صمود وانتصار

حزب الله يثبّت حتميات الهزيمة الكبرى لـ”إسرائيل”.. معايير تقييم الانتصار اللبناني وتأثيراته

الصمود||تقرير||ضرار الطيب

لقد أجبر حزب الله العدو الصهيوني على الانسحاب ووقف عدوانه على لبنان.. وهذا هو العنوان الأبرز لاتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ سريانه يوم الأربعاء، ووراءه عناوين أخرى تمثل حقائق موضوعية كلها تؤكد انتصار المقاومة الإسلامية على الاحتلال، وبرغم محاولات أصوات التطبيع للتغطية على تلك الحقائق والتشويش عليها فإنها تبقى بارزة وشاهدة على إنجاز استراتيجي كبير طويل الأمد، ستكون له تأثيراته المباشرة والمهمة على مسار الصراع في جولته الحالية ومستقبله، وهذا أيضًا ما تصدّق عليه شهادات من داخل كيان العدو نفسه.

إن المعيار الأساسي لتقييم اتفاق وقف إطلاق النار بين العدو الصهيوني وحزب الله، هو الأهداف الرئيسية التي وضعها العدو لحملته العدوانية على لبنان, سواء على مستوى القصف الوحشي أو على مستوى العملية البرية، بدءًا بهدف “تغيير وجه الشرق الأوسط” الذي أعلن عنه نتنياهو على وقع نشوته المؤقتة باغتيال سماحة السيد حسن نصر الله، وكبار القادة الجهاديين للحزب، وصولًا إلى أهداف القضاء على حزب الله وتدمير قدراته تمامًا، وإعادته إلى شمال نهر الليطاني، وإعادة المستوطنين الصهاينة إلى الشمال.

سقوط أهداف العدو 

وبتأمل بنود الاتفاق، يتضح بجلاء أن هذه الأهداف كلها سقطت، وأن النجاح باغتيال قيادة المقاومة الإسلامية كان خارج نطاق تلك الأهداف أصلًا، فالقبول بوقف إطلاق النار والانسحاب من القرى الحدودية، بعد أن أثبت حزب الله تماسكه التنظيمي والعملياتي وشن عمليات غير مسبوقة في تأريخ الصراع وصلت إلى عمق “تل أبيب” وما بعدها، يعني بكل وضوح الاستسلام لحقيقة أن حزب الله لا يمكن تدميره أو حتى الحد من التهديد الاستراتيجي والوجودي الذي يشكله على كيان العدو، وهو ما سيفهم منه المستوطنون قادة وقطعانًا أن وجودهم في مرمى نيران حزب الله مؤقت.

هذا أيضا ما تجلى في شهادات العديد داخل كيان العدو، ومنهم أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” الذي اعتبر الاتفاق “استسلامًا” وبحثًا عن سلام مؤقت على حساب الأمن الاستراتيجي طويل المدى، ناهيك عن كونه “فشلًا سياسيًا وأمنيًا كاملًا” وفق تعبير نفتالي بينيت رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق.

أما هدف تفكيك قدرات حزب الله وتغيير خارطة تموضعه في جنوب لبنان، والتي حاول العدو أن يسوق لها بناء على ما تضمنه الاتفاق من حديث عن إدارة الجيش اللبناني للجنوب، فالجميع يعلم أنه لن يتحقق، ولا يحتاج حزب الله ليقول ذلك بشكل رسمي، فتجربة اتفاق 2006 تشهد بذلك.

تعثر عودة المستوطنين

ويتجلى سقوط أهداف العدو أيضًا بشكل أوضح في الجانب المتعلق بعودة المستوطنين إلى المناطق الشمالية المحتلة التي نزحوا منها هربًا من ضربات حزب الله، فإلى جانب حقيقة أن نتنياهو فضل عدم دعوة المستوطنين للعودة، وتصريحات مسؤولي تلك المناطق التي أكدت أنهم لن يسمحوا بعودة المستوطنين مادام حزب الله قادرًا على تهجيرهم مرة أخرى في أي وقت، كانت هناك تحليلات أكثر تفصيلًا توضح تعثر تحقيق هذا الهدف، ومنها ما ذكرته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية التي أكدت أن “الإسرائيليين متشككون في تأكيدات الحكومة بأن المشكلة تحت السيطرة هذه المرة، وسوف يستغرق الأمر شهوراً من دون وقوع هجمات حتى تهدأ مخاوفهم” مضيفة أن “الإخفاقات الاستخباراتية والعسكرية التي وقعت في السابع من أكتوبر أدت إلى إضعاف مصداقية أجهزة الاستخبارات والقوات العسكرية الإسرائيلية”.

وفي المقابل وبرغم تهديدات العدو ووضع مهلة 60 يومًا لانسحاب قواته من القرى الحدودية، فقد عاد النازحون اللبنانيون إلى منازلهم المهدمة بسرعة فور إعلان الاتفاق، بأجواء احتفالية بالنصر، وهو ما يعني أن حاضنة المقاومة ازدادت تماسكًا والتفافًا حول المقاومة، الأمر الذي يجسد استحالة تحقيق هدف القضاء على حزب الله وتفكيكه.

هناك بالطبع معايير أخرى لتقييم الاتفاق، وهي النقاط الاستراتيجية المسجلة خلال الحرب، فبالرغم من أن العدو تمكن من اغتيال قيادة حزب الله، ووسع عملياته العدوانية، فإن ذلك كله لم يخرج عن الإطار المألوف لاستراتيجيته الحربية، لكن حزب الله بالمقابل تمكن من تثبيت معادلات جديدة غير مألوفة، منها تهجير المستوطنين وتحويل المغتصبات الشمالية إلى مدن أشباح، وضرب قائمة طويلة من الأهداف الحساسة والحيوية والمهمة في عمق الكيان للمرة الأولى في حيفا و”تل أبيب” وصولًا إلى “أسدود” وهي ضربات يعلم الجميع أنها كانت من ضمن الأسباب الرئيسية التي دفعت العدو للجوء إلى الاتفاق، لأن استمرارها كان سيشكل كارثة وجودية حقيقية للعدو.

وبالتالي، فقد برهن حزب الله وبشكل عملي على نجاح استراتيجياته الكبرى في الصراع مع العدو، وعلى مرونة هذه الاستراتيجيات وقدرتها على تجاوز الظروف الصعبة للغاية مثل اغتيال قيادة المقاومة الإسلامية، واكتسب من خلال المعركة خبرة تؤهله لخوض أي مواجهة قادمة بندية أكبر، وقدرة على ضمان الانتصار مرة أخرى، وكرس في نفوس كل “الإسرائيليين” حقيقة أن حزب الله هو أكثر من مجرد تهديد أمني وعسكري، بل خطرًا وجوديًا لا سبيل لتجاوزه.

وهذا الواقع الذي ثبته حزب الله، ليس محصورًا في تأثيراته على جبهة لبنان، بل على مسار الصراع بين العدو وجبهة المقاومة بأكملها، فعلى مستوى الجولة الحالية، تعتبر الهزيمة التي مني بها العدو أمام حزب الله هزة كبيرة لاستراتيجية “النصر المطلق” التي وضعها نتنياهو للحرب، حيث أصبح هذا العنوان الآن بلا قيمة، وفي ظل الفشل الواضح للاحتلال في غزة، أصبح من المؤكد حتميًا أن أبعد أفق يستطيع العدو الذهاب إليه في هذه الجولة من الصراع هو التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار مشابه مع المقاومة الفلسطينية عاجلًا أم آجلًا.

غزة ليست وحدها 

وفي هذا السياق أيضًا، وفيما يحاول إعلام قوى التطبيع التشويش على انتصار حزب الله بعناوين “ترك غزة لوحدها” فإن الحقيقة هي أن فشل العدو في غزة سيبقى قائمًا، فبعد أكثر من عام من الحرب بدون أي نجاح في القضاء على المقاومة الفلسطينية أو إضعافها، وفي ظل إنهاك عسكري معلن وواضح لجيش العدو المستنزف، فإن عنوان “التفرغ لغزة” هو عنوان فارغ لا ينطوي على أية خيارات مضمونة وجديدة يمكن أن تغير مأزق العدو بشكل حاسم، فضلًا عن حقيقة أن غزة ليست وحدها أصلًا، فلا زالت جبهات الإسناد الأخرى تضغط بشكل مؤثر ومتصاعد وتمتلك القدرة على مفاجأة العدو بخيارات فعالة رغم بعد المسافات، كما أن حزب الله لن يترك الإسهام بطريقة أو بأخرى في الوقوف إلى جانب غزة، وهذا ما أكده البيان الأخير للمقاومة الإسلامية في لبنان بوضوح، ناهيك عن أن التزام العدو بوقف إطلاق النار لا يزال خاضعًا للتقييم.

وعلى مستوى مستقبل الصراع، فإن الانتصار الذي حققه حزب الله، سيكون له تأثيرات كبيرة وواسعة، فإلى جانب حتمية عودة الحزب بشكل أقوى في أي مواجهة قادمة، وهو ما يعترف به العدو نفسه، فإن الفشل في التخلص من حزب الله هو برهان على عجز كيان العدو ورعاته عن توفير بيئة إقليمية آمنة لكيان العدو، وهو هدف كان الصهاينة والأمريكيون يعملون عليه بجهد طيلة الفترة الماضية، وقد حاولوا تحقيقه من خلال العدوان على لبنان واليمن وإيران، وهذا الفشل يكرس سقوط كل الآمال المعلقة على خطط “التطبيع” ويبقي العدو محشورًا في الواقع الجديد الذي برزت ملامحه في السابع من أكتوبر، وهو واقع انهيار أمن كيان العدو واستقراره و”الردع” الخاص به إلى غير رجعة.

لقد حرص نتنياهو على أن يصور هذه الحرب كحرب وجودية حاسمة، لا خيارات فيها سوى القبول بواقع السابع من أكتوبر والذي يعني التدحرج نحو الهزيمة الكاملة، أو القضاء على المقاومة الفلسطينية والإقليمية وتجاوز كل التهديدات المحدقة بالكيان، لكن الهزيمة في لبنان أكدت استحالة الخيار الثاني، وبالتالي أرست الكثير من أساسات الانتصار الكبير والنهائي لجبهة المقاومة في الصراع بأكمله.