صمود وانتصار

من إبادة الهنود الحُمر إلى إبادة الفلسطينيين .. المجرم واحد

الصمود||تقرير||

كل القواميس تقف على قارعة العجز عند توصيف الحالة المأساوية التي بلغها واقع الفلسطينيين في قطاع غزة خلال وبعد عام من الجولة العدوانية الصهيونية.

والقصص الإنسانية لنساء وأطفال وشيوخ، ومرضى ومعاقين، وفقراء ومساكين وباقي الشرائح، كل له حكاية، وما عاد بمقدور المجلدات استيعابها، فالكل في لوحة الظلم سواء، والظلم تاريخي حسب تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفقط تصحيح هذا الظلم هو الذي “يمكن أن يضمن السلام في الشرق الأوسط”، وفق بوتين.

المظلومية لا تزال مستمرة، وها هي الأراضي الفلسطينية وغزة العزة على وجه الخصوص تعيش صفحة جديدة من صفحات الظلم التاريخي، حيث يجدد الكيان الصهيوني المحتل طرائق إبادة الحياة هناك، في سلوك يعكس النزعة الوحشية للصهاينة حسب تعبير الناشطين وعشرات الآلاف من المتظاهرين في مدن وعواصم عالمية، ممن نددوا بالعدوان الصهيوني على غزة، وطالبوا بإيقاف جريمة الإبادة بالنار والتجويع، ووقف مد العدو بالسلاح.

وتكشف تلك الدماء وأشلاء الشهداء، وذلك الحرمان من أبسط مقومات الحياة، عن حجم نفاق المجتمع الدولي الذي كان دائما سخيا بتصريحاته حول الحقوق الإنسانية والأمن والحرية، وفي لحظة من لحظات الاختبار لمصداقية القول، شكّل هذا المجتمع المنافق حاجز حماية وإفلات للكيان الصهيوني من العقاب على ما يقترفه من جرائم بحق الإنسانية.

معيار الإنسانية

حوّل الكيان الإسرائيلي قطاع غزة إلى أكبر سجن في العالم، وهو ما بدا كعقاب جماعي للفلسطينيين والذي يُعد جريمة حرب، حسب مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك، لتصير غزة بواقعها المأساوي معيارا للإنسانية، فيما العالم يسقط في أكذوبته وهو يشهد مظاهر التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي تمارس بتطرف شديد من قبل عصابات الهاجانا الصهيونية، ثم لا يحرك ساكنا.

يؤكد قائد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي، أن مأساة غزة هي مأساة الإنسانية وتُظهر أن النظام العالمي الحالي نظام زائف، ويقول: إن أحداث غزة عار على الحضارة الغربية والثقافة الغربية في العالم، وبينت أن حضارتهم هي حضارة تسود فيها القسوة وتسمح بأن نرى أمام أعيننا أنهم يهاجمون المستشفى، فيقتلون مئات الأشخاص في ليلة واحدة، وفي غضون ثلاثة أو أربعة أشهر يقتلون ما يقرب من ثلاثين ألف شخص غالبيتهم نساء وأطفال يُقتلون في نفس المنطقة وبإسناد منهم.

ويشير كلام السيد الخامنئي إلى حقيقة هذا التألَّب والتكالب الغربي على الشعب الفلسطيني الأعزل من كل شيء حتى من إسناد إخوته العرب والمسلمين.

أمريكا والكيان ودول التطبيع

بعد ثلاثة أشهر من الاستهداف المتواصل وتنفيذ المجازر وحصد أرواح عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وتدمير كل ما له صلة بالحياة، وقتها تكشّفت ملامح المخطط الصهيوني الذي يتجاوز ادعاء العدو بأنه انتقام للعملية التي صفعته يوم سَبْته في السابع من أكتوبر، إلى الإبادة الجماعية؛ لإفراغ غزة من أهلها، حينها توزعت الأدوار بين الكيان وأمريكا ودول الغرب بما فيهن الأوروبية وصولا إلى الدول ضئيلة المقام والمقال من دول التطبيع العربية وما شابه، لذلك سارت عملية الإبادة وفق هذا المخطَط الذي شغل فيه العدو الأمريكي دور المخطِط والممول بالسلاح والمعلومات، والحامي لعمليات الكيان في الوسط الدولي.

وفيما كان على الدول الغربية الأخرى المساندة، الدعم، كان على الدولة الهزيلة التي لا تخرج منها دول التطبيع العربية، التمويل، وإحكام السيطرة على الشارع العربي، وكذا العمل الدؤوب على تخفيف وطأة الحصار اليمني البحري على الكيان الصهيوني، ولذلك تواصلت عمليات الإبادة بأشكال مختلفة.

وانتهى الجدل حول وصم ما يرتكبه الاحتلال، بالإبادة أو “العنف المتبادل”، حسب ما يصفه الإعلام السعودي إلى فرز واضح لدول الخير ودول الشر، ثم إلى تداول تفاصيل جريمة الإبادة الجماعية على طاولة محكمة الجنايات، إلا أنه لم يكن في المخرجات ما يمكن البناء عليه، سوى تكريس لحالة التقزّم الدولي أمام الكيان المارق، الذي ضرب بكل الاتهامات والانتقادات عرض الحائط ومضى متحديا، لمواصلة مخططه.

والتصنيف بكون ممارسات العدو لا تخرج عن كونها إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، إنما يأتي بالاستناد إلى المُسلّمات التي لا يختلف فيها اثنان، فاستهداف المدنيين وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، عمل جبان ومُدان وفق كل المواثيق والأعراف الدولية وقبل ذلك وفق الطبيعة الإنسانية التي تأبى مثل الإجرام غير المبرر بحق الأبرياء.

يذهب مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك إلى أن “هناك دلالات على أنه ربما يكون قد تم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية”. وقال تورك “في ظل القصف العنيف وغير المتناسب، بالإضافة إلى الافتقار للمساعدة الإنسانية الفعالة، هناك مخاوف حقيقية يجب النظر إليها عن كثب بدرجة أكبر”.

كما أن ممارسة القتل على قاعدة مخالفة قواعد الحرب بقصد إرهاب الآخرين وهو ما تتبعه “إسرائيل” دائما، فذاك أمر يتنافى مع القيم الأخلاقية وحتى مع قيم الشرف والرجولة التي تأبى استهداف غير حاملي السلاح المشاركين في الحرب، ما يجعل مضمون المشهد الدموي الحاصل بقطاع غزة، محصورا في عصابات مسلحة تتهجم على مدنيين أبرياء بقصد إخراجهم وترحيلهم من أرضهم بأي وسيلة كانت، ليعيد كل ذلك إلى الأذهان أول إبادة شهد عليها التاريخ، وارتكبها البرابرة الأمريكان على سكان أمريكا الشمالية قبل أكثر من (250) سنة، حينها لم يكن لأمريكا شيء أو اسم يذكر، وجاءت إبادة الهنود الحمر الذين وصل عددهم إلى (100) مليون إنسان، بهدف الاستيلاء على أرضهم لإقامة إمبراطورية الشيطان الأكبر أمريكا عليها، وحينها رصد التاريخ تلك البشاعة التي انتهجها الأمريكيون المختلون من أساليب القتل والتنكيل حد سلخ الجلود، وإحراق الأحياء حتى الموت، وتقطيع أعضاء الرجال، في سقوط مدو للآدمية.

واليوم يعيد كيان الاحتلال الإسرائيلي لعب نفس الدور بحق الشعب الفلسطيني بقصد إبادته والاستيلاء على أرضه، ومن ثم فرض الإملاءات على العرب بوجوب وحتمية التعايش مع وجوده والقبول بتوسُعه على حساب الجميع، مالم فإن الزحف الصهيوني المتواري خلف أمريكا والغرب ودول المهانة العربية آت.

يؤكد السيد القائد عبد الملك بدرالدين الحوثي أن الإبادة الجماعية التي يمارسها العدو الإسرائيلي بشراكة أمريكية هي سياسة ممنهجة ومدروسة ومتعمّدة، ويقول السيد القائد في كلمته يوم 21 مارس الماضي: الجرائم في غزة تذكّر من نسي من سكان العالم بماضي أمريكا الأسود الذي تأسس على الإجرام والغطرسة.

ويشير إلى أن: مأساة غزة كفيلة بكشف حقيقة أمريكا وربيبتها “إسرائيل” التي ترضع الدماء منذ ولادتها غير الشرعية.

الأعراب أشد كفرا

شاء الله أن يكون الشعب الفلسطيني هو حاجز الحماية الأول في وجه هذا الزحف للكيان الغاصب، الهادف إلى الاحتلال والسيطرة على كل المنطقة، لذلك ذهب العدو إلى صبّ كل شُحنات الحقد والغطرسة على رؤوس الأبرياء مستغلا مخازن الأسلحة السعودية والإماراتية، وقبل ذلك الأمريكية والبريطانية والألمانية والفرنسية المفتوحة لسد احتياجاته، ولا يهم نتنياهو وباقي القادة الصهاينة كم من بشر سيقتلون في طريقهم إلى هدفهم، فثقافتهم تقوم على إبادة كل البشر من أجل العِرق اليهودي الصهيوني.

ولم يكن مؤلما من العرب والمسلمين فقط هذا التخاذل المُريع ونكران المشتَركات السامية مع الشعب الفلسطيني في العقيدة واللغة والعروبة والتاريخ والأرض والمقدسات، وقبولهم أو تعاميهم عن ممارسات العدو الصهيوني المحتل للأرض العربية والمدنّس للمقدسات، وإنما المؤلم تجلى بصورة أبشع بهذه الهبّة والنجدة التي ظهر عليها العُربان وهُم يُسارعون لإسعاف العدو القاتل باحتياجاته من الغذاء والنفط بعد أن خنقه اليمن بالحصار البحري، بينما في الجانب الآخر هناك الأطفال يصرخون بحاجة للحليب، والمرضى يتألمون بحاجة للدواء وكل أبناء الشعب الفلسطيني يسقطون جوعا بعد أن شدد العدو عليهم الخناق ومنع عنهم كل أسباب الحياة بمباركة دول التطبيع.

يؤلمهم ما يرون من حكايات مأساوية لأشخاص ماتوا جوعا، وجرحى كبار وصغار تمت مجارحتهم  بلا مواد تخدير، ونساء وجدن أنفسهن في مواجهة خذلان عربي وإسلامي غير أخلاقي وغير إنساني، ولا يمتّ للدين بصلة ويتعامل مع مشهدهم اليومي بكل انسلاخ.

زد على ذلك حين تكشف لنا الأيام عن جديد الخيانات، فتصدم كل حُر عربي أو غير عربي، مسلم أو غير مسلم تأتي مفاجأة مشاركة عرب في ارتكاب هذه الجرائم وبصورة مباشرة، إذ كشفت شهادات لمدنيين فلسطينيين من غزة مشاركة جنود إماراتيين إلى جانب جيش العدو الإسرائيلي في تنفيذ حملات الدهم والاعتقال والاستجواب فضلا عن جرائم التنكيل والتعذيب والقتل في القطاع.

وقال معتقلون بعد تحريرهم الأسبوع الماضي وشهود عيان أن جنديا على الأقل كان يستجوبهم باللغة العربية وبلهجة إماراتية صريحة، فيما الدبابات التي حاصرت مركز الإيواء كانت ترفع علم إسرائيل وأسفل منه العلم الإماراتي.

وبحسب مصادر فلسطينية محلية فإن أكثر من ٢٠٠ شخص من شمال قطاع غزة تم اعتقالهم والاعتداء عليهم قبل أيام، وقد تم تقسيمهم إلى مجموعات ومع كل مجموعة جندي إماراتي يتحدث العربية للتحقيق معهم.

من بيت حانون إلى رفح

تجاوز عدد الشهداء والجرحى والمفقودين الـ(150) ألف إنسان ولا يزال نَهَم القتل الصهيوني مستمر بما يعزز حقيقة أن هدف مخطط هذه الجولة من العدوان على الفلسطينيين إنما هو إفراغ القطاع من أهله بقصد تمدد كيان الاحتلال ولو على أشلاء الأبرياء.

أما رقم ما تم تدميره من الحجر، فلم يعد من المنطقي الإشارة إليه لأن الحقد الصهيوني، دمر كل مباني القطاع سواءً أكانت سكنية أو مؤسسات تعليمية أو مستشفيات أو مراكز صحية أو هيئات خدمية مياه كهرباء، نظافة، ومكافحة أوبئة حتى المخابز لم تسلم من الاستهداف، وكل شيء متعلق بالبنية التحتية تم تدميره وتحول المكان إلى أنقاض وتلال من الدمار، وما عاد هناك مكان يناسب تعريفه بالمربعات السكنية أو بالأحياء ولا حتى بالطرقات.

قصفوا المنشآت والمخيمات وطمرت الأنقاض الكثير من الشهداء ولا تفاعل مع مناشدات الأهالي والهيئات الصحية لانتشال الشهداء والمصابين، في جباليا في بيت لاهيا، في شمال القطاع ووسطه وجنوبه من بيت حانون إلى رفح، حيث لا منطقة آمنة، ولا حصانة لمكان، يقول كريس لوكيير، أمين عام أطباء بلا حدود:  “المدنيون يُذبَحون. يُدفع بهم إلى مناطق قيل لهم إنها آمنة، فلا يطالهم إلا قصف جوي بلا انقطاع وقتال عنيف”.

وفي مايو الماضي اعتبرت منظمة أطباء بلا حدود “جميع الدول التي تدعم عمليات إسرائيل العسكرية في هذه الظروف متواطئة أخلاقيًا وسياسيًا”.

وفي أغسطس الماضي حمّل مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مسؤولية الوضع المأساوي في قطاع غزة، إسرائيل وما وصفه بجيشها الذي يقود حربا مدمرة ضد الفلسطينيين في غزة المحاصرة، حسب تعبيره، وأكد أن الوضع المأساوي سببه “الفشل المتكرر من جانب القوات الإسرائيلية في الامتثال لقواعد الحرب” وفق كلامه، كما اعتبر مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في أول تعليق له على حصيلة عدد الشهداء التي أعلنتها وزارة الصحة في غزة حينها، أن فقدان أرواح 40 ألف شخص في غزة هو علامة “فارقة وحزينة للعالم”.