صمود وانتصار

قراءه في تاريخ هذه الأرض / بقلم الكاتب : مصطفى عامر

هذه الأرض طيّبة القلب، يا بُني، وتحبُّ أبناءها منذ بدء الخليقة، وحتى حينما كانت شابّة ً يافعةً بالغة الثّراء ِلم يجذبها ما يجذب المراهقات عادةً من تَوافِه.

شيدّت لأبنائها، عوضًا عن ذلك، وطنًا مفتوحًا على شارعين في أفخم أحياء الجغرافيا، مجدًا أسكَنَهم في أعلى “طيرمانات” التّاريخ، اختارت لهم فيما بعدُ عملًا يليق بالنبلاء، قالت لهم: كونوا سادة العالم وارفعوا رؤوسكم.

وفيما لو امتلكتَ وقتًا للقراءة سيخبرك التّاريخ عن أشياءٍ كثيرةٍ مرّت من هنا، وعن مصائب كبيرة، عن قصص المجد ومحكيّات الهوان، وسيخبرك التاريخ عن كلّ الحرب ونصف السّلام.

خذ ما تحتاجه من الوقت وتصفّح التّاريخ سطرًا سطرًا، وحينما تأخذك الصّفحات إلى منتهاها فإنك سوف تصل إلى ما يمكنك الوصول إليه، لن أفرض عليك نتيجة، لكنّني مُقتنعٌ بأنّ هذه الأرض لم تخذل أبناءها قط، يا عزيزي، والبسطاء الطّيبون لم يخذلوها أيضًا.

كلّ الخيانات جاءت من هناك، من ذلك الحيّ الغريب الّذي يسكنه التُّجّار واللّصوص، الكهنة وصُنّاع الزّيف، الهاربون من رائحة الطّين إلى رائحة الطِّيب، من كتاب الوطنيّة إلى كتاب النّكاح، ومن باب اليمن إلى باب الحارة.

يخونونها في كلّ صفحةٍ مرّات ٍ عديدة، وفي كلّ فقرةٍ كاملةٍ يخونونها مرّتين على الأقل، وهم يخونونها رغم أنّها أعطتهم حتّى “حقّ التّخزينة”، ولم تطلب منهم في المقابل إلّا كفّ الأذى.

تصفّح التّاريخ كما شئت، بُني، وكيفما شئت، وقم بإلقاء اللّوم على من شئت: على الأرض أو على أبنائها هذا شأنك.

على أن ما يمكنني إخبارك به، أيضًا، أنّ هذه الأرض برغم فقرها لم تغيّر عاداتها، وكما هي ما زالت باذخة الحضور، مرفوعة الرأس لم تحْنِهِ، ومع كلّ طائرةٍ تمرُّ وكلّ خيانةٍ تصلّها أخبارها تُرسِلُ صوتها، مع الرّيح، إلى الرّوح:

قد يدرككم الموت، لا بأس، فقط ارفعوا رؤوسكم وأنتم ذاهبون إلى القيامة.

وهذه الأرض قد يشتدّ بها الفقر وقد يدركها الموت، يا عزيزي، لكنّها لن تبيع ذاتها للرّياض أو اسطنبول أو الدوحة، ولن تسمع صوتها أيضًا في قناة الحدث.

لأنّ الحرّة قد تموت يا بُني، لكنّها- قط- لا تأكُلُ بثدييها.