المسيحية الصهيونية.. ودورها في إعلان وتنفيذ وعد بلفور !
في السادس من فبراير عام 1985م, ألقى بنجامين ناتانيا سفير الكيان الصهيوني السابق لدى الأمم المتحدة خطابا أمام مؤتمر صهيوني مسيحي عقد في واشنطن, قال فيه : (هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل,
هذا الحلم الذي يراودنا منذ ألفي سنة تفجر خلال المسيحيين الصهيونيين.. المسيحيون هم الذين عملوا على تحويل الأسطورة الجميلة إلى دولة يهودية). ووفقا للعقيدة المسيحية الصهيونية فإن اتباعها يعتبرون أن دعم قيام وطن قومي لليهود في فلسطين هو واجب شرعي مسيحي.
استطاع الفكر اليهودي استغلال الظلام الذي ساد أوروبا في القرن الخامس عشر الميلادي وتسلل إلى العقيدة المسيحية, وقد أدى هذا التسلل منذ القرن السادس عشر الميلادي إلى وضع اليهود تحت مظلة من القداسة الدينية المسيحية, وبالتالي إلى تعامل الكنيسة الجديدة ( البروتستانتية ) معهم كشعب ميزه الله على سائر الشعوب الأخرى, وأنه أي الشعب اليهودي يملك صكا إلهيا بملكية الأرض المقدسة, وأن عودته إلى فلسطين تحقق نبوءة توراتية تمهد للعودة الثانية للمسيح. لذلك تمكن الفكر اليهودي من ربط العقيدة الدينية المسيحية المستحدثة ( المسيحية الصهيونية ) بالمصالح الاستراتيجية للدول الأوربية وخاصة بريطانيا وفرنسا ومن ثم الولايات المتحدة الأمريكية.
الإصلاح الديني
سقطت غرناطة آخر معقل ومدينة للمسلمين في الأندلس بيد الإسبان في العام 1492م, وعلى الفور بدأت محاكم التفتيش المسيحية الكاثوليكية تفتك بالمسلمين وباليهود معا. تركزت هجرة المسلمين على شمالي إفريقيا ( المغرب وتونس والجزائر) ورافق المسلمةن عدد من اليهود لكن اكثرهم توجهوا نحو أوروبا وصادف وصولهم ظهور الحركة الإصلاحية الدينية ضد الكنيسة الكاثوليكية. لهذا احتلت الأدبيات الدينية اليهودية الموقع الممتاز في معركة الإصلاح الديني. فقد نشر (مارتن لوثر) زعيم حركة الإصلاح ورائد المذهب البروتستانتي كتاب في العام 1533م, باسم (عيسى ولد يهوديا) قال: (إن الروح القدس أنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم, إن اليهود هم أبناء الله, ونحن الضيوف الغرباء, ولذلك فإن علينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل مما يتساقط من فتات مائدة أسيادها, كالمرأة الكنعانية تماما).. فالأدبيات اليهودية الدينية التي تسربت إلى صميم العقيدة المسيحية تدور حول أمور ثلاثة:
الأمر الأول: هو أن اليهود هم شعب الله المختار, وأنهم يكونون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم.
الأمر الثاني: هو أن ثمة ميثاقا إلهيا يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين, وأن هذا الميثاق الذي أعطاه الله لإبراهيم عليه السلام هو ميثاق سرمدي حتى قيام الساعة.
الأمر الثالث: هو ربط الإيمان المسيحي بعودة السيد المسيح بقيام دولة صهيونية, أي بإعادة تجميع اليهود في فلسطين حتى يظهر المسيح فيهم.
هذه الأمور الثلاثة ألفت في الماضي, وهي تؤلف اليوم قاعدة المسيحية الصهيونية التي تربط الدين بالقومية, والتي تسخر الاعتقاد الديني المسيحي لتحقيق مكاسب يهودية. ( محمد السماك, الصهيونية المسيحية).
حقيقة الصهيونية المسيحية
الأصولية الإنجيلية أو الصهيونية المسيحية, هي تيار مسيحي كبير له الكثير من الأتباع والمؤسسات ومراكز النفوذ والكنائس والصحف والقنوات التليفزيونية والإذاعات والبنوك وغيرها في أوروبا وأمريكا, بل واصبح له تأثير كبير على صناع القرار السياسي في واشنطن وايضا في أغلب الدول الأوروبية التي تعتنق المسيحية الصهيونية ويعتمد هذا التيار أساسا على أتباع المذهب المسيحي البروتستانتي, وقد لعب هذا التيار دورا كبيرا منذ قرابة خمسة قرون في الدعوة إلى قيام وانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ودعمه حتى اليوم. فمع تصاعد قوة ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية ومع زيادة وزنها الاقتصادي والسياسي والعسكري نشطت داخلها الحركة المسيحية الصهيونية ويبلغ عدد المنتمين إلى الكنائس الإنجيلية التي تعتقد بالمسيحية الصهيونية وضرورة قيام إسرائيل وبناء الهيكل تمهيدا لعودة المسيح حوالى 77 مليونا أمريكيا ينتمون إلى 200 طائفة. وتمتلك هذه الاتجاهات في أمريكا العديد من قنوات التليفزيون حوالي 1400 محطة تليفزيونية وإذاعة, وحوالى 4000 مقدم برامج, والعديد من الصحف ووكالات الأنباء, بل ومنهم العديد من الشخصيات الأمريكية البارزة كان منهم الرئيس ريجان والقس سيجوالات والقس فالويل والقس بات روبرتسون والعديد من أعضاء الكونجرس ودوائر النفوذ المالي والإعلامي والسياسي الأمريكي, وتأثر بهذا المذهب الرئيس بوش الابن ووزير دفاعه رامسفيلد ووزير العدل أشكرونت, ويستطيعون إقناع عدد أكبر من غير أعضاء الكنائس الأصولية, أي أنهم قادرون على خلق رأي عام واسع جدا في أمريكا لتأييد الكيان الصهيوني ودعمه, بالإضافة إلى النفوذ اليهودي التقليدي في الكونجرس والإعلام ودوائر المال.وتبلغ عدد المنظمات المسيحية الصهيونية في امريكا عموما حوالي 250منظمة وتبشر هذه المنظمات المسيحية الصهيونية بالعديد من المفاهيم داخل امريكا وخارجها فهي تؤمن بأن دعم الكيان الصهيوني هو التزام ديني ثابت وليس مجرد التزام سياسي متغير ومتحرك, كما تعتبر شرعية الدولة اليهودية مستمدة من التشريع الإلهي, وبالتالي اعتبر قيام الدولة اليهودية في فلسطين تحقيقا للنبوءات الدينية. وايضا التشديد على أن أرض إسرائيل هي كل الأرض التي وعد الله بها إبراهيم وذريته, وبالتالي تشمل كل الأرض الموعودة من النيل إلى الفرات, استمرار العمل بالشعار الذي يقول : ( إن الله يبارك إسرائيل ويلعن لاعنيها ),
إشارات إلهية
ويؤمن أتباع هذا المذهب أن هناك ثلاثة إشارات إلهية يجب أن تتحقق قبل أن يعود المسيح إلى الأرض ويحكم العالم مدة ألف عام حتى تقوم الساعة. إن اليهود هم شعب الله المختار, وإن الله وعد اليهود وملكهم أرض الميعاد من النيل إلى الفرات, وإن ظهور المسيح للمرة الثانية مرتبط بقيام دولة صهيون وبتجميع اليهود بفلسطين وان يكون القدس عاصمتهم حتى يظهر المسيح فيهم ( كما تقول الصهيونية المسيحية ) أو حتى يظهر المسيح منهم (كما تقول المسيحية اليهودية). هذه الثوابت الدينية الثلاثة تعنى أمرا واحدا, وبالتالي فإن دعم إسرائيل طريق إلى بركة الرب على أمريكا وبقائها قوية, بل إنه عندما يتناقض القرار الإسرائيلي مع مواثيق الشرعية الدولية أو القانون الدولي فإنه لا اعتبار لذلك, ويجب احترام القرار الإسرائيلي لأنه تعبير عن إرادة الرب, أما القوانين الدولية فإنها تعكس إرادة الإنسان, ومن الضروري احترام إرادة الرب مع إرادة الإنسان!. بمعني أن القانون الذي يطبق على اليهود, هو قانون إلهي. وأنه حيث يتعارض القانون الإلهي مع القانون الدولي, فإن قانون الله هو الذي يجب أن ينفذ لأنه يعكس إرادة الله ومشيئته. هذه الإرادة محددة بتمليك اليهود أرض فلسطين, وبحقهم غير المشروط في الاستيطان فيها, وبتعامل شعوب العالم معهم على أساس أنهم أمة الله التي تسمو فوق كل قوانين الأمم وأنظمتها, وإن كل عمل يقومون به اليهود هو وحي من الله لابد من تقبله واحترامه !. ومن هنا ندرك البعد الديني للحركة الصهيونية بوجهيها والتي تتقاطع فيها مع القانون الدولي لصالح الكيان الصهيوني وإلى اليوم.
النشأة والتكوين
يشير الدكتور محمد مورو في كتابه ( الشرق الأوسط الجديد الشعوب في مواجهة أمريكا ) إلى حقيقة أسباب ظهور ونشأة وانتشار المسيحية الصهيونية قائلا : ( في الحقيقة فإن نشأة الأصولية وانتشارها يخضع لأكثر من تفسير, فالبعض يعتقد أن اليهود نجحوا في التسلل إلى دوائر الكهنوت المسيحي, واستطاعوا إدخال العقائد الخاصة بقيام إسرائيل واحتلال القدس وإقامة هيكل سليمان في صلب الإيمان المسيحي وخاصة البروتستانتي, وأن ذلك تمهيد لعودة المسيح بحيث أصبح دعم المخطط اليهودي لإقامة إسرائيل من الفرات إلى النيل واجب مسيحي شرعي. ويرى البعض الآخر أن دهاء الساسة الأوروبيين, المعادين للسامية والكارهين لليهود هم الذين أنشأوا هذا المذهب لضمان تأييد مسيحي واسع لذلك على أساس أن هذا الأمر يجعل اليهود يفكرون في قيام وطن لهم في فلسطين على حساب العرب المسلمين, وبذلك يضرب هؤلاء عصفورين بحجر واحد, أولهما هو التخلص من اليهود على أساس أنهم سبب البلاء في أوروبا وأنهم نفاية بشرية يجب أن تتخلص منها أوروبا, وفي نفس الوقت تحقيق نوع من التآمر ضد العرب والمسلمين واستخدام اليهود كقفاز لضرب الإسلام والمسلمين على اعتبار أن هناك عداء تاريخيا وصراعا مستمرا لم يحسم حتى الآن بين الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية.
فالواقع يؤكد أن كلا التفسيرين صحيحان وأن المخطط اليهودي تلاقي مع رغبات دهاء الساسة الأوروبيين المعادين للسامية, وأن اللقاء بين الرغبتين أنشأ هذا التيار( المسيحية الصهيونية ) ونغذي هذا المخطط, فقيام إسرائيل وتوسعها يحقق هدف اليهود ويحقق هدف الأوروبيين في وقت واحد على حساب العرب والمسلمين. ومع مجيء ما يسمى بحركة الإصلاح الديني المسيحي الذي تمخضت عنه البروتستانتية, ثم انتشار المذهب البروتستانتي في أوروبا وأمريكا ليكون الأرض الخصبة لنشأة المسيحية الصهيونية والإيمان بضرورة قيام إسرائيل وبناء المعبد كتمهيد ضروري لظهور المسيح, وتكريسا لهذا التحول أصبح العهد القديم (التوراة ) هو المرجع الأعلى لفهم العقيدة المسيحية وبلورتها, وفتح باب تفسير نصوصه أمام الجميع لاستخراج المفاهيم الدينية دون قيود, كما تم اعتبار اللغة العبرية باعتبارها اللغة التي أوحى بها الله إلى أنبيائه, واللسان المقدس الذي خاطب به شعبه المختار هي اللغة المعتمدة للدراسة الدينية. ومن خلال ذلك تغلغل الفكر اليهودي إلى قلب الحركة الدينية المسيحية عموما والبروتستانتية خصوصا ).
الدعوات الأوروبية
بدأت الدعوة تظهر من قبل المسيحية الصهيونية في أوروبا إلى قيام وطن لليهود في فلسطين على يد علماء الدين المسيحي البروتستانتي ثم رجال السياسة البريطانيين والأوروبيين, مثل عالم اللاهوت البريطاني توماس برايتمان 1562- 1607م, والسياسي البريطاني هنرى منشن 1621م, ثم العالمان الإنجليزيان جوانا والينزر كارترايت 1649م, ثم السياسي البريطاني مروميل 1649م, ثم الفرنسي فيليب جنتل 1656م, ولم يقتصر الأمر على علماء الدين والسياسيين بل تعداه إلى الأدباء والفنانين وغيرهم. ثم تبنى هذه الدعوة اللورد الإنجليزي شافتسرى 1882م, وكذلك دوق كنت وجلادستون واللورد بالمرستون وزير الخارجية البريطاني 1865م, بل حتى نابليون بونابرت قد تبنى الدعوة إلى إقامة وطن لليهود في فلسطين ووجه الجنرال بونابرت نداء إلى اليهود ودعاهم فيه بالورثة الشرعيين لفلسطين, وطالب فيه بإقامة دولة لليهود في فلسطين وذلك في أثناء حملته على الشرق واحتلال مصر 1798- 1801م. واستمر الأمر على هذا المنوال إلى أن ظهر تيودور هرتزل فتبنى هذا الأمر ودعا اليهود إلى العمل على تحقيقه وتم بلورة ذلك في مؤتمر بال عام 1897م, ثم تدافعت الجهود اليهودية الصهيونية والمسيحية الصهيونية إلى أن تمخضت عن وعد بلفور في الثاني من نوفمبر 1917م, وبعد ذلك حظي تصريح وعد بلفور بدعم كامل من أوروبا وأمريكا إلى أن قام وأنشاء الكيان الصهيوني عام 1948م.
بذرة الشر
تعود بذرة الشر الأولى التي نمت وترعرعت ونفذت على مدى الأجيال بدماء الأجيال ودموع المسلمين من أهل فلسطين والوطن العربي إلى المذكرة التي وجهها في العام 1649م, من عالم اللاهوت الإنجليزيان (جوانا وألينزر كارترايت) إلى الحكومة البريطانية والتي طالبا فيها: (بأن يكون للشعب الإنجليزي ولشعب الأرض المنخفضة شرف حمل أولاد وبنات إسرائيل على متن سفنهم إلى الأرض التي وعد الله بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومنحهم إياها إرثا أبديا). أنبتت هذه البذرة شعار أنطوني كوبر- اللورد شافتسبري- في العام 1839, (وطن بلا شعب لشعب بلا أرض), وهو الشعار الذي تلقفه رئيس وزراء بريطانيا ومهندس السياسة البريطانية في مطلع القرن التاسع عشر ( جلادستون, 1809- 1894م) ليزاوج بين الهدف التوراتي بتهويد فلسطين وبين المصالح الاستراتيجية لبريطانيا في الوطن العربي. وقد تولى وزير الخارجية اللورد ( بالمرستون ) تخطيط السياسة الخارجية البريطانية على أساس هذا التزاوج. وتنفيذا لذلك مارست بريطانيا منذ ذلك الوقت الضغط على السلطان العثماني لفتح أبواب فلسطين أمام هجرة اليهود الروس الذين تعرضوا للاضطهاد بعد حادث اغتيال القيصر ( الكسندر الثاني ) عام 1881م. وكان لبريطانيا أهداف متعددة منها : قطع الطريق أمام هجرة اليهود الروس إلى بريطانيا, وتجميع اليهود في فلسطين تحقيقا للنبوءة التوراتية, وتكوين أقلية يهودية في فلسطين تطلب الحماية البريطانية. وتنفيذ لهذه الأهداف رسمت بريطانيا الخطوط الأولى للجغرافيا القائمة حاليا في الوطن العربي. تم ذلك كله على حساب حق الفلسطينيين في دولة, وعلى حساب الحق العربي في وطن موحد, وعلى حساب القانون الدولي. تعهدت بريطانيا للحركة الصهيونية بتحويل (أوغندة) إلى وطن قومي لليهود, إلا أن المؤتمر الرابع للحركة الصهيونية الذي عقد في العام 1903م أصر على فلسطين فوافقت بريطانيا. وتماشيا مع الأهداف البريطانية وانسجامها مع مطالب الصهيونية اليهودية يأتي الصهيوني (حاييم وايزمان)- الذي يعد أشهر شخصية صهيونية بعد تيودور هرتزل- ليقدم خلال الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م), عروضا للإمبريالية البريطانية. فهو يقرر في رسالة إلى سكوت محرر صحيفة “المانشستر جارديان” في نوفمبر 1914م: (أننا نستطيع بحق أن نقول أنه لو دخلت فلسطين في مجال النفوذ البريطاني ولو شجعت بريطانيا قيام وطن يهودي هناك- خاضع لبريطانيا- فسيكون لدينا فيما بين عشرين وثلاثين عاما مليون يهودي وربما أكثر سيقومون بتطوير البلاد وإعادة المدنية إليها, ويشكلون حراسة فعالة للغاية لقناة السويس) (مجدي نصيف, الصهيونية في الولايات المتحدة).
بداية المؤامرة
في الوقت الذي كانت الحرب العالمية الأولى تدور رحاها ومع وقوف العرب بجانب الحلفاء والتي وعدتهم بتحرير أراضيهم من العثمانيين لتقرير مصير شعوبهم بدولة عربية تضم بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية. وضعت بريطانيا فلسطين في برنامج التقسيم الذي وضعه مارك سايكس وجورج بيكو (وزيرا خارجيتي بريطانيا وفرنسا) في العام 1916م. بما سميت باتفاقية سايكس- بيكو, حيث وضعت تلك الاتفاقية فلسطين تحت إدارة دولية خلافا لبقية الوطن العربي. وللعلم كان مارك سايكس تلميذا للدكتور (موسى غاستر). وهو لاهوتي يهودي روماني تبوأ مركز كبير حاخاميي السفارديم في لندن. ومن غاستر تشرب سايكس مبادئ وروح الصهيونية المسيحية قبل أن يعين وكيلا للوزارة في مجلس الحرب البريطاني ثم وزير خارجيتها.
الاتفاقية سايكس- بيكو اقتضت أن تضع فلسطين وحدها دون سائر أجزاء الوطن العربي من الامبراطورية العثمانية تحت إدارة دولية, وفي ذلك إشارة مبكرة وواضحة إلى عزل مصير فلسطين عن مصير بقية الوطن العربي.
الوعد المشؤوم
اقتضت المصالح البريطانية والصهيونية المشتركة فرض الانتداب البريطاني على فلسطين تمهيدا للوقت المناسب الذي يتمكن فيه اليهود من إعلان دولتهم في فلسطين. فالانتداب يحقق لبريطانيا هدفا استراتيجيا يقع في إطار ممارسة ما يسمى (شرف) تحقيق وعد الله إلى اليهود بإعادة أرض فلسطين إليهم. ومن أجل ذلك صدر في الثاني من نوفمبر 1917م, وعد بلفور المشؤوم, حتى إذا أقر الانتداب البريطاني على فلسطين في مؤتمر سان ريمو في العام 1920م, يكون الوعد جزءا منه. وحتى إذا منحت عصبة الأمم بريطانيا في العام 1922م, حق الانتداب رسميا تكون العصبة قد أقرت ضمنا أيضا مضمون الوعد بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين.
في الثاني من نوفمبر عام 1917م, قامت بريطانيا بإصدار تصريح سياسي خطير على لسان وزير خارجيتها السير أرثر بلفور وقد وجهه إلى رجل الأعمال المليونير اليهودي الشهير البارون دي روتشلد. وهذا التصريح الذي عرف فيما بعد بوعد بلفور. ومما جاء فيه: (إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف على أماني اليهود, وأن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل غاية جهدها لتسهيل هذه الغاية.. دون أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين ولحقوق اليهود في البدان الأخرى..), فلقد أنكر وعد بلفور وجود الشعب الفلسطيني, ولم يذكر كلمة (العرب) مطلقا, بل أشار إلى ما سماه (جاليات غير يهودية) موجودة في فلسطين, واعترف باليهود كأمة وباليهودية كقومية. وبموجب كذلك أصبحت منذ صدور وعد بلفور وتكريسه دوليا لكل حقوق المواطنة لليهود غير الموجودين واستُجهل المواطنون الموجودون اسما وحقوقا. ذلك أنه بالنسبة إلى سكان فلسطين من العرب المسلمين والمسيحيين, نص وعد بلفور على ضمان حقوقهم المدنية والدينية. وهو الضمان الذي يمنح للغرباء الذين يعيشون على أرض ليست لهم.
لجنة ارتباط
فور صدور وعد بلفور, تحركت الصهيونية لتنفيذه ففي مارس 1918م, وصل إلى فلسطين وفد صهيوني- يهودي يضم (الدكتور وايزمان وجيمس دي روتشلد وإسرائيل سيف) للعمل كلجنة ارتباط بين اليهود والسلطة العسكرية البريطانية. وخلال تلك الفترة كان عدد اليهود يبلغ 55 ألف شخص فقط أي نحو 8% من اجمالي السكان البالغ عددهم 700 ألف شخص, ويشكلون نسبة 92% منهم من المسلمين والباقي من المسيحيين. بعد ذلك عينت بريطانيا (هيربرت صموئيل) وهو يهوديا وكان هدفه أن يستوطن فلسطين أربعة أو خمسة ملايين يهودي. ولتنفيذ ذلك كانت الأراضي الفلسطينية تصادر من أصحابها وتحول إلى مستوطنات لليهود, وفي إحدى الحالات أجلي 8 آلاف فلسطيني عن أرض مساحتها 50 ألف هكتار. وبدعم من صموئيل تحولت الوكالة اليهودية التي كانت مهمتها بموجب نظام الانتداب إرشاد المستوطنين اليهود اجتماعيا واقتصاديا, إلى دولة داخل الدولة. ونتيجة لذلك تضاعف عدد اليهود في فلسطين ووصل إلى 17% من السكان (170 ألفا يهودي). وعندما قاوم الفلسطينيون الهجرة اليهودية والاستيطان ومصادرة الأراضي وتواطؤ المندوب السامي, كون اليهود المنظمات الإرهابية (شترن وأرغون) وهي المنظمات التي تحولت إلى النواة الأولى للجيش الصهيوني حينما أعلن عن قيامه في 15 مايو 1948م, وما بعده.
الصوت اليهودي
بدأ اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بقضية فلسطين واليهود منذ عام 1914م, في ذلك العام حصلت أمريكا على سبعة امتيازات في التنقيب عن البترول في منطقة النقب, حيث اندلعت الحرب بين الحلفاء والدولة العثمانية, وطلبت جمعية يهود فلسطين من القنصل الأمريكي حماية الجالية اليهودية المقيمة في فلسطين. وفي عام 1916م, حطم الرئيس ولسون سيطرة الجمهوريين على اليهود, والذين أدلوا بأصواتهم لصالح المرشح الديمقراطي ولسون, وبذلك أعتبر الرئيس الأمريكي ولسون مدينا لليهود بانتخابه ووصوله لرئاسة البيت الأبيض, فقد عين ( برانديس ) قاضيا في المحكمة العليا الأمريكية بعد موافقه البرلمان على تعيينه في الأول من يونيو 1916م, وبرانديس محامي انتخب في المؤتمر الصهيوني الطارئ الذي عقد في نيويورك في 30 أغسطس 1914م, رئيسا للجنة شكلها المؤتمر عرفت باللجنة التنفيذية المؤقتة للشون الصهيونية العامة. وكان ذلك المؤتمر ضمن التخطيط الصهيوني لمواجهة آثار الحرب العالمية الأولى. وبذلك نال برانديس حظوة كبيرة لدي الرئيس ويلسون الذي اندفع في احتضانه للصهاينة ليقوم الأخير بتعيين آخرين صهاينة يهود في مناصب هامة حيث عين ( برنارد باروخ ) المليونير اليهودي مستشارا له, وعين ( هنري مورجانتو ) رئيسا للجنة المالية
معقل الصهيونية
خلال الحرب الأهلية الامريكية (1861-1865 م) كان القساوسة يشبهون خلال مواعظهم الكنيسية الشعب الأمريكي بالشعب اليهودي الذي يكافح من أجل استرجاع أرض الميعاد.وقد بلغ من تأثير الصهيونية المسيحية على الرواد الأوائل في امريكا حدا اقترح معه الرئيس ( توماس جيفرسون : الديمقراطي الجمهوري, 1801- 1809م ) أن يكون : ( إتخاذ رمز لأمريكا يمثل أبناء إسرائيل تظللهم غيمة في النهار, وعمود من نور في الليل بدلا من شعار النسر, وذلك توافقا مع ما يتضمنه سفر الخروج ) حيث جاء في سفر الخروج الإصحاح 13 رقم 12 : ( كان الرب يسير أمامهم – أمام بني إسرائيل – خلال النهار في عمود من سحاب ليهديهم الطريق, ويسير أمامهم خلال الليل في عمود من نار ليضيء لهم ).
البعث اليهودي
تبنى مؤسس الكنيسة المورمونية القس( جوزف سميث ) نظرية البعث اليهودي في فلسطين. وارتفعت منذ العام 1814م, الدعوات الأمريكية الإنجيلية لتوطين اليهود في فلسطين. أحد رواد الحركة الصهيونية المسيحية الأمريكية القس ( وردر جريسون ) هاجر من أمريكا إلى فلسطين واعتنق اليهودية, وعمل مستشارا للحكومة الأمريكية في القدس, ثم قنصلا عاما لها في العام 1852م, وكان نشاطه يتمركز حول موضوع واحد وهو إقامة وطن يهودي في فلسطين. وتحقيقا لذلك أنشأ مستوطنة زراعية يهودية ووطن إنجيليين أمريكيين ويهودا فيها, وبدعم من مؤسسة يهودية – مسيحية – إنجليزية.وتوالت بعد ذلك حركات الاستيطان بتمويل من رجال أعمال أمريكيين. فقامت مستوطنة ( جبل الأمل ) إلى الغرب من يافا في العام 1850م. وكان إقبال الصهاينة المسيحيين على الاستيطان أشد من إقبال الصهاينة اليهود, وذلك انتظارا للعودة الثانية للمسيح. ورغم ذلك فإن اليهود انفسهم لم يتجاوبوا مع هذه الدعوات المبكرة للهجرة إلى فلسطين فقد كانت الأولوية عندهم هي استيعاب المهاجرين اليهود الذين يفدون من روسيا ورومانيا إلى أوروبا الغربية وأمريكا !.
“المسيح آت”
كان القس ( وليم بلاكستون 1841- 1935م ) أبرز دعاة العودة اليهودية إلى فلسطين, وكان أول من مارس الضغط السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تسريع وتسهيل هذه العودة. وكان أول من بشر من خلال كتابه ( المسيح آت ) الذي صدر في العام 1878م, وذلك من خلال دعوته إلى الربط بين عودة اليهود إلى فلسطين وعودة المسيح إلى الأرض. -ترجم الكتاب إلى 48 لغة واعتبر أكثر الكتب انتشارا في القرن التاسع عشر الميلادي – وفي العام نفسه الذي صدر فيه الكتاب أسس بلاكستون منظمة تدعى ( البعثة العبرية من أجل إسرائيل ) ولا تزال هذه المنظمة مستمرة في مهمتها حتى اليوم باسم هو ( الزمالة اليسوعية الأمريكية ) وتعتبر هذه المنظمة حتى اليوم قلب جهاز الضغط ( اللوبي ) الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية.
لوبي الضغط
لعل أول عمل من أعمال الضغط الذي مارسه بلاكستون عبر منظمته هو جمع تواقيع شخصيات أمريكية من جميع أنحاء الولايات المتحدة تأييدا لإقامة وطن يهودي في فلسطين. حملت العريضة تواقيع 413 شخصية أمريكية من السياسيين وأعضاء الكونجرس والقضاة ورجال الأعمال والصحافيين, ورفعت إلى الرئيس الأمريكي ( بنجامين هاريسون ) في 5 مارس 1891م, في ذلك الوقت كان يهود روسيا يتدفقون عبر أوروبا إلى أمريكا.وكانت تلك الهجرة تقلق القيادات الأمريكية, وقد جاءت عريضة بلاكستون بالحل, وهو : لماذا لا نحول اتجاه الهجرة ؟ لماذا لا نعيد اليهود إلى فلسطين ؟. رافق ذلك الاحتجاج الذي قدمته إدارة هاريسون إلى الحكومة الروسية القيصرية بسبب سوء معاملة اليهود وكان أول احتجاج امريكي من هذا النوع,ولأن حل مشكلة اليهود الروس متعذر, ولأن الولايات المتحدة لم تكن راغبة في استيعاب المهاجرين اليهود القادمين من روسيا ورومانيا, فلماذا لا يتم تحويلهم إلى فلسطين وتوطينهم فيها ؟.
تأييد ويلسون
عكس هذا الأمر التوافق بين الصهيونية المسيحية والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة, وهو التوافق الذي ترجم فيما بعد موافقة البيت الأبيض والكونجرس ( مجلس الشيوخ ومجلس النواب ) على وعد بلفور. وعد بلفور ففي 31 أغسطس 1918م, بعث الرئيس الأمريكي ( ودرو ويلسون ) مذكرة إلى الحاخام ( ستيفن وايز ) يبلغه فيها موافقته على وعد بلفور. جاء في المذكرة : ( راقبت باهتمام مخلص وعميق العمل البناء الذي قامت به لجنة وايزمان في فلسطين بناء على طلب الحكومة البريطانية, وأغتنم الفرصة لأعبر عن الارتياح الذي أحسست به نتيجة تقدم الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة والدول الحليفة منذ إعلان السيد بلفور باسم حكومته عن موافقتها على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين, ووعده بأن تبذل الحكومة البريطانية قصارى جهدها لتسهيل تحقيق ذلك الهدف مع الحرص على عدم القيام بأي عمل يلحق الأذى بالحقوق المدنية والدينية لغير اليهود في فلسطين أو حقوق اليهود ووضعهم السياسي في دول أخرى ).
في الأساس أرسى الرئيس الأمريكي ويلسون قاعدة الالتزام بالوطن القومي اليهودي من خلال التزامه بوعد بلفور, وأصبح هذا الالتزام من ثوابت كل الرؤساء الذين جاؤوا بعده وخاصة روزفلت وترومان. والملفت للنظر في هذه المذكرة أن الرئيس الأمريكي تجنب استعمال كلمة العرب واستعمل عبارة غير اليهود تماما كما فعل بلفور في نص تصريحه. كذلك هذا الموقف للرئيس الأمريكي أملته عليه, في الدرجة الأولى تربيته الدينية ابنا لقسيس إنجيلي يؤمن بأن الله أعطاه فرصة تاريخية لتحقيق الإرادة الإلهية بمساعدة شعب الله المختار على استعادة الأرض التي خصه الله بها. وهذا التبني وذاك الالتزام بتنفيذ وعد بلفور, أصبحا من ثوابت السياسة الأمريكية تجاه الكيان الصهيوني. تمثل هذا الأمر بالضغط الأمريكي ليس فقط على السلطنة العثمانية للسماح بتوطين اليهود وإنما تمثل أيضا بالضغط على بريطانيا لحملها على التراجع عن مضمون الكتاب الأبيض لعام 1939م, الذي حدد عدد المهاجرين اليهود ومساحة الأراضي التي يحق لهم تملكها في فلسطين
مؤتمر وانتداب
برز تحيز الرئيس ويلسون للصهيونية وتأييد مطالبها قبيل انعقاد مؤتمر الصلح وأثناءه عام 1919م, فقد بدأ أن فرنسا تريد المطالبة بتطبيق البنود السرية لاتفاقية سايكس – بيكو, والتي أعطت لفرنسا الجليل الأعلى من فلسطين. عندها بعث برانديس للرئيس يقول له : ( إن وعد بلفور علني, وأناشدك التدخل لدي الأمم المسيحية ليحافظوا على هذا العهد, إن تدخلك مع ميللر ولويد جورج سيكون حاسما ). وقد تدخل الرئيس الأمريكي فعلا مع الفرنسيين وحسمت أمريكا بثقلها الواضح مسألة الانتداب على فلسطين لصالح بريطانيا.وفي تلك الأثناء أعلن المؤتمر الصهيوني في مدينة (هيغ ) في هولندا حتي خلافا لوعد بلفور, أن هدف الحركة الصهيونية ليس الحصول على وطن يهودي بل على دولة يهودية, وقال وايزمان في المؤتمر : ( كما أن أمريكا أمريكية, وفرنسا فرنسية, فإن اليهود يريدون أن يجعلوا من فلسطين يهودية )ومن المفارقات إن مبادئ ولسون الأربعة عشر والذي نادى بحق الشعوب في تقرير مصيرها حرم عرب فلسطين من هذا الحق ودعا إلى وجوب معاملة اليهود في منطقة فلسطين معاملة استثنائية. هذا إلى أن الوفد الأمريكي في مؤتمر الصلح قد حمل مذكرة بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين, كما قرر الرئيس ولسون ايضا في 3 مارس 1919م, بقوله : ( إن الأمم المتحالفة بالموافقة التامة لحكومتنا وشعبنا قد اتفقت على أن توضع في فلسطين أسس دولة يهودية ). فتأييد أمريكا للصهيونية في فلسطين ليس إذن أمرا جديدا فلقد صاحب نفوذ انجلترا في خلق الكيان الصهيوني منذ البدء, وإن كان تأييد امريكا لصهاينة قد برز بروزا ملحوظا, فذلك لأن أسبقيتها على انجلترا في السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية جعلها هي الأولى في معاونة اليهود بعد أن كانت الثانية في تقديم هذا العون خلال وعد بلفور. وتنفيذا لذلك اتفقت فرنسا وبريطانيا في مؤتمر سان ريمو 1920م, على وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني تمهيدا لتنفيذ الوعد لليهود. تجاهل نص الانتداب تماما أكثرية 92% من سكان فلسطين العرب, وأشار 14 مرة إلى اليهود وإلى المؤسسات اليهودية. أما العرب فلم يشر النص إليهم إلا في صيغة المجموعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين. ( الدكتور محمد عبد المعز نصر, الصهيونية في المجال الدولي )
كينج – كراين
ومن ناحية أخرى لم يلتفت الرئيس الأمريكي ويلسون لتقرير بعثة كينج – كراين, وهي البعثة التي أرسلها مؤتمر الصلح لاستطلاع رأي شعوب المنطقة, وقدمت توصياتها بشأن ضرورة إحداث تعديل جدي للبرنامج الصهيوني المتطرف, وضرورة إبقاء سوريا موحدة, لكن هذا التقرير لم يعير موقف ولسون, وقد جاء في تقرير تلك اللجنة : ( الشعور العدائي ضد الصهيونية, غير قاصر على فلسطين, بل يشمل سكان سوريا بوجه عام, إن البرنامج الصهيوني لا يمكن تنفيذه إلا بالقوة المسلحة, التي يجب ألا تقل عن خمسين ألف جندي, ولكن ليس من المعقول أن تستخدم الجيوش لتنفيذ القرارات الجائرة, فضلا عن أن دعوى اليهود التاريخية لا تستوجب الاكتراث ).
بيان الكونجرس
أما الكونجرس الأمريكي فقد أيد بمبادرة من السيناتور ( هنري كابوت لودج ) رئيس لجنة العلاقات الخارجية, وعد بلفور في يونيو 1922م, وأصدر بيانا بذلك, جاء فيه : ( إن الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وفقا للشروط التي يتضمنها وعد الحكومة البريطانية الصادر في الثاني من نوفمبر – تشرين الثاني من العام 1917م, والمعروف بوعد بلفور ). وفي نهاية الشهر نفسه وافق مجلس النواب الأمريكي على وعد بلفور في بيان جاء فيه : ( حيث إن الشعب اليهودي كان يعتقد لقرون طويلة ويتشوق لإعادة بناء وطنه القديم, وبسبب ما تمخضت عنه الحرب العالمية ودور اليهود فيها, فيجب أن يُمكن الشعب اليهودي من إعادة إنشاء وتنظيم وطن قومي في أرض آبائه مما يتيح لبنى إسرائيل فرصته التي حرم منها لفترة طويلة, وهي إعادة تأسيس حياة يهودية وثقافة مثمرة في الأرض اليهودية القديمة ). وفي 21 سبتمبر 1922م, وافق المجلسان معا ( الشيوخ والنواب ) على وعد بلفور كخطوة للموافقة المنفردة لكل منهما.
دور الصهيونية
لم يقتصر نشاط ودور الصهيونية المسيحية الأمريكية على مجرد إعلان وعد بلفور بل تجاوزه إلى تنفيذه على أرض الواقع من خلال :
حث اليهود على التجاوب مع نداء العودة. حتى إن بلاكستون الذي يصفه اليهود بأنه أب الصهيونية الأمريكية, بعث إلى هرتزل نسخة من العهد القديم يشير فيها إلى مقاطع خاصة تتحدث عن استعادة اليهود أرض فلسطين لحثه على دعوة اليهود إلى العودة. ولا تزال هذه النسخة من العهد القديم محفوظة في القاعة الملحقة بقبر هرتزل في القدس حتى اليوم.
حث السلطان العثماني على قبول توطين اليهود في فلسطين وقد مارس هذا الدور بشكل أساسي سفير الولايات المتحدة في اسطنبول (ليو والاس), ومارسه أيضا قنصل الولايات المتحدة في القدس (إدوين والاس ) صاحب كتاب ( القدس المقدسة ) وفيه يعترف بأنه: (إذا كان توطين اليهود غير مقبول الآن, فإنه سيكون مقبولا فيما بعد) وهو الأسلوب الذي لا يزال معتمدا حتي الآن في سياسة التوطين والتوسع اليهوديين.
تكوين المنظمات والهيئات الشعبية والدينية لتوفير الدعم المعنوي والمادي من أجل تحقيق النبوءات التوراتية بإعادة اليهود إلى فلسطين. من أوائل هذه المنظمات ( الفيدرالية الأمريكية المؤيدة لفلسطين) التي أسسها في العام 1930م, القس (تشارلز راسل), ومنظمة (اللجنة الفلسطينية- الأمريكية) التي أسسها في العام 1932م, السناتور (روبرت واجنر) وضمت 68عضوا من مجلس الشيوخ و200 عضو من مجلس النواب وعددا من رجال الدين الإنجيليين ورجال أعمال وأساتذة جامعات, وصحافيين وأدباء مشهورين. كما تأسست في العام 1942م, منظمة (المجلس المسيحي لفلسطين) على قاعدة وعد بلفور وتحقيقا له, من القساوسة البروتستانت ومن شخصيات مالية وسياسية وحكومية بارزة.
رفعت هذه المنظمات شعار الأرض الموعودة وشعار الشعب المختار, وعلمت الناس أن أفضل عمل يقوم به المسيحي تقربا إلى الله هو المساهمة المادية والمعنوية في تحقيق إرادة الله بإعادة اليهود إلى فلسطين تمهيدا لعودة المسيح !
رؤساء صهاينة
تبنى الكونجرس الأمريكي قرار المؤتمر الصهيوني الذي عقد في نيويورك في العام 1942م, واتخذ في العام 1944م قرارا : ( تتعهد الولايات المتحدة بموجبه بذل قصارى جهدها من أجل فتح أبواب فلسطين أمام اليهود للدخول إليها بحرية ولإتاحة الفرصة أمامهم لاستعمارها حتى يتمكن الشعب اليهودي من إعادة تكوين فلسطين يهودية ديمقراطية حرة ) لقد استعمل الكونجرس الأمريكي عبارة إعادة تكوين فلسطين بدلا من العبارات التي استعملها المؤتمر الصهيوني في بيان مؤتمر نيويورك وهي تكوين دولة يهودية في فلسطين, فكانت الصهيونية المسيحية أشد مغالاة وأكثر تطرفا من الصهيونية اليهودية في تنفيذ ما يسمى إرادة الله بإقامة دولة يهودية في فلسطين تمهيدا لعودة المسيح ! في تلك الفترة بدأ الثقل السياسي ينتقل من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولما توفي الرئيس الأمريكي روزفلت في 12 إبريل 1945م, مع نهاية الحرب العالمية الثانية تولى الرئاسة (هاري ترومان ) والذي يعتبر الرئيس الأكثر تجسيدا للصهيونية المسيحية الأمريكية في العصر الحديث. لقد حث ترومان رئيس وزراء بريطانيا أتلي في 31 أغسطس 1947م, على السماح لمائة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين وذلك لتأمين أغلبية يهودية في فلسطين في ظل الانتداب البريطاني تمهيدا لتحويل فلسطين إلى دولة يهودية بعد إنهاء فترة بعد إنهاء فترة الانتداب. وفي رسالته بتاريخ 18 أكتوبر 1947م, والذي وجهها إلى الملك عبدالعزيز آل سعود, والتي اعتبر فيها ترومان أنه من الطبيعي أن تشجع الإدارة الأمريكية هجرة اليهود من أوروبا إلى فلسطين لإقامة الوطن القومي اليهودي. وتعتبر هذا الرسالة أول إقرار رسمي أمريكي أمام العرب بالالتزام بالوطن اليهودي وبتهجير اليهود إلى فلسطين.
صحيفة 26 سبتمبر