البن اليمني .. ذاكرة تاريخ ووحدة وطن !
علي الشراعي
مما لا شك فيه أن ازدهار زراعة وتجارة البن قد انعكست على العديد من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية بل وحتى الاجتماعية والثقافية في اليمن ومن ناحية أخرى دخل البن في التجارة العالمية
وتنافس العديد من الدول الاوروبية بشركاتها للاستحواذ على تجارته كما أن تجارة البن اليمني ساعدت على النطاق العالمي أن تكون اليمن محط أنظار قوى استعمارية متعددة فالبن لم يكن محصولا نقديا فقط بل كان رمزية وطنية في احداث تاريخ اليمن الحديث .
تاريخ وثيق
هناك ارتباط تاريخي وثيق بين اليمن والبن وقد مرت تجارة البن منذ اكتشافه عام 1450م تقريبا الى منتصف العقد الثاني من القرن العشرين بمراحل مختلفة من حيث الازدهار والتأثر والتأثير على مجرى الحياة السياسية والاقتصادية في اليمن , ويرجع لليمن فضل تسميته العلمية بالبن العربي واكتشافه بتغيير طريقة استعماله من المضغ إلى شراب منقوعة بعد التقشير والتحميص والغلي في الماء ثم فضل زراعته كمحصول بستاني والعناية به وانتشر في بقية أنحاء العالم العربي ثم في أوروبا وآسيا وأمريكا, وقد تعدد الروايات عن طريقة دخول البن وزراعته إلى اليمن ولكنها تتفق على أن موطن البن هو الحبشة (إثيوبيا) أما متى نقل إلى اليمن فأمر يصعب الجزم به فيرى البعض أنه نقل إلى اليمن في حوالى عام 575م على أن هناك من يتحدث انه نقل مع المتصوفة ما بين القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين وكانوا يتخذون منه شرابا يساعدهم على السهر والذكر ثم شاعت زراعته بعد ذلك في القرن السادس عشر .
وكانت اليمن مصدر البن الوحيد في العالم حتى نهاية القرن السابع عشر . وقد احتكر اليمن تجارة البن ونتيجة لازدياد الطلب العالمي على السيطرة على تجارة البن بين كل من الأوروبيين والأمريكيين وغيرهما في القرن الثامن عشر الميلادي خاصة بين أمريكا وبريطانيا وكان للأمريكيين فيه نصيب الأسد , ويظهر إعجاز المزارع اليمني جليا في زراعته لأشجار البن في المدرجات بأسلوب هندسي بارع وتمكنه من المحافظة عليها وعلى إنتاجية الأشجار لمئات السنين وقد وردت إشارة إلى ذلك في كتابات نيبور عن اليمن عام 1763م ( كان البن يحتل المرتبة الأولى على رأس المحاصيل الزراعية في اليمن وكان يشغل معظم الأراضي الخصبة في المرتفعات الجبلية الممتدة في وسط اليمن من الشمال إلى الجنوب وأن زراعته تكثر أيضا في بلاد حاشد وبكيل وقعطبة ويافع ولكن أفضله كان يزرع في مناطق العدين وكسمة والجبين وكان بُن العدين أجود أنواع البن في اليمن وكانت أشجار البن تزرع في مدرجات تمتد حتى قمم الجبال ) ولم تكن تلك كل المناطق فقط التي كانت تزرع البن بل هناك العديد لم يذكرها نيبور ولم يزرها .فإن حب اليمنيين للبن جعلهم يزرعونه حتى في حدائق المنازل وقد لاحظ الطبيب الفرنسي الذي زار الإمام المهدي محمد بن أحمد بن الحسن في المواهب عام 1712م حب ذلك الإمام للبن لذلك قام بزراعة البن في بساتينه بالقرب من حصنه في المواهب .
حيث ساهم المناخ الممتاز في احتلال البن اليمني مكانة فريدة في السوق العالمي لما يتميز به من نوعية ممتازة وخاصة في الطعم والنكهة واشتهر بالاسم التجاري بن المخا ( موكا ) نسبة لميناء المخا الذي كان البن يصدر عن طريقه للعالم .
فيعود لليمن فضل اكتشاف بذرة البن واتخاذها شرابا انتشر سريعا بين الناس في أرجاء المعمورة وعلى الرغم من أن تجارة البن في مستهل أمرها كانت حكرا على اليمنيين ومن ثم التجار المسلمين إلا أنها ما لبثت أن خرجت من أيديهم خاصة بعد استزراع الاوروبيين لنبتة البن خارج اليمن فغدا الإنتاج اليمني لا يشكل حجما يذكر من الإنتاج العالمي وعلى الرغم من ذلك ظل البن اليمني مطلبا لجودته وندرته .
فالقهوة كانت معروفة ومتداولة بين أهالي مكة المكرمة عام 917هجرية الموافق 1511م ولعل هيمنة العثمانيين على معظم البلاد العربية بما فيها اليمن قد ساعد على انتشار القهوة وازدهار تجارة البن بين ولايات الدولة العثمانية كما ان اتصال العثمانيين بالدول الاوروبية سنحت لهذه السلعة أن تجد اسواقا جديدة في القارة الاوروبية ففي عام 1808م حملت السفن الأمريكية أكثر من (532000) رطل من البن أي بما يعادل 240 طنا تقريبا كما حملت السفن الأمريكية والأوروبية في العام التالي 20 مليون رطل أي ما يعادل تسعة آلاف طن من بن المخا كان معظمه من نصيب أمريكا .
وحدة وطن
يعد التاريخ الاقتصادي أحد العناصر المكونة للتاريخ العام إن لم يكن أهم تلك العناصر على الإطلاق إذ يمثل المرآة الحقيقية التي تعكس الأوضاع السياسية والاقتصادية لأي أمة من الأمم وان الانعكاس الأهم الناجم عن ازدهار تجارة وزراعة البن على العثمانيين خلال سيطرتهم الاولى على اليمن (1538- 1635م) ولم يتوقف استغلال العثمانيين للبن عن طريق فرض الرسوم الجمركية على تجارته وأخذ العشور من المزارعين فحسب ولكنهم كانوا يتاجرون به ايضا فقد كان التجار العثمانيون ينتشرون في كافة الاسواق والموانئ اليمنية التي تتعامل في تجارة البن وبالذات مينائي المخا واللحية فقد حاول العثمانيون الاحتفاظ بميناء المخا حتى أخر لحظة في تاريخ بقاؤهم في اليمن والذي مكن مردود البن حصول اليمنيين على الأموال اللازمة لمقاومة العثمانيين وشراء الأسلحة مما أدى في النهاية إلى إخراج العثمانيين من اليمن عام 1635م . فالبن قد دعم ميزانية الدولة والتي استخدمت تلك الأموال في تكوين جيش كبير وقوي مكنها من فرض سيطرتها على جميع المناطق اليمنية مكونا بذلك أول دولة يمنية موحدة تحت راية حكومة مركزية واحدة الأمر الذي ساعد اليمن على إقامة علاقات سياسية وطيدة مع بلدان كثيرة منها الهند والحبشة وغيرهما وتعد عملية توحيد اليمن هي أهم النتائج السياسية التي ترتبت على وجود اقتصاد قوى ناتج من توفر كميات كبيرة من النقود حصلت عليها اليمن من زراعة وتجارة البن بدرجة أساسية .
علاقات دولية
كان عهد الإمام إسماعيل بن القاسم دون سائر الائمة عهد استقرار سياسي (1644- 1676م) وقد انعكس هذا الاستقرار النسبي إيجابيا على تجارة البن حيث نجد أن إمبراطور الحبشة فاسيليدس( 1632- 1667م) يراسل الإمام إسماعيل مقترحا تبادل البضائع مباشرة بين اليمن والحبشة ولم تجد محاولات إمبراطور الحبشة صدى إيجابيا لدى الإمام إسماعيل الذي كان لا يريد منافسة للبن اليمني في موانئه, كذلك ارتبط اليمن ببعض العلاقات التجارية مع سلاطين الدولة المغولية في الهند بعهد السلطان شاهجهان (1627- 1665م) حيث كانت التجارة منتظمة بين اليمن والهند وكان البن من اهم صادرات اليمن . ومن جهة أخرى انعكست علاقة الإمام إسماعيل الودية مع الشاه عباس الصفوي الثاني (1642- 1667م) على التجارة بين البلدين لدرجة أن الشاه عباس الثاني أخذ يحث الإمام إسماعيل على مهاجمة سلطان اليعاربة في عًمان لأن العمانيين كانوا يشكلون منافسا قويا للتجارة الفارسية في اليمن والبحر الأحمر فقد كان التجار العمانيون كثيري النشاط في الموانئ اليمنية وخاصة ميناء المخا حيث كانت سفنهم تنقل البن إلى موانئ عُمان وجدة .
ورغم ذلك فقد كانت تجارة البحر الأحمر وعلى وجه الخصوص التجارة في السواحل اليمنية لم تكن آمنة تماما على الرغم من الاستقرار النسبي الذي كانت تنعم به اليمن إذ إن قراصنة السفن الاوروبية وغيرهم كانوا يحاصرون الموانئ ويهاجمون السفن الداخلة إليها أو الخارجة منها ينهبون بضائعها ويقتلون بحاراتها وقد يتعدى الأمر إلى مهاجمة الموانئ اليمنية نفسها الأمر الذي يدفع حكام هذه الموانئ إلى التعامل معهم إما بالقتال أو الاتفاق على مصالح مشتركة .
شركات اوروبية
لقد انتشر شرب القهوة في اوروبا انتشارا سريعا منذ حوالي النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي فأصبحت الاسواق الاوروبية بقوتها الشرائية تبعا لذلك سوقا مهمة للبن اليمني فكان من الطبيعي أن تزدهر تجارة البن اليمني وان تجني اليمن ارباحا طائلة من وراء هذه التجارة باعتبار اليمن هي المصدر الوحيد في تلك المرحلة للبن ولم يكن الإنتاج اليمني من البن يفي بمتطلبات الأسواق المتزايدة فلقد كانت السفن الهولندية الضخمة والتي تصل حمولتها إلى 700 طن تحمل سنويا من ميناء المخا ببضائع يأتي البن في مقدمتها لتباع في أمستردام فقد كانت شركة الهند الشرقية الأكثر هيمنة ونشاطا على الساحة التجارية اليمنية من بين الشركات الاوروبية التجارية الأخرى آنذاك ولعل هذا ما دفع بالهولنديين إلى إعادة فتح وكالتهم في ميناء المخا لتمارس نشاطها التجاري عام 1712م وكانت قد اغلقت نتيجة للاضطرابات السياسية في اليمن ابان التواجد العثماني والصراع مع المقاومة اليمنية والذي استمر إلى عام 1635م وقد انعكست تلك الاضطرابات على تجارة البن حيث قرر الهولنديون إقفال وكالتهم التجارية بالمخا عام 1628م واكتفوا بإرسال سفنهم التجارية من حين لآخر إليها .
الصراعات الداخلية
فإن الاضطرابات السياسية في البلاد حالت دون أن تكون هناك صناعة للبن يمكن أن تشكل دخلا قوميا مهما للبلاد أسوة بتلك الصناعات التي قامت في غيرها من المناطق .كما أن تجارة البن اليمني ساعدت على النطاق العالمي أن تكون بلاد اليمن محط أنظار قوى استعمارية متعددة وعلى النطاق المحلى كانت مناطق زراعته وتسويقه هدفا للحكام المحليين الطامحين في تقوية مركزهم المالي والسياسي في اليمن الأمر الذي أدى إلى قيام حروب وصراعات شتى من أجل تحقيق هذا الغرض مما انعكس على وحدة اليمن . لقد كان نتائج زراعة البن خارج اليمن كارثية على اليمن نفسها من الناحيتين السياسية والاقتصادية فقد نتج عن ذلك انخفاض معدل دخل اليمن من الأموال الناتجة عن تجارة البن وبالتالي تدهورها اقتصاديا مما نتج عنه في نهاية الأمر زيادة حدة الاضطرابات الداخلية وهذا يعني بالضرورة بأن الاستقرار السياسي في اليمن كان مرتبطا ارتباطا كبيرا بقدرتها الاقتصادية
لم يكن الهدف من زراعة البن خارج اليمن هو كسر احتكار اليمن لهذه السلعة فحسب ولكن ايضا من أجل تغطية احتياج السوق الأوروبية من هذه السلعة وخاصة بعد أن فشلت اليمن في سد الاحتياج بسبب زيادة الطلب العالمي على البن من ناحية والظروف السياسية التي جعلت اليمن عاجزة عن الوفاء باحتياجات السوق العالمية من هذه السلعة من ناحية ثانية .
لقد أدى ضعف اليمن الاقتصادي نتيجة نضوب الموارد المالية الناتجة عن تجارة البن إلى حدوث الكثير من حالات الانفصال عن الحكومة المركزية في صنعاء فقد أعلن حاكم عدن فضل بن علي العبدلي انفصال عدن عن الحكومة المركزية عام 1728م ونتيجة للضعف الاقتصادي لم تقم حكومة صنعاء بأي مجهود لاستعاد سيطرتها على عدن والمناطق المجاورة لها تاركة إياها لسلطان لحج زعيم قبيلة العبادلة. وابتداء من عام 1760م أصبحت حكومة صنعاء نفسها تتعرض للتهديد المستمر من قبل بعض القبائل وعند وصول بعثة نيبور إلى اليمن في عام 1763م كانت عدن والمناطق المجاورة لها في قعطبة وتعز والمناطق الشمالية في “أبو العريش” منفصلة عن حكومة صنعاء وتعد حالات الانفصال تلك دليلا كافيا على ضعف الدولة عن فرض سيادتها على كامل الأراضي اليمنية والناجم عن ضعف مواردها الاقتصادية والذي كان دخل البن أحد أهم ركائز تلك الموارد فلقد كانت نتيجة نجاح زراعة البن في المستعمرات الاوروبية في جنوب شرق آسيا هي فقدان اليمن لأسواق مهمة لتصريف إنتاجها من البن ففي نهاية القرن الثامن الميلادي كان بن المستعمرات الأوروبية يغزو الأسواق الاوروبية والعربية .