صمود وانتصار

فجوة القيادة!! الفراغُ الذي لا يمكن ملؤه

الشّيخ علي حمادي العاملي

“يا رب عوّضنا سيّد متل هالسيد”.. جملةٌ دُعائية خرجت من قلبٍ طافحٍ بالحزن والألم. بحرقة عجوزٍ بدا كأنه حشدَ كُـلّ تاريخ التضرّع والابتهال ودموع الأنبياء. كان ذلك في تشييع أمين عام حزب الله السيد عباس الموسوي الذي اغتالته طائرات العدوّ الصهيوني سنة 1992..

تميّزت مقاومة لبنان بخصوصيات كثيرة أبرزها مسألة القيادة. صحيحٌ أن القرار في الحزب يصدر عن مجلس شورى إلا أن هناك مساحة وظروف تُبرز بعض الرجال. ظروف لبنان وتحدياته أبرزت بعض القادة الذين شكلوا تهديدًا وجوديًّا للكيان.. فكان لا بد من إزاحتهم بعمليات اغتيال يؤمل منها أن تترك فجوة يصعب ردمها.

إن مسألة القيادة مسألة طبيعية وشائعة في التاريخ البشري منذ آدم إلى اليوم. أي توجيهٍ وتأثير في الآخرين ودفعهم نحو سلوك معين هو نوع من القيادة. وهي تحصل على مستويات متفاوتة بين الأفراد، في المؤسّسات والشركات، في التنظيمات المختلفة، وُصُـولًا إلى الدول والجيوش. إلا أن هذه الظاهرة القديمة الجديدة ورغم بداهتها اكتست ألوانًا كثيرة من الاهتمام في عصرنا الراهن خُصُوصًا مع ازدياد الحاجة إليها في الحربين العالميتين والحروب الكبرى، ودور القائد في دفع الجنود وتحفيزهم للمشاركة في القتال، وكذلك القيادة المدنية مع الثورة الصناعية والحاجة إلى قادة ومدراء أكفاء يديرون وسائل الإنتاج والموارد بأقل كلفة وأعلى ربح.

كل ذلك أتاح للعلماء والباحثين فرص الخوض في غمار أبحاث ودراسات جديدة في علوم متعددة مثل علم السياسَة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها، فبحثوا حول مفهوم القيادة وفنها وأساليبها، وطُرحت نظريات حولها، وكمّ كبير من المعلومات والقراءات والتحليلات ودراسة شخصيات قيادية، وُصُـولًا إلى القيام بتجارب الاختيار النفسية كما فعل العالمان هوغو مونستربيرغ وولتر ديل سكوت، أَو إجراء اختبارات الذكاء كما ذهب يركيز وبنغهام. فعلماء النفس هؤلاء حاولوا تطبيق فرعهم الدراسي على تقييم القائد وتحديد هويته بل حتى التنبؤ بظهوره.

بغض النظر عن كون القيادة وراثة أَو تلعب العوامل الاجتماعية دورًا في تكوينها، أَو أي تفسير آخر لها، إلا أن المسلّم به أن القيادة عملية تفاعلية إنسانية، تفاعل بين القائد والجماعة، وبالتالي تُدرس الظاهرة في علم الإنسان في إطار العلاقات والتفاعلات، وهنا يبرز دور الجماعة أَيْـضًا، فعلاقة القائد بالجماعة التي ينتقل بها من مستوى إلى آخر ويحملها لتبلغ أهدافها المقتنعة بها والتي يرسمها معها ويطمح إليها، هي التي تحدّد نجاح القائد ومستوى مهارته.

اكتشف الإمام الخميني مثلًا هذا السر، فعمل من اللحظة الأولى لقيامه ونهضته على ربط الشعب الإيراني بجذوره التاريخية وتراثه الإسلامي. فالتراث الروحي والثقافي لأي مجتمع هو العامل الأهم في تكوين القائد وفي حركة القيادة، وكذلك في التأثير بالجماعة وسلوكها وقلب القيم التي كانت سائدة في المجتمع الثائر إلى قيم معاكسة تمامًا. ولعل أشهر الجمل المؤثرة في ثورة الجمهورية الإسلامية في إيران هي قول مفجّرها “كل ما لدينا من عاشوراء”، وهذا برأيي نقطة التحول الأولى، حَيثُ جاءت في وقت يسعى الشاه وحاشيته لفصل الشعب عن جذوره الإسلامية ومحيطه واستبدال هويته الثقافية.

قيادة المقاومة في لبنان تنتمي إلى تلك الجذور. القيادة التي تؤمن بضرورة المعرفة “واتقوا الله ويعلّمكم الله”، وبالمدد الغيبي والمرجعية الشرعية لأي قرار، وتؤمن أَيْـضًا بالإنسان خليفة الله في الأرض وليس الآلة أَو الرقم كما في العالم المادي الغربي، وتجمع بين النظرية التدريب العملي من خلال الخبرة في ساحات وميادين العمل والجهاد، بالإضافة إلى المبادئ الأخلاقية التي هي دستور القائد في أداء مهامه. قيادة السيد عباس الموسوي كانت نموذجًا فريدًا من هذا النوع. هو لم يفهم الجماعة التي ينتمي إليها ويعيش في نطاقها فحسب، بل اندمج بها فكريًّا وروحيًّا وعاطفيًّا حتى جعل أشفار عيونه في خدمتها، وحقّق بذلك الدور الرسمي بصفته الأمين العام يقوم بالمهام التنظيمية والإدارية، والدوري غير الرسمي بصفته القبَس الذي تأنس منه الجماعة نارَها فتجعلها متوهجةً ومتبادلةَ العاطفة والحب والثقة، ومن هنا بدأ يتكوّن ما سوف يُسمى لاحقًا “بيئة المقاومة”.

على المستوى العسكري فهم الأمين العام عناصر القوة الحقيقية لتلك البيئة وذلك المجتمع، وما كان وجوده في الجبهات والمحاور وعلى تلال “صافي” و”الرفيع” إلا تعبيرًا فعليًّا صادقًا عن أن الأهميّة الكبرى هي لتلك الروح، والتي هي جوهر العمل المقاوم منذ الطلقة الأولى، وقد عبّر عنها أيقونة المقاومة الحاج عماد بمقولته “الذي يقاتل فينا هو الروح”. فتعزّزت روحية الولاء والاطمئنان بحتمية النصر وروح الوحدة والأخوّة، وكذلك الثقة واليقين بأن الحزب لا يمكن قهره حتى لو استشهد أمينه العام. وهذا ما حصل.

جاء انتخاب السيد حسن نصرالله ليضيف إلى تلك الروح بُعدًا جديدًا من الإبداع. إبداع في ظروف قاهرة، في مناخ من الحذر والخطر والحروب المفروضة المتتالية، في بيئة جمهورية الموز الطائفية المقيتة وأحيانًا كثيرة المتآمرة، جاء الإبداع ليزيد فعالية الجماعة -المؤمنة بقضيتها- إلى حَــدّ بعيد، إلى حَــدّ البحر والجو فضلًا عن البر، فتشكّلت معادلات سياسية وعسكرية، وطوّرت القيادة المرؤوسين في بيئة متسارعة التقلبات والتحديات الثقافية والفكرية، واكتملت التشكيلات في قمة الانضباط. إبداع في تحويل كُـلّ تهديد إلى فرصة، وتحويل تنظيمٍ بدأ من مجموعة حفاة يتخطّفهم الناس من حولهم، ثلة مستضعفة قرب مسجد بئر العبد وفي معسكرات جنتا في البقاع، إلى قوّة إقليمية وطاقةٍ حيوية لا تنضب، وشعلة نارية قادرة على البقاء حتى لو مات الأفراد.. بل إنها تنتقل وتنقل المفهوم والمعنى إلى الأجيال، عبّر عن ذلك الأمين العام بقوله “نحن لا نضعف عندما يستشهد قائد كبير، بل علينا أن نحمل دمه وفكره ورايته وأهدافه ونكمل الطريق”.

إذا كان الرجال العظام يقرّرون مجرى التاريخ كما يقول “كارلايل”، فَــإنَّ أميني عام حزب الله قد غيّرا مجرى التاريخ الذي كان يجنح باتّجاه العصر الإسرائيلي، ومشروع “إسرائيل” الكبرى التي لا تُقهر، إلى تاريخٍ من نوعٍ آخر عنوانه “إسرائيل سقطت”، و”جاء زمن الانتصارات”.

أثبت السيد أن القيادة فنّ؛ هو لم يدرس مبادئها في معاهد القيادة والتدريب، ولا في كليات علم النفس العسكري، ولا في الأكاديميات الحربية، ولكنه امتلك الخبرة والمهارة والإبداع ونهله من التراث الأصيل ومن الميدان. الميدان الذي يشهد رجالُه اليوم على ذلك، وهم يطرحون نظرية إبداعية في الطاعة للقائد عن بصيرة ويقين وولاء، أي الطاعة الذكية التي تجمع بين الوعي والعاطفة لقائدٍ كان مسؤولًا عن قيادة مئة ألف أَو يزيدون، يملك صفاتٍ جليلة وشجاعة فائقة تجعله يكون هو نفسه في قلب المعركة.

استشهد السيد.. الشخصية الاستثنائية في تاريخ المسيرة. فجوةٌ كبرى حفرتها أطنانٌ من القنابل الصهيونية على حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية، حَيثُ غرفة عمليات القيادة التي تخوض معركة الدفاع عن فلسطين والأمّة والمقدّسات. فجوة بحجم أُمَّـة.. لا أحد يدّعي أن ذلك الفراغ يمكن ملؤه بسهولة. إنّ خسارة القائد الإلهي يحتاج إلى تدخّلٍ إلهي ليرسل قائدًا صُنع على عينه.. يحتاج دعاءً كان هو نفسه يوصينا به دائمًا.. دعاء من حرقة القلب وغصة الروح.. أين ذلك العجوز اليوم صاحب الدعاء لعله يدعو مجدّدًا؟! فلندعُ جميعنا بحرقة وإخلاص: “يا رب عوّضنا سيد.. متل هالسيد”.