتوتر، ولكنه يستخدمها على المستوى الجماعي وليس الفردي. فبدل أن يزوّد كيانه بأخبار الجبهة والجنود وسير المعارك، يذهب للحديث المفصّل حول “طائرات مقاتلة تابعة لسلاح الجو نفّذت بتوجيهات استخباراتية دقيقة سلسلة من الهجمات في جميع أنحاء بيروت”. ومن الطبيعي أن الجيش الإسرائيلي لو حاز على أي تقدّم عسكري على الجبهة، فإنه لن يلجأ لهذا التشتيت. ولو أنه لا يعاني من ثقل الخسائر الميدانية لما اضطر لهذا السلوك الإعلامي التشويشي والضبابي.

 

– التفاصيل العميقة لاستهداف قيادات المقاومة.

على النقيض من الشحّ الإخباري المتعلق بحركة الجبهة والميدان، يسهب الإعلام الإسرائيلي بنقل التفاصيل التي يوردها على لسان المتحدث باسم جيشِهِ، حين يتعلّق الأمر باستهداف قادة المقاومة الميدانيين. تصل الأمور إلى درجة أنه يسرد تفاصيل لا يعرفها عموم المحيطين بالشخصية المستهدفة، ويهدف من ورائها للظهور بمظهر المنتصر، الذي تمكّن عبر الاختراقات التكنولوجية من معرفة تفاصيل متعددة.

 

– الإشباع المسبق أو الفخّ النفسي المغري

ما قبل أيلول 2024 كانت بعض العناوين الإخبارية (الصادرة عن العدو) تترك آثارا نفسية إيجابية لدى المقاومة وجمهورها، وآثاراً سلبية وتخويفية لدى الكيان الإسرائيلي المؤقت. (وكانت المقاومة تفرح بها وتعممها وتسوّقها). لكن ما بعد أيلول 2024 يجب أن يتم التعامل مع بعض العناوين والتصريحات بحذرٍ كبير جدا، فهذه العناوين الإخبارية سيف ذو حدّين، تدعو للثقة بالنفس وتبعث على الطمأنينة والراحة والإحساس بالقوة، وهنا مكمن الخطأ.

خلال الحرب البرية، ينشر الإعلام الإسرائيلي قولاً لوزير الدفاع الأمريكي أوستن: “إسرائيل لن تكون قادرة على تدمير حزب الله”/ ويقول مسؤولون في الجيش الصهيوني إن كميات الصواريخ المضادة للدروع في القرى اللبنانية الحدودية غير مسبوقة/ ويمرّر الإعلام نفسه طروحات وآراء مثل “قدرات حزب الله العسكرية لا تزال قوية جداً”، وكل هذه المواقف، بعيدا عن صدقها أو كذبها، مجرّد أفخاخٍ كلامية تهدف لمنح المقاومة الشعور بالراحة والثقة والتهاون بقدرات العدو، فهي تؤدي للإشباع المسبق بالقدرة أولاً، ثم للوقوع في الفخ النفسي والميداني ثانياً.

 

– التصويب على الإنجاز الميداني وبثّ الروح المعنوية

في محاولة دائمة لرفع المعنويات لدى جيشِهِ ومجتمعه، يتداول الإعلام الإسرائيلي خبرا بسيطاً مثل: “دمّر جيش الدفاع الإسرائيلي مجسّم المسجد الأقصى الذي أصبح رمزا لحزب الله في جنوب لبنان”، مع العلم أن المجسّم عبارة عن تركيبٍ هندسيٍ متواضع موجود على مفرق العديسة كفركلا. يحرص هذا الإعلام على بثّ الروح القتالية والمعنوية في معظم ما يبثّه، وهذا أمر طبيعي جداً في الحروب وأثناء المعارك، لكن الإعلام الإسرائيلي “متمرس” في الدعاية السياسية والعسكرية خلال الحروب، لأجل هذا، هو يقلّل أو يُخفي أخبار الهزائم، ويبالغ في تصويبه على عدّوه.

 

– الشعار هو إعادة سكان الشمال

يحرص الإعلام الإسرائيلي على جعل عنوان معركته البرّية، أنها بهدف إعادة سكان الشمال إلى المستوطنات التي هجّروا منها، ويكرّر هذا الأمر على لسان قياداته الذين يسوّقون الشعار ديبلوماسياً وخارجياً، للاستثمار الإنساني والعاطفي. فعندما قالت كاميلا هاريس نائب الرئيس الأميركي أنها قلقة على الوضع الإنساني للمواطنين في لبنان، ردّ عليها الوزير المتطرّف بن غفير “العمل الإنساني هو التأكد من عودة جميع سكان الشمال إلى ديارهم سالمين غانمين”.

ونقل الإعلام الإسرائيلي عن قائد قيادة المنطقة الشمالية قوله عن المعارك في جنوب لبنان: “عمليتنا البرّية خطوة مهمة نحو عودة سكان الشمال سالمين إلى منازلهم” و”تقدير الجهاز الأمني ​أنه بعد تطهير كفركلا وإزالة تهديد حزب الله، سيتمكن سكان المطلة من العودة إلى منازلهم. وقد كتبت صحيفة إسرائيل هيوم “في المنظومة الأمنية يقدّرون أنه بعد تطهير” كفركلا وإزالة تهديد حزب الله منها، سيتمكن سكان مستوطنة المطلة من العودة إلى منازلهم، حيث من المتوقع أن تستمر العملية عدة أسابيع”.

 

– التلويح بفائض القوة والإنسانية المزعومة

ما يدعو للسخرية، هي الوقاحة المبالغ بها، التي اعتاد عليها الكيان الإسرائيلي المؤقّت في تعامله مع الآخر، بالإمكان تلمّس هذه السمة في كل ما يصدر عن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الذي يدعو سكان بيروت والجنوب بشكل يومي إلى إخلاء منازلهم وقراهم، تحت عنوان “أخلوا منازلكم لإنقاذ حياتكم، ومن أجل سلامتكم” وهو إعلام يضرب عصفورين بحجر واحد، يدّعي الإنسانية والحرص على سلامة الناس، فيما يرتكب الإبادة والمجازر الجماعية المتنقلة، وفي الوقت نفسه يقول للناس إن سبب التهديد هو وجود المقاومة وحزب الله، هادفاً إلى إحداث شرخ بين المقاومة وجمهورها، وهو الأمر الذي مازال يعلّق عليه آمالا منذ أيام 1982 وما قبلها.  يكرر العدو بياناته ونداءاته “لا تعودوا إلى منازلكم حتى إشعار آخر/ كل من يجد نفسه بالقرب من عناصر حزب الله أو منشآتهم أو أسلحتهم، يعرض حياته للخطر”.

 

– المسموح بالنشر

لا يفرّط العدو الإسرائيلي بأي معلومة من قلب الميدان القتالي، لذلك بدا غريباً الخبر الذي قال “أحبطنا محاولة لأسر جثة ضابطٍ في وحدة إيغوز في جنوب لبنان” وما ورد على موقع صحيفة يديعوت أحرنوت: “وحدة الرضوان في حزب الله حاولت خطف جثة جندي إسرائيلي خلال الاشتباكات من مسافة صفر في لبنان”، وكذلك أيضاً ما كتبه مراسل موقع “واللا” حول وضع المقاومة لحجارةٍ وهميةٍ على الحدود، وبداخلها كاميرات لمراقبة تحركات جنود الاحتلال، فالمسموح بالنشر قد لا يتجاوز 5 بالمئة مما يجري من أحداث ووقائع، وغير المسموح بنشره هو السائد والغالب.

 

– الاهتمام بعدد الصواريخ المطلقة وإحصائها

يبدو واضحاً وملفتاً، ما تبديه القيادات الإسرائيلية وليس فقط الإعلام، حول “عدد” الصواريخ التي تطلقها المقاومة. فمنذ 8 أكتوبر 2003 هناك جهات مهمتها عدّ الصواريخ فقط، بحيث توجد جداول يومية توثّق عدد الصواريخ يومياً وأسبوعياً وشهرياً، وتتم دراستها ومقارنتها دائما. يدلّ هذا على “غواية الأرقام” أو أهميتها الاستراتيجية، بالنسبة لعدد الصواريخ التي تهدد الكيان الإسرائيلي المؤقت، الذي يربط وجوده بعدد هذه الصواريخ وقدراتها. ضمن هذا السياق مثلا سيذكر الإعلام الإسرائيلي عشرات الأخبار مثل: “رصد نحو 40 صاروخاً أطلقت في الساعة الأخيرة ” و”100 صاروخ أطلقوا من لبنان صباح اليوم” و”عدد الصواريخ الليلية 60 صاروخاً” وهكذا…

 

خلاصة

– لا ينشر هذا الإعلام أي رقم دقيق للخسائر البشرية والمادية، ما يترك أخبار الميدان بصورة ضبابية دائمة لديه.

– الجزء الأكبر من أخبار القتال والمعارك هي أخباراً عسكرية، ممنوعة ومحظورة من التداول.

– لا وجود لأي تحديثات عن سير المعارك القتالية وشؤون العسكر وما يجري على الجبهات، وحتى عندما تذيع المقاومة مجريات الميدان يكتفي إعلام العدو بالصمت وعدم التعليق.

– الأخبار المتعلقة بالخسائر، تنشر بعد مضيّ وقت، وبالتدريج البطيء بالإضافة إلى الأخبار التي يتم تداولها حول الخسائر البشرية والتي تندرج تحت خبر “حادث أمني” والتي غالباً يتم التعليق عليها من قبل المستوطنين أنها جراء العمليات التي تقوم بها المقاومة في لبنان.

– الاهتمام والتركيز ينصبّ على ما يحصل لدى الطرف الآخر، وعلى أرض الخصم، أي لدى المقاومة.

– هذا المنع الرسمي من النشر جعل الوسائل الإعلامية بعيدة عن الواقع، وترتّب عليه غياب الوثيقة التي يُبنى عليها إخبارياً ومعرفياً واجتماعياً.