صمود وانتصار

مساعي تركيا لإعادة مشروع ” العثمانية الجديدة”

أنس القاضي

بخلاف السياسة الخارجية التركية القومية التي رسمها كمال أتاتورك والتي اتجهت نحو تعزيز العلاقات مع الدول الغربية، اتجهت -مع صعود الإسلاميين- نحو دول العالم العربي التي كانت ولايات عثمانية سابقاً، ويُعرف هذا التوجه الاستراتيجي التركي الذي يقوده حزب العدالة والتنمية بـ”العثمانية الجديدة”.
يمثل سقوط نظام الأسد وسقوط سوريا بيد الجماعات المسلحة فرصة جديدة لتركيا للتوسع واعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي من القرن الأفريقي إلى بلاد الشام وأفغانستان. وقد كان دعم أردوغان للجماعات المسلحة السورية بمثابة منصة رفعت أنقرة إلى مرتبة القوة الإقليمية.
وفي اعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، ومع دخول العالم مرحلة التعدد القطبي، تريد تركيا ضمان مكانتها بوصفها قوة إقليمية ذات امتداد دولي، فطموحات تركيا -وفقاً لسياسة “العثمانية الجديدة”- تمتد إلى ما هو أبعد من سوريا والعراق، لتصل إلى أفريقيا والقوقاز وآسيا الوسطى. فبعد أيام من سيطرة الجماعات المسلحة الموالية لأنقرة على دمشق، نجحت تركيا في اتفاق بين الصومال وإثيوبيا، وهما حليفان مقربان لتركيا. وتمتلك تركيا قاعدة عسكرية جنوب مقديشو في جمهورية الصومال الفدرالية.
لتركيا وجود عسكري غير معلن في ليبيا، وهي تقدم المساعدة العسكرية لحكومة “الوفاق الوطني” التي تخوض صراعا عسكرياً ضد قوات الجنرال خليفة حفتر الذي تدعمه الإمارات ومصر والسعودية. وهذا الأمر يضمن لها نفوذها على خطوط الطاقة في البحر الأبيض المتوسط، ويضعها في موقع الوسيط القوي الرئيس في شمال أفريقيا. وتسعى تركيا حالياً لدعم حلفائها في ليبيا للسيطرة عليها كاملة على غرار ما حدث في سوريا.
وفي آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز يتزايد الحضور التركي، حيث أقامت علاقات مع حركة طالبان منذ استيلائها على السلطة عام 2021م شرقي حدود إيران. بالإضافة إلى ذلك، عززت تركيا وجودها في أذربيجان بالقرب من الحدود الشمالية لإيران من خلال دعم اذربيجان عسكريا ودبلوماسيا خلال حرب ناغورنو كاراباخ عام 2020م ضد أرمينيا، لتضع نفسها لاعباً رئيساً في القوقاز.
من شأن صعود تركيا أن يعقد من المشهد الجغرافي السياسي الإقليمي، وخاصة بالنسبة للمملكة العربية السعودية وحلفائها التي تتنافس مع تركيا على قيادة “العالم السني”، وكذلك مع إيران التي تتنافس مع تركيا جيوسياسياً.
وتمتلك تركيا قواعد عسكرية في كل من الصومال وقطر وقبرص، ووجودا عسكريا غير معلن في ليبيا، وكانت بصدد إقامة قاعدة بحرية في جزيرة “سواكن” السودانية، وهناك واجهت تركيا نكسة كبيرة في مساعيها لتوسيع دائرة نفوذها الإقليمي عقب الإطاحة بحكم عمر البشير.
اليمن ليست بمنأى عن الأطماع التركية، كما أن الحضور العسكري التركي جوار اليمن يمثل تهديداً للأمن القومي اليمني، مثله مثل بقية الوجود العسكري الأجنبي في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن، فمنذ فبراير 2009م، تشارك القوات البحرية التركية في قوة المهام المشتركة الدولية “CTF-151″ لـ”محاربة القرصنة” في خليج عدن والبحر الأحمر، القاعدة العسكرية التركية في جمهورية الصومال الفدرالية، “تركسوم” هي القاعدة العسكرية الأكبر لأنقرة في الخارج، وهي قادرة على استقبال قِطع بحرية وطائرات عسكرية وقوات كوماندوز.
وفي 19 فبراير وقّع وزير الدفاع التركي ثلاث اتفاقيات تعاون مع جيبوتي، اشتملت على التعاون في مجال التدريب العسكري، والتعاون المالي العسكري، وبروتوكول تنفيذ المساعدات النقدية، وذلك خلال استضافته نظيره الجيبوتي حسن عمر محمد في العاصمة أنقرة.
الحضور العسكري البحري لتركيا في خليج عدن وباب المندب يفرض تركيا كلاعب مؤثر في عدة ملفات، أهمها ملف الملاحة الدولية، والحضور العسكري الغربي بذريعة “حماية الملاحة ومكافحة القرصنة”، ويزداد هذا الملف الأمني سخونة مع ظهور اليمن ًقوة بحريةً مقتدرة في البحر الأحمر.
ترتبط تركيا بعلاقات مع الإخوان المسلمين في اليمن (أو التيار القريب منها البعيد عن السعودية)، ومن المحتمل ان تضاعف الدعم سياسياً وعسكريا كجزء من دعم الإخوان عموماً في المنطقة. والقوة الناعمة التركية فاعلة في اليمن عبر الإعلام والدراما التركية، والمنح التي تقدمها للطلاب اليمنيين، والعلاقات التجارية مع تجار يمنيين، فاليمن بأهميتها الاستراتيجية جزء من طموحات التوسع التركية.
من المتوقع -في المشهد السوري- أن تشهد الفترة القادمة منافسة بين تركيا وكل من السعودية والإمارات ومصر، إذ لن تسلم هذه الدول لتركيا أن تسيطر بصورة كاملة على سوريا.

الكيان الصهيوني من أبرز المستفيدين من التوسع التركي، نتيجة للعلاقات الأمنية الوثيقة بين الطرفين، كما أن تركيا عضو في حلف الناتو، ما يعني ن قواعدها العسكرية -بشكل أو أخر- خادمة للناتو عسكريا.
في حال هيمنت تركيا على المنطقة، وسيطرت على البحر الأبيض المتوسط وممرات الطاقة فيه، وانتقل الغاز التركي -مروراً من سوريا- إلى أوروبا، فإن من شأن هذه التغيرات أن تزيد من مكانة تركيا لدى الغرب والاتحاد الأوربي، وتزداد حظوظ ضمها إلى الاتحاد الأوربي.
هذا الحضور التركي الجديد سيكون -واقعياً- على حساب إيران وروسيا، وسوف يعقد من علاقة أنقرة مع طهران وموسكو.