عن تعطيل القدرات الفكرية العربية
الصمود||مقالات||عبدالرحمن مراد
علينا أن ندرك أن المجتمعات الغربية في القرن الخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر الميلادي، كانت تعاني من أزمات وجودية، ومن حروب وصراعات مدمرة، وقاتلة, تماماً كالذي يحدث عندنا اليوم، ومثل هذه المقارنة الذهنية تقول أن العرب والمسلمين يعيشون أزمنة تجاوزها المجتمع الإنساني منذ قرون، واستطاع من خلال مفكريه الكبار أن يبدعو واقعاً جديداً لينعموا بقدر من الهدوء والاستقرار من خلال التأكيد على الاحتياجات البيولوجية والسيكولوجية للإنسان، وتحقيق القدر اللازم من الأمن النفسي والاجتماعي، وهي حاجات لم يكن القرآن بغافل عنها ولا المنهج المحمدي من خلال تأكيدهما على خاصية الأمن من الخوف, والأمن من الجوع .
فما الذي يحدث في المجتمعات العربية ؟
الذي يحدث في المجتمعات العربية كما هو معلوم لكل ذي لب أو بصيرة هو الامتثال للنص، وتعطيل خاصية التفكير والابتكار، وبسبب ذلك شاعت الاشتراكية في المجتمعات العربية كقيمة كلية نصية غير قابلة للتجزئة، وفي مقابلها شاعت الحركات الدينية كاجترار تاريخي نصي غير قابل للحوار مع المستويات الحضارية الجديدة، ونشأت فكرة القومية العربية رفضاً لثنائية الهيمنة والخضوع للمستعمر، وعلى وفق ذلك دارت حركة المجتمع وتوازنه في حالة اغتراب زماني ومكاني وثقافي وحضاري، فهي لم تلب الاحتياجات الأساسية للإنسان، فالعدالة الاجتماعية عند قوى اليسار الاشتراكي كانت شعاراً لم يتجاوز شكليته بهدف الوصول إلى السلطة وليس أكثر من ذلك، والقومية العربية لم تتجاوز مفرداتها، ومثل ذلك ينزاح إلى حركة «الإخوان المسلمون « الذين دارت شعاراتهم في مربعات حاكمية الله في الأرض، ولم يصلوا إليها، وكانت فلسفتهم ترى أن صلاح الأمة في هذا الزمان لا يتحقق إلا وفق المقاسات الأولى للدعوة الإسلامية في زمنها القديم كما ورد في أدبياتهم، وتبعاً لذلك كان الصراع هو ديدن المجتمع العربي الإسلامي الذي لم يبتكر جديداً، واستسلم للفوارق الحضارية في مستوياتها المتعددة، وهو يستجر النظريات اللغوية، والثقافية، والاجتماعية، والعلمية، بعد أن كان مصدراً لها ومبتكراً لكل تموجاتها، وكل الدراسات الحديثة تؤكد أن ملهم الغرب في الوصول إلى المستويات الحضارية كان ابن رشد وغيره من العلماء الذين أخذوا العلوم من اليونان والاغريق ثم أضافوا وابتكروا وساهموا في صناعة واقع جديد في حياة البشرية جمعاء.
وبالقفز على كل الأزمنة والتطورات التي حدثت في المجتمعات وصولاً إلى الحالة اليمنية التي لم تك بمنأى عن ظلال ما سلف بيانه، فالاشتراكية التي حكمت في الجنوب (23 ) عاما من (67_90 م) عملت على تعطيل القدرات، والإمكانات، وساهمت في ترميد حركة المجتمع، وكانت تخوض صراعاً مع الجماعات الدينية بشقيها السلفي و الإخواني، والصراع بين تلك القوى لم يتجاوز الشعارات، ولذلك رأينا كيف تلاشت الحركة الاشتراكية إلى درجة فقدان التأثير، والفاعلية، الذي كانت عليه في النصف الثاني من القرن العشرين، ومثلها الحركة القومية، ولم يعد لهما من وجود يذكر حين القياس على الواقع اليوم, وها هي حركة الإخوان تعلن عن غروبها بعد أن أصبح شعارها شعاراً قاتلاً لا يحمل الخيرية للبشرية وقد وصلت ذروة نكوصها باشتغالها على التفجيرات وممارسة الإرهاب الذي يهدد الإنسانية جمعاء بالفناء والعدمية، ولم تكن هذه النتيجة بدون مقدمات منطقية بل ساهمت الأجهزة الاستخبارية العالمية في صياغتها بطريقتها حتى تستمر مصالحها في المجتمعات التي كانت تخضع لسلطتها الاستعمارية في القرن الواحد العشرين وما قبله .
وبالتأسيس على ما سبق بيانه, وفقا لحركة التاريخ، نرى أن المجتمعات الحية والفاعلة في حركة المجتمع التاريخية تفرز واقعاً جديداً كما تقتضيه حركة التدافع بين الخير والشر والفساد والإصلاح وفق التعبير القرآني والإسلامي, وقد جاءت حركة أنصار الله كنتيجة منطقية و طبيعية لمقدماتها التي بدأت عند مطلع الألفية وبالتحديد منذ الحرب الأولى على صعدة عام2004م وصولاً إلى حالة تفجر الحدث في عام 2011م وحركة أنصار الله كانت هي التعبير الأمثل عن القوى الإسلامية الجديدة، والقوى المستضعفة التي جاءت وفق سنن الله في كونه من حيث المظلومية والاستضعاف ومن حيث تحقيق وعد الله بنصرة وتأييده وبالتمكين لهم في الأرض, وهذه الحركة ترى في القرآن الكريم منهجاً ونظرية …. يمكن السير في طريقها للخروج من المسالك المظلمة وهي محقة في ذلك, فقد كانت سورة الأعراف تحمل مقاصد الله من خلال سرد متواليات الحدث وبيان انحرافه عن مقاصد الله ووجوب عقوبته، ولذلك قالت سورة الأعراف بشكل مجمل بحاجات الإنسان ومقاصد الله وتحدثت عن العقوبات التي إنزالها على الأمم، بسبب فقدان المعيارية الأخلاقية من الحق والعدل والوجود والحرية وبيان ذلك في سياق السورة ليس خافياً على كل ذي لب ومن خلال البعد النظري لمقاصد الله .
ووفق الحالات التاريخية المماثلة فكل مشروع ثقافي حين يحتك بقضايا الواقع وإشكالاته يحتاج إلى رعاية وتشذيب ويحتاج وقوفاً ونظراً في أثره ودراسات عميقة حتى يجتاز العثرات، فالثبات في الفكرة ضررها أكبر من العناية والتشذيب والبتر حتى تؤتي أكلها ولذلك يقال «أن التفكير السليم هو الذي يتناقض مع نفسه لا الذي يمتاز بالثبات» لأن الفكرة في حالة تحول دائم بسبب الضرورات التي يفرضها الواقع، فالظروف التي تنشأ فيها الفكرة تتغير وتتبدل وكل مرحلة تاريخية تفرض شروطها التاريخية، والقرآن الكريم حين وقف أمام تغيرات المجتمع المسلم في مراحل التبدل والتغيير عالجها وفق مقتضيات الحال، لذلك نشأ مبدأ عند مفكري الفقه الإسلامي يرى ما هو عام يراد به العموم وعام يراد به الخصوص وعام مخصوص ومبدأ قطعي الدلالة أو ظني الدلالة وما سوى ذلك من القواعد عند أرباب العلوم الاسلامية .
وأمام هذا الواقع الذي وصلنا إليه اليوم يتطلب منا تنشيطاً للقدرات الذهنية والفكرية كي تبدع واقعاً جديداً ومستوى حضارياً ملائماً ومتناغماً مع إرثنا الثقافي وبما يحفظ وجودنا وقدراتنا واسهامنا الفاعل في عالم اليوم .