صمود وانتصار

ابنُ العلقمي يخونُ الطوفان!!

الشيخ علي حمادي العاملي*

بدأ الطوفان على غلاف غزة صباح يومٍ ربما يكون بداية تغيير النظام العالمي.. توسّع في اليوم الثاني إلى الحاضر أبدًا لإذلال كيان الصهاينة وتعكير مزاجهم.. لبنان. بوجهه الجنوبي المقاوم.. توسّع أكثر إلى حلبة العراق. أما التوسع الأكبر فلم يسعه البر فزحف نحو البحر الأحمر، وأقفل باب المندب على كُـلّ من تشير بوصلته إلى ميناء إيلات.. لن نسأل عن مصر والأردن والسعوديّة والإمارات وغيرها من الدول.. السؤال الأهم: أين ابن العلقمي وهل حقًّا خان فلسطينَ وطوفانها؟!

يضطرُّك إلى هذا النوع من المقارنة التاريخية المستوى العجيب من التعمية وتزييف الحقائق، ويضطرك أن تذكر المذاهب في حديثك مع أنك لست مذهبيًّا وتنتمي إلى منهج يؤمن ويدعو إلى الوحدة، خَاصَّة في ظرف الحرب المشتعلة، مستوى التضليل الذي بلغ طوفانًا.

وصل ابن العلقمي (الشيعي) إلى منصب وزير الخليفة العباسي المعتصم. أمر بحد ذاته ملفت إذَا علمتَ درجة العداء التاريخي وحذر العباسيين من أي انقلاب أَو ثورة شيعية. ولكن لم يكن وصول مؤيد الدين بن أحمد المعروف بابن العلقمي أبرز أحداث القرن السابع للهجرة، فالحدث الأبرز هو وصول هولاكو واجتياحه العديد من البلدان وإسقاط العاصمة بغداد.

لم يكن إيقاف اندفاع المغول أَو التتار – وهي مسميات واحدة لشعب واحد من قبائل متعددة من الترك في شرق آسيا (منغوليا) – لم يكن ممكنًا إلا إذَا أحجموا هم أنفسهم عن ذلك التوسع، أَو بتوحّد الجبهة الإسلامية في المشرق، والأمران لم يحصلا فالمغول غزوا الأقاليم الخوارزمية وأسقطوا القلاع الإسماعيلية ويتقدمون شيئًا فشيئًا مستطلعين أَو مختبرين لقوة المسلمين أَو ضعفهم، بينما الأمراء في الجهة المقابلة إما متخاذلون وإما مشغولون بمحاربة بعضهم بعضًا. وبالتالي لم يكن سقوط بغداد مفاجئًا بل واضحًا ومتوقعًا، وكان الناس والعلماء والولاة في ذلك الزمان يستغيثون الخليفة والحكام أن يتداركوا الخطر.

لم يكن ابن العلقمي يملك جيشًا ولم يكن لديه ارتباطات سياسية مع المغول. كان مدبّر أمر الدولة والوزارة ويمد العسكر الإسلامي بالتدابير. وكل ما كان يملكه في ملازمته لديوان الخلافة هو النصيحة التي يقدّمها للخليفة بصفته الوزير، وقد قدّمها فعلًا وبكل إتقان حتى شهد بذلك مؤرخو التتار أنفسهم، فهذا مؤرخ المغول رشيد الدين الهمذاني في كتابه عن تاريخ هولاكو، أوضح أنّ ابن العلقمي كان وزيرًا مخلصًا حاول بنصائحه أن ينقذ ما يمكن إنقاذه في ظل خليفة كان مشغولًا باللهو وبنسائه وجواريه، قام بتوريط نفسه في حرب ليس باستطاعته تحملها، وكانت نتيجتها تدمير بغداد وقتل الآلاف. وهذا المؤرخ ابن أبي الحديد ينظم قصيدة في ابن العلقمي ثناءً على تدبيراته التي بسَببِها ثبت جيش بغداد في إحدى حملات المغول المتتابعة فرجعوا ناكصين على أعقابهم. لقد نصح ابن العلقمي الخليفة بأن يهييء الجيش ولكن الخليفة المنغمس بملذات الدنيا من خمر ونساء وليالٍ حمراءَ لم يجد وقتًا لذلك.. دخل هولاكو، أركع الخليفة الضعيف أصلًا منذ لحظة اختياره كما تتحدث كتب التاريخ، وأذلّه وسيطر على عاصمة الدولة العباسية.

وكالعادة في بلاد العرب لا يعترف المنهزم بهزيمته مهما كبرت أَو صغرت.. نكسة.. نكبة.. وربما لو خيضت حروب أُخرى في زماننا وانهزم العرب مثل كُـلّ مرة لأسموها (وخزة) أَو ربما (عضّة) لا أعلم.. المهم أنهم لا يعترفون بالهزيمة المكتوبة على جبينهم منذ هولاكو حتى بن غوريون.. لا في الحرب ولا حتى في كرة القدم.. دائمًا هناك مؤامرة.. العباسيون لم يعترفوا.. كيف السبيل إلى الاعتراف وهم الذين أقنعوا العالم في ذلك الوقت أن دولتهم باقية إلى حدود القيامة!!

مَن يملك “جسم لبّيس” ليحمل تبعات الهزيمة؟! إنه الشيعي طبعًا.. ابن العلقمي الذي خان. التهمة جاهزة.. نقول ببساطة هؤلاء تآمروا مع المغول؛ لأَنَّهم من مصلحتهم إسقاط الدولة.. وصدّق ملايين العرب من الفلاسفة والمؤرخين والباحثين والناشطين والخبراء كما عرفناهم بعد ثورة التواصل.. صدقوا رواية العباسيين، وحملوا التهمة الظالمة في كتبهم وعلى منابرهم.

اليوم جاء الطوفان ليعيد حكاية ابن العلقمي بصورة مشابهة.. فلسطين تبدأ طوفانًا استثنائيًّا.. إيران تقاوم في السياسة على منبر الأمم المتحدة. وفيلق قدسها على طريق القدس، حزب الله يشغل العدوّ ويضربه على طول الحدود، سوريا تدفع ثمن واحة عروبتها، اليمنيّ الحوثي الخارج من عاصفة حزمٍ عربية يشعل البحر بسفن الصهاينة..

في المقابل.. الإمارات تعطي “إسرائيل” حق الدفاع عن النفس.. السعوديّة تثبت “حضارتها” بأنها لا تعادي السامية فتأخذ الصهاينة بالأحضان في ليالي الرياض، وتوزّع القبلات المعطرة بعبق البترول، مصر تخنق غزة بمعبرها الوحيد، والباقون في سبات..

فلنتصوّر سويًّا لو أن التاريخ سيكتبه الأمويون أَو العباسيون مجدّدًا بنسخة وهَّـابية هذه المرة.. إيران تآمرت على فلسطين. حزب الله لم يدخل الحرب وهو فقط يقصف العامود ليوهمنا أنه يقاتل.. وبعد تحرير فلسطين سيخترعون نموذج صلاح الدين من جديد.. ربما سيكون هذه المرة محمد بن سلمان أَو محمد بن زايد.. أَو حتى السيسي.. من يدري؟!

* كاتبٌ وباحثٌ لبناني