صمود وانتصار

الشهداء.. شُموسٌ لا تنطفئ ونجومٌ لا تغيب

خـديجـة المرّي

إنّ إحياءَنا للذكرى السّنوية للشهيد ليست مُجَـرّد هُتافاتٍ تُردّد، أَو شعاراتٍ تُلصق، أَو كلماتٍ تُكتب وتُنطق، أَو مناسبة تأتي وتنتهي، أَو قصصٍ خيالية تُقرأ وتُنشر فَحسب؛ بل إنها فُرصة ثمينة، وذكرى قيمة، ومناسبةٌ عظيمة تُتيح لنا التأمل في تضحيات أُولئك الأبطال الذين سلكوا درب القادة الأطهار.

نستذكر من خلالها تضحيات الشُهداء العُظماء ومآثرهم، نتذكر صفاتهم الراقية، وأخلاقهم الطيّبة، ومحاسنهم النبيلة، نتعلم من هذه الذكرى معاني الإباء والعزّة، ونتعلّم معنى السّمو والرفعة، نستذكر فيها تضحيات الشهداء وبـُطولاتهم الخالدة، نستذكر ثباتهم وشموخهم وإخلاصهم وصبرهم.

ذكرى الشُهداء محطة إيمانية خالدة نتعلم منها ونستفيد ونستلهم منها الدروس والعبر، فنتعلم من هؤلاء الشهداء كيف انطلقوا بيقينٍ راسخ، وهدفٍ واضح، وإيمان ثابت، تُعلّمنا كيف نكون أقوياء في ميادين المواجهة، وكيف نكون أعزاء نأبى الإذلال والعبودية، تُعلّمنا استشعار المسؤولية وأداء الواجبات الدينية.

إن الحديث عن الشهداء حديث ذو شجون، يأخُذنا إلى حَيثُ ينبغي أن نكون، فهم رجالٌ صادقون صدقوا ما عاهدوا الله عليه، كما وصفهم الله في مُحكم كتابه:- «مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ» هم الرجال الصادقون الذين صدقوا في تحَرّكهم مع الله، وصدقوا في انطلاقتهم الجهادية في سبيل الله، هم من صدقوا ولبّوا داعي الله والواجب، هم من صدقوا في أفعالهم وفي أقوالهم، هم من صدقوا في انتمائهم الإيماني، مُستمرّين على منهجهم القرآني، لا يخلُفون وعودهم، ولا يتغيرون في أوقات ظروفهم، أَو يُبدلوا في طريقهم ومسارهم «وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا».

هم من ثبتوا على مواقف الحقّ، وتصدّوا لمواجهة الباطل، وتحَرّكوا بخُطى إيمانية، محافظين على ماء وجهِ هذه الأُمَّــة، كاشفين عنها ستار العناء والغُمّة، بِكل مصداقيةٍ وعزيمةٍ وهمة.

انطلق ليوث المعارك وفُرسانها، وأبطال حروبها، وشجعانها البواسل إلى ساحاتِ الوغى، رافضين لحياتهم الدنيوية، وأمتعتهم المالية؛ تلبيّة لداعي الله وتوجيهاتهِ القرآنية.

عشقوا تلك التجارة التي لا بوار فيها ولا خسارة، تاركين خلفهم كُـلّ ملذات وحطام هذه الدنيا الفانية، مُدركين أن بعدها جنة أبدية دائمة، تاركين أهاليهم وذويهم؛ حماية لدين الله، ودفاعًا عن الأرض والعرض، وحماية المقدسات وصيانتها من أنجس البشر من الخلق، انطلقوا لنصرة المستضعفين، وإعلاء كلمة الله بكل ما أُتوا من عتادٍ وتمكين.

لم يخرجوا استكباراً أَو بطرًا على عباد الله؛ إنما خرجوا لطلب الإصلاح في هذه الأُمَّــة التي يتكالب عليها طواغيت الشر ويتربصون بِها، خرجوا عندما شاهدوا أمام أعيُنهم ترصّد الأعداء وبطشهم ومؤامراتهم على بلدهم، خرجوا من مبدأ قوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ» وعندما رأوا صراخ الأطفال وأنين جِراجهم النازفة، وأوجاع الثكالى والدمعات الحزينة، كان يعزُّ عليهم البقاء في بيوتِهم، والعيش مع أُسرهم، وهم يعلمون أوضاع ومآسي أمتهم.

لم يكن همهم أي شيءٍ من وراء ذلك كله؛ سوى رضوان الله وطلب رضاه والشهادة في سبيله، فهم قد باعوا أنفسهم ووهبُوا حياتهم ومماتهم له، لم يُبالوا بما سَيُلاقونه في هذه المسيرة، فنعم البائع، ونعم المُشتري: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» كما كان هدفهم أَيْـضًا هو “إقامة العدل في أرضه، والطمع والرغبة فيما أعده الله للشهداء والصديقين”.

إن دماء الشهداء لم تذهب هدرًا، إنما صنعت نصرًا عظيمًا للأُمَّـة، وأثمرت نتائج وانتصاراتٍ كُبرى، وقد تجلت حقيقةً في أرض الواقع؛ فما نراه اليوم وما شهدناه بالأمس في معركة الفتح الموعود والجهاد المُقدس من تطور في القدرات، واستهداف حاملات الطائرات، وضربات مُتصاعدة على يافا وإيلات، إنما هي بفضل دماء هؤلاء الشهداء، الذين لولاهم لما كنا في عزةٍ وكرامةٍ وثبات، لولاهم لما صمدنا وثبتنا على مُواجهة الطُغاة، لولاهم لكنا كـغيرنا نُسارع في التطبيع، ولما ساندنا لبنان ونصرنا غزة وفلسطين، فمّا نحنُ فيه من عزٍ وإباءٍ وتمكين إلا بفضل مجاهدينا الثائرين، وشهدائنا المُستبسلين الذين أصبحوا محط فخرٍ واعتزاز للآخرين.

الشهداء هم فعلًا شُموسٌ لا تنطفئ؛ بل سَتبقى مُشرقةً بالأمل تبعث إلينا كُـلّ يوم رسائل فواحةً بالمسك والعود، وهم نُجومٌ لا تغيب، بل تبقى لامعةً تُرسل أطيافاً من النور، الذي يُنير لنا كُـلّ الدروب.

فلنواصل طريقهم الذي رسموه وعمّدوه بدمائهم الطاهرة ولنستمر على دربهم ونعجل من بطولاتهم منارةً تُرشدنا في كُـلّ خطوة نحو الحرية.