صمود وانتصار

من هو زيد بن علي ..!؟ كيف عاش وقُتل

الشهيد زيد بن عليّ بن الحسين بن عليه السّلام

ولادته
وُلد زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام بالمدينة بعد طلوع الفجر سنة ست وستين أو سبع وستين من الهجرة (1). وأمه أم ولد من السِّند، وهي أم إخوته عمر الأشرف وعليّ وخديجة (2)، اشتراها المختار بن عبيد الثقفي أيّام ظهوره بالكوفة بثلاثين الفاً وبعث بها إلى الإمام زين العابدين عليه السّلام:
يقول عمر الجعفري: كنت أدمن الحج فأمرّ على عليّ بن الحسين عليه السّلام فأسلّم عليه، وفي بعض حججي غدا علينا عليّ بن الحسين عليه السّلام ووجهه مشرق فقال: جاءني رسول الله صلّى الله عليه وآله في ليلتي هذه حتّى أخذ بيدي وأدخلني الجنة وزوّجني حوراءَ، فواقعتها، فعَلقَت؛ فصاح بي رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا عليّ بن الحسين، سمِّ المولود منها زيداً. فما قمنا من مجلس عليّ بن الحسين عليه السّلام ذلك اليوم وعليّ يقصّ الرؤيا؛ حتّى أرسل المختار بن أبي عبيد بأمّ زيد هدية إلى عليّ بن الحسين عليه السّلام اشتراها بثلاثين الفاً؛ فلما رأينا إشفاقه بها تفرّقنا من المجلس؛ ولما كان من قابل حججت ومررت على عليّ بن الحسين عليه السّلام لأسلّم عليه، فأخرج زيداً على كتفه الأيسر وله ثلاثة أشهر وهو يتلو هذه الآية ويؤمئ بيده إلى زيد: هذا تأويلُ رؤيايَ مِن قَبلُ قد جعلَها ربّي حقاً (3).
ويشهد لما تضمّنته هذه الرواية من قصة الرؤيا رواية أبي حمزة الثمالي المرويّة في مجالس الصدوق مسنداً إليه، وفي ( فرحة الغري ) للسيد ابن طاوس بحذف الاسناد.

* * *

اسم أمه
ينصّ الحديث المروي في « الفرحة » بأنه حوراء، ويعرفنا النسّابة أبو الحسن العمري في « المُجدي » بأنه غزالة، وجاء في « غاية الاختصار » (4) بأنه جيداء وفي « سر السلسلة العلوية » و « الحدايق الوردية » جيد. ونحن إذا قرأنا ما يحدّث به المبرد في الكامل (5) من أن العرب تسمّي الأَمّة حوراء وجيداء ولطيفة، أمكننا موافقة المجدي فقط، لكون هذه الألفاظ إنّما يُشار بها إلى خصوص صنف الإماء وليست للميزة بين أفراد ذلك الصنف.

* * *

أوّل مَن سمّاه زيداً
لا يجازف من يرتئي صدور التسمية منه سبحانه وتعالى وَحياً على لسان الأمين جبرئيل، أعلَمَ بها النبيّ صلّى الله عليه وآله حينما حدّثه بما يجري على مهجته وفلذّة كبده ( صليب الكناسة ) من الحوادث الغريبة والغريبة جداً، بعد ما يقرأ في حديث أبي ذر الغفاري وقد دخل على النبي صلّى الله عليه وآله فرآه يبكي فرقّ له وسأله عما أبكاه، فأخبره بأنّ جبرئيل عليه السّلام هبط عليه وأخبره أن ولده الحسين عليه السّلام يُولَد له ابن يُسمّى علياً ويُعرف في السماء زين العابدين، ويولد له ابن يسمى زيداً يُقتل شَهيداً.
وفي حديث عليّ عليه السّلام: أخبرني رسول الله صلّى الله عليه وآله بقتل الحسين عليه السّلام وصلب ابنه زيد بن عليّ عليه السّلام. قلت له: أترضى يا رسول الله يقتل ولدك ؟ قال: يا علي، أرضى بحكم اللهِ فيَّ وفي ولدي، ولي دعوتان: أمّا الاولى فاليوم، والثانية إذا عُرضوا على الله عزّوجلّ، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: يا عليّ، أَمِّن على دعائي: اللهمّ أحصِهم عدداً، واقتُلهم بَدداً، وسلِّط بعضَهم على بعض، وامنَعهم الشرب من حَوضي ومُرافقتي؛ ثمّ قال: أتاني جبرئيل وأنا أدعو عليهم وأنت تؤمِّن فقال: لقد أُجيبتْ دعوتُكما (6).
وحديث حذيفة بن اليمان: نظر النبيّ إلى زيد بن حارثة فقال: المظلوم من أهل بيتي سَمِيّ هذا، والمقتول في الله والمصلوب سَميّ هذا. وأشار إلى زيد بن حارثة؛ ثمّ قال: ادنُ منّي يا زيد، زادك الله حبّاً عندي، فأنت سَميّ الحبيب من ولدي (7).
وهذان الحديثان وان لم تكن فيهما صراحة على المُدَّعى، غير أنّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وَحيٌّ يُوحى، فيجب أن يكون كلّما يلفظه من قولٍ عن وحيٍ أو الهام، ولا سيما حديث أبي ذر، فإنّه ينصّ على أنّ التسمية كانت معروفة في الملأ الأعلى، وقد أنهاها جبرئيل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله بالوحي، فما يذهب بالمزاعم إلى أن التسمية كانت متأخّرة إلى حين ولادته تشبّثاً بما رواه ابن ادريس الحلّي في « مستطرفات السرائر » أجنبيّ عن القصد، وهو على ما ذكرناه أدلّ.
قال ابن ادريس: روى ابن قولوية عن بعض أصحابنا، قال: كنت عند عليّ بن الحسين عليه السّلام، وكان إذا صلّى الفجر لم يتكلّم حتّى تطلع الشمس، فجاءه يومَ وُلد فيه زيد فبشّروه به بعد صلاة الفجر فالتفت إلى اصحابه فقال: أيّ شيء ترون أن أُسمّي هذا المولود ؟ فقال كلّ رجل سمِّه كذا، فقال: يا غلام عَليَّ بالمصحف، فجاءوا بالمصحف فوضعه في حِجره ثمّ فتحه فنظر إلى أول حرف في الورقة، فإذا فيه وفَضّل اللهُ المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما ثمّ فتحه ثانيا فنظر، فإذا أول الورقة إن الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والانجيل والقرآن ومَن أوفى بعَهده من الله فاستَبشِروا ببيعكمُ الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ثمّ قال: هو والله زيد، هو والله زيد، فسُمّي زيداً.
هذا نصّ الخبر، ونحن إذا قرأناه بتأمّل نعرف أجنبيّته عن كَون السجاد عليه السّلام هو المخترع للاسم، وإنّما نعرف أنّه مُتلقَّى عن آبائه الهداة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله المُوحى إليه على لسان الأمين جبرئيل؛ وممّا يكشف لنا عن ذلك اعتماده عليه السّلام في التسمية على الآيتَين الواردتين في فضل المجاهد، وعدم ارتباطهما بالتسمية لا يختلف فيه اثنان، ولكن الوجه بالتسمية بعد قراءتهما ليس إلاّ ما هو معلوم لديه عن آبائه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، بأنّه يُولَد له ولد يسمّى زيداً ويُقتَل شهيداً في الجهاد، فبهذه المناسبة سمّاه زيدًا عند قراءتهما، ويشهد له مجيئه بضمير الغائب حيث يقول « هو والله زيد، هو والله زيد »، فإنّه يريد أنّ ذلك المولود الذي سمّاه النبي صلّى الله عليه وآله زيداً ويُقتل شهيداً في الجهاد هو هذا.

* * *

لقبه
يلقّب زيد الأزياد (8)، إشارة إلى أنه المقدَّم على كلّ من سُمّي بهذا الاسم من جهة أعماله الصالحة وغاياته الشريفة التي استحق بها المدح والإطراء من الأئمة الهداة عليهم السّلام بخلاف غيره ممن سُمّي بهذا الاسم، وبالأخصّ من كان من أهل هذا البيت ممن لم يحمل لنا التاريخ من أعماله الحسنة ما يستوجب به المدح من الأئمّة عليهم السّلام: كزيد بن الحسن السبط عليه السّلام وزيد بن موسى بن جعفر عليه السّلام وهو زيد النار. نعم أقرأتنا جوامع الاحاديث خصومة الاول مع الإمام الباقر عليه السّلام في أمر الإمامة وشهادة السكينة التي بيده والصخرة التي كانت واقفاً عليها والشجرة التي هي قريبة منهما بأن الباقر عليه السّلام أحق بالأمر منه (9). ويقول الرضا عليه السّلام في حق الثاني عند ما قال له المأمون: يا أبا الحسن لان خرج أخوك وفعل ما فعل فلقد خرج قبله زيد بن عليّ عليه السّلام فقتل ولولا مكانك مني لقتلته فليس ما أتاه بصغير: « لا تقس يا أمير المؤمنين أخي زيداً بزيد بن عليّ عليه السّلام، فإنّه كان علمآء آل محمّد صلّى الله عليه وآله فغضب لله عزّوجلّ فجاهد أعداءه » (10).

* * *

كنيته
كانت كنيته المعروف بها أبا الحسين أحد أولاده، وهو ذو الدمعة؛ وعلى هذا مشهور المؤرخين وأرباب السير والتراجم (11).

* * *

صفاته
كان تامّ الخلق، طويل القامة، جميل المنظر، أبيض اللون، وسيم الوجه؛ واسع العينَين؛ مقرون الحاجبيَن، كَثّ اللحية، عريض الصدر، (12) بعيدَ ما بين المنكبين، دقيق المسربة، واسع الجبهة، (13) أقنى الأنف، أسود الرأس واللحية إلا أن الشيب خالط عارضَيه (14). وكان الوابشي يقول: إذا رأيت زيد بن عليّ رأيت أسارير النور في وجهه (15).

* * *

نقش خاتمه
في الخطط المقريزية ج 4 ص 307 وكان نقش خاتمه ( اصبر تُؤجَر، اصدق تَنْجُ )، ورواه أبو الفرج في المقاتل بإبدال « أصدق » بـ « تَوَقَّ ».

* * *

نشأته
نشأ في حجر أبيه السجاد عليه السّلام وتخرّج عليه وعلى الإمامين الباقر والصادق عليهما السّلام، ومنهم أخذ لطائف المعارف وأسرار الاحكام، فافحم العلماء واكابر المناظرين من سائر الملل والأديان. ولا بِدْع ممّن تخرّج من مدرسة محمودة ومناظرات مشهودة.
وكان عنده ما تحمّله آباؤه الهداة من سرعة الجواب والوضوح في البيان، ممزوجاً ببراعة في الخطاب؛ فبلغ من ذلك كلّه مقاماً لم يترك لأحدٍ مُلتحَداً عن الاذعان له وبالنبوغ، حتّى أنك تجد المتنكبين عن خطّة آبائه عليهم السّلام لم تدع لهم الحقيقة من ندحة عن الاعتراف بفضله الظاهر: فهذا أبو حنيفة يقول: ( شاهدت زيد بن عليّ كما شاهدت أهله، فما رأيت في زمانه أفقَه منه ولا أسرع جواباً ولا أبيَن قولاً ) (16). وينفى الشبعيّ أن تلد النساء مثل زيد في الفقه والعلم (17). وأما الحافظ ابن شبّة وابن حَجَر الهيثمي (18) والذهبي (19) وابن تيمية (20)، فكلماتهم تشهد بأنّه من أكابر العلماء وأفاضل أهل البيت في العلم والفقه.
ومن عثرنا على كلامه من أصحابنا الإمامية كأبي إسحاق السبيعي والأعمش (21) والشيخ المفيد (22) وميرزا عبدالله المعروف بالأفندي (23) وأبو الحسن العمري النسّابة (24) والسيّد عليّ خان (25) والحرّ العاملي (26) والمحدث النوري (27)، وجدناه مصرّحاً بفضله في العلم وتبصُّره بالمناظرات، وكان عمر بن موسى الوجهي يقول: رأيت زيد بن عليّ فما رأيت أحداً يفضله في معرفة الناسخ والمنسوخ والمتشابه من الكتاب المجيد (28). وفي حديث أبي خالد الواسطيّ: صحبت زيداً بالمدينة خمس سنين، كلّ سنة أقيم شهراً وقت الحج ولم أفارقه حتّى أقدم الكوفة، فما رأيت مثله في العلم، فلذا اخترتُ صُحبته (29).
ويشهد لذلك كلّه حديث أبي غسان الازدي قال: قدم زيد بن عليّ الشام أيّام هشام بن عبدالملك؛ فما رأيت رجلاً أعلم بكتاب الله منه؛ ولقد حبسه هشام خمسة أشهر وهو يقص علينا ـ ونحن معه في الحبس ـ تفسير سورة الحمد وسورة البقرة هذّ ذلك هذّاً (30). وذكر الكتاب فقال: « واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن القرآن والعمل به يهدي للتي هي أقوم؛ لأن الله شرّفه وكرّمه ورفعه وعظّمه وسمّاه روحاً ورحمة وشفاء وهدىً ونوراً؛ وقطع منه بمعجز التأليف أطماع الكائدين، وأبانه بعجيب النظم عن حِيَل المتكلفين؛ وجعله متلوّاً ومسموعاً لا تمجّه الآذان؛ وغضّاً لا يَخلُق من كثرة الرّد، وعجيباً لا تنقضي عجائبه، ومفيداً لا تنفد فوائده. والقرآن على أربعة أوجُه: حلال وحرام لا يسع الناس جهله؛ وتفسير لا يعلمه الاّ العلماء؛ وعربيّة تعرفها العرب؛ وتأويل لا يعلمه إلاّ الله؛ وهو ما يكون ممّا لم يكن. واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن للقرآن ظهراً وبطناً وحدّاً ومطلقاً، فظهره تنزيله، وبطنه تأويله، وحدّه فرائضه وأحكامه، ومطلقه ثوابه وعقابه.
وحدّث أبو خالد الواسطي وأبو حمزة الثمالي فقالا: حبرنا (31) رسالة في الردّ على الناس، ثمّ خرجنا إلى المدينة فدخلنا على محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام فقلنا: جُعلنا فداك، إنّا حبرنا رسالة ردّاً على الناس، فقال: اقرأوها، فقرأناها، قال: لقد أجدتُم واجتهدتم، أفهل أقرأتموها زيداً ؟ قلنا: لا. قال: اقرأوها عليه وانظروا ما يردّ عليكم. فدخلنا على زيد قلنا: جُعلنا فِداك، رسالة حبرناها في الردّ على الناس جئناك بها. قال: اقرأوها، فقرأناها عليه حتّى إذا فرغنا منها قال: يا أبا حمزة وأنت يا أبا خالد، لقد اجتهدتم، ولكنها تكسر عليكم، وما زال يردّها حتّى فرغ من آخرها حرفاً حرفاً، فوالله ما ندري من أيّ شيء نتعجّب: من حفظه لها أو من كسرها، ثمّ أعطانا جُملة من الكلام نعرف به الرد على الناس. قالا: فرجعنا إلى محمّد بن عليّ عليه السّلام فأخبرناه ما كان من زيد، قال: يا أبا خالد وأنت يا أبا حمزة، إنّ أبي دعا زيداً فاستقرأه القرآن فقرأ، وسأله عن المعضلات فأجاب، ثمّ دعا له وقَبّل ما بين عينيه. ثمّ قال: يا أبا خالد وأنت يا أبا حمزة، إنّ زيداً أُعطي من العِلم مثل ما علينا بسطه.
ومِن أمر الباقر عليه السّلام بعرض الرسالة على زيد نعرف مقدار مكانته عنده وعِظم خطره لديه، وأنّه ممّن يستحق اظهار الفضل لِما أُوتي من العلم الذي تحمّله آباؤه المعصومون عليهم السّلام، وإلاّ لم يَخْفَ على الباقر عليه السّلام ما ظهر لزيد من وجوه الإشكال في الرسالة والخلل في الطعن على اولئك الناس؛ فكان عليه أن يعرّفهما النقص في ذلك التركيب، ويُرشدهما إلى الحجّة اللازمة لنقض الخصم ودفع شُبهته؛ لكن لما عرف من أخيه زيد وفاءه بما عنده من النقض وصلوحه لتلك المهمة، أراد اظهار فضله أمام شيعته ليجب عليهم القيام بحقّه وتنزيله منزلته.
وحدثّ خالد بن صفوان قال: أتينا زيد بن عليّ عليه السّلام وهو يومئذ بالرصافة، (32) فدخلنا عليه في نفر من أهل الشام وعلمائهم، وجاءوا برجل قد انقاد له أهل الشام في البلاغة والنظر في الحجج، وكلّمْنا زيد بن عليّ عليه السّلام في الجماعة وقلنا: إن الله مع الجماعة، وإنّ أهل الجماعة حُجّة الله على خلقه، وإنّ أهل القِلّة هم أهل البدع والضلالة. ثمّ انّه حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وآله، وتكلّم بكلام ما سمعتُ قرشياً ولا عربياً أبلغَ موعظةً ولا أظهر حُجّةً ولا أفصح لهجة منه، ثمّ أخرج كتاباً قاله في الجماعة والقِلة ذكر فيه مِن كتاب الله ما يذمّ الكثير ويمدح القلّة، وأنّ القليل في الطاعة هم أهل الجماعة، والكثير في المعصية هم أهل البدع، فأُفحم الشاميُّ فما أمرّ ولا أحلى، وانخذل الشاميون فما أجابوا بقليل ولا كثير، وخرجوا من عنده صاغرين منكِّسين رؤوسهم حياء وخجلاً، وأقبلوا على صاحبهم يعذلونه ويقولون: زعمتَ أنّك لا تدع له حُجّةً إلاّ رددتَها وكسرتها، حتّى إذا تكلّم خرست، فما تنطق بقليل ولا بكثير، فقال: وَيلَكم، كيف أكلّم رجلاً حاججني بكتاب الله، أفأستطيع أن أردّ كلام الله تعالى ؟! فكان خالد بن صفوان يقول بعد ذلك: ما رأيت رجلاً في الدنيا قرشياً ولا عربيّاً يزيد في العقل والحجج على زيد بن علي عليه السّلام (33).

* * *

مؤلفاته
إنّ صريح هاشم زيد بن عليّ عليه السّلام لولا علمه الجمّ وأدبه الكاثر لم يُؤثَر عنه من الكتب والتآليف ما أُثر، ولم يدوّن له غيره من علومه ورواياته ما دُوّن، غير أن تعاقب الاجيال وبُعد العهد وتفرّق الكتب وضياعها تركتنا في منتزح عن عرفانها أو الاحاطة بها جمعآء واحصاء ما صحّت روايته وما لم تصحّ، على أنّا نذكر هاهنا ما أوقفنا عليه البحث ممّا وجدنا الإشارة إليه في كتب علمائنا، أو وجدناه منسوباً إليه عند علماء الزيدية على علاّته. وإلَيك البيان:
1 ـ المجموع الفقهي ـ طُبع بمصر سنة 1340 هـ في مجلد تبلغ صحائفه 192 برواية أبي خالد الواسطي، وتأليف عبدالعزيز بن إسحاق البغدادي المولود في سنة 272 والمتوفى في سنة 343.
2 ـ المجموع الحديثي ـ مختصّ بالحديث فقط، تأليف عبدالعزيز ورواية أبي خالد الواسطي، ولم نعثر على طبعه.
3 ـ تفسير غريب القرآن ـ في الروض النضير ج 1 ص 65 رواه عن زيد عطاء بن السايب، وروى عنه قطعة في التفسير عبدالله بن العلي.
4 ـ إثبات الوصية ـ في الروض النضير رواها عنه خالد بن محمد، وفي مقدمة المجموع الفقهي المطبوع بمصر سنة 1340 هـ له تثبيت الإمامة، ويحتمل اتحادها مع اثبات الوصية.
5 ـ قراءته الخاصّة جمعها إمام النحاة أبو حيّان في كتاب سمّاه ( النيّر الجليّ في قراءة زيد بن عليّ )، قال في الروض النضير ج 1 ص 54: روى صاحب الكشاف كثيراً من قراءة زيد.
6 ـ قراءة جدّه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ـ رواها عنه عمر بن موسى الوجهي كما في فهرست الشيخ الطوسي، ويحتمل اتحادها مع القراءة التي جمعها أبو حيان.
7 ـ كتاب مدح القلّة وذمّ الكثرة ـ رواه خالد بن صفوان، ذكره في الروض النضير ج 1 ص 65.
8 ـ منسك الحج ـ طبعه العلامة المتتبع الأستاذ الأكبر السيّد محمّد عليّ هبة الدين الشهرستاني بمطبعة الفرات ببغداد سنة 1342 هـ، بلغت صحائفه 14 مع مقدمة له تبلغ عشر صحائف.

* * *

مدرسته وتلاميذه
يظهر لكل من نظر في جوامع الاحاديث (34) مقاصد زيد السامية وغاياته الشريفة، في نشر ما تحمّله عن آبائه الهداة من الفضائل والمواعظ والاحكام، فإنّه لا يريد بكل ذلك إلاّ إلقاء التعاليم الدينية والأخلاقية، واصلاح أمّة جدّه صلّى الله عليه وآله بتهذيب اخلاقها وارشادها إلى نهج الحق واستضاءتها بنور ذلك الدين الحنيف. ومن هنا كان مصدراً لجمع كبير من حملة الآثار وعليه مُعوّلهم، لما عرفوا منه غزارة في العلم ونزاهة في التحمل والنشر. وإليك أسماء من أخذ عنه:
ابنه يحيى ومحمد بن مسلم ومحمد بن بُكير وعبيدالله بن صالح وهاشم بن البريد وأبو جعفر بن أبي زياد الأحمر وأبو الجارود زياد بن المنذر وكثير بن طارق وعمر بن موسى بن الوجهي وعبيدالله بن أبي العلاء ورزين بياع الأنماط وأبان بن عثمان الأجلح والفضيل وعمر بن خالد (35)، والزهري والاعمش وسعيد بن خثيم وإسماعيل السدي وزبيد اليامي وزكريا بن زائدة وعبدالرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة وابن أبي الزناد (36) وشعبة (37). وفي التحفة الاثنى عشرية (38) لعبدالعزيز الدهلوي أن أبا حنيفة أخذ العلم والطريقة من الإمام الباقر ومن الصادق عليهما السّلام ومن عمه زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السّلام. وفي الروض النضير (39): تتلمذ أبو حنيفة على زيد مدة سنتَين، ولم يمنعه من التجاهر بذلك إلاّ سلطان بني أمية. وكان سلمة بن كهيل ويزيد بن أبي زياد وهارون بن سعيد وأبو هاشم الرماني وحجّاج بن دينار في عدد كثير من فقهاء الكوفة يأتون إلى زيد ويأخذون منه العلم والفقه، وكانوا على رأيه، وتروي الزيدية أن جماعة كثيرة روت الحديث عن زيد، ذكْر أسمائهم في الروض النضير ج 1 ص 62.
وعن تهذيب الكمال للحافظ المزي أنّ آدم بن عبدالله الخثعمي وإسحاق بن سالم وبسّام الصيرفي وراشد بن سعد الصائغ وزياد بن علاقة وعبدالله بن عمرو بن معاوية حملوا الحديث عن زيد.

* * *

زهده وعبادته
قال أبو الجارود: قدمت المدينة فجعلت كلما أسأل عن زيد قيل لي: ذاك حليف القرآن، ذاك أسطوانة المسجد، من كثرة صلاته (40). ويقول أبو حنيفة حينما يُسئل عنه: هو حليف القرآن منقطع القرين (41). وفي كلام الفخري والذهبي والشبلنجي وأحمد بن حميد (42) أنّه من أكابر الصلحاء وأعاظم أهل البيت عبادة وزهداً وورعاً وديناً وخضوعاً. ويشهد لذلك ما يرويه الحافظ عليّ بن محمد بن عليّ الخزاز الرازي في ( كفاية الأثر ) عن عمير بن المتوكل بن هارون البلخي، عن أبيه، عن يحيى بن زيد، وفيه قول يحيى للمتوكّل: يا عبدالله، إنّي أخبرك عن أبي وزهده وعبادته، إنّه كان يصلّي الفريضة، ثمّ يصلّي ما شاء الله، ثمّ يقوم على قدمَيه يدعو الله إلى الفجر يتضرّع له ويبكي بدموعٍ جارية حتّى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر قام وصلّى الفريضة، ثمّ جلس للتعقيب إلى أن يتعالى النهار؛ ثمّ يقوم في حاجته ساعة، فإذا كان قرب الزوال قعد في مصلاّه سبّح الله ومجّده إلى وقت الصلاة، وقام فصلّى الاولى وجلس هنيئة، وصلّى العصر وقعد في تعقيبه ساعة ثمّ سجد سجدة، فإذا غابت الشمس صلّى المغرب والعتمة: قلت: كان يصوم دهره ؟ قال: لا، ولكنه يصوم في السنة ثلاثة أشهر، وفي الشهر ثلاثة أيّام. قلت: وكان يُفتي الناس ؟ قال: ما أذكر ذلك عنه.

* * *

أدعيته
روى الحافظ ابن عساكر بترجمة زيد من تاريخ الشام ج 6 ص 18 عن عبيد بن محمد بن علي، قال: كان من دعاء زيد بن عليّ عليه السّلام قوله:
اللهمّ إنّي أسألك سلوّاً عن الدنيا وبُغضاً لها ولأهلها؛ فإنّ خيرها زهيد؛ وشرّها عتيد؛ وجمعها ينفد؛ وصفوها يرنق؛ وجديدها وخيرها ينكد؛ وما فات منها حسرة؛ وما أُصيب منها فتنة؛ إلا من نالتْه منك عِصمة. أسألك اللهمّ العصمة منها؛ ولا تجعلنا كمن رضي بها واطمأنّ إليها؛ فإنّ مَن أمنها خانته، ومن اطمأنّ إليها فجعَتْه.
أعوذ بك اللهمّ مِن مثل عمله؛ ومثل مصيره؛ ثم قال: كم لي من ذنب وسرف بعد سرف، قد ستره ربّي وما كشف؛ أجل أجل ستر ربي العَورة، وأقال العثرة، حتّى أكثرتُ فيه من الإساءة وأكثر ربّي فيها من المعافاة؛ إني لأستحي من عظمته أن أفضي إليه بما أستخفي به من عبدٍ له؛ وبما أنه ليفضح من هو خيرٌ مني فيما هو أدنى منه، ثمّ ما كشف ربّي لي فيه ستراً، ولا سلّط علي فيه عدواً، فكم له في ذلك من يدٍ ويد ما أنا إن نسيتها بذكور، وما إن كفرتها بشكور، وما ندمت عليها إذا لم أُعتبك منها. ربِّ لك العُتبى بما تحب وترضى، فهذه يدي وناصيتي، مقرّ بذنبي معترف بخطيئتي، إن أُنكرها أُكذَّب، وإن اعترف بها أُعذَّب، إن لم يَعفُ الربّ، ويغفر الذنب، فإن يغفر فتكرّماً؛ وإنّ الله ليس بظلاّم للعبيد، فهو المستعان لا يزال يُعين ضعيفاً؛ ويُغيث مستغيثاً؛ ويُجيب داعياً؛ ويكشف كرباً؛ ويقضي حاجة ذي الحاجة في كلّ يوم وليلة؛ أجل أجل أنت كذاك وخيرٌ من ذاك.

* * *

أدبه
من ذلك نعرف أنّه سالك في كل آنائه طريقة آبائه أمناء الحق عليهم السّلام من الذِّكر والابتهال والصلاة؛ وأنّ الغاية المتوخّاة له ليست إلا الخضوع لله سبحانه كما عليه الأولياء المتضرّعون والأبرار المتبتّلون؛ الذين اتخذوا الذكر والبكاء سميرًا لهم عند الوحشة والفراغ من واجب أمر المعاش. ومن هنا لا نعدّه في الشعراء الذين قضوا أوقاتهم في الشعر وأطواره، كيف والشعر يستدعي حالاً غير ذلك الحال. نعم قد يجري على لسانه البيَان والثلاثة وما هو إلاّ من عفو البديهة وفواضل التفكير، ومن هذا قوله في رثاء الباقر عليه السّلام (43):
ثـوى باقر العلم في مَلحدٍ إمـامُ الورى طيّب المولدِ
فمَن لي سوى جعفر بعده إمامِ الورى الأوحدِ الأمجدِ
أبا جعفر الخير أنت الإمام وأنت المُرَّجى لبلوى غدِ

وله وقد مر بجماعة من قريش سمعهم يفضّلون قوماً على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فبعث بها إليهم (44):
ومَـن فـضل الأقـوامَ يوماً برأيه فــإنّ عـليّاً فـضّلته الـمناقبُ
وقـولُ رسـول الله والـقولُ قوله وإن رغـمتْ منه الأُنوف الكواذبُ
دعـاه بـبدرٍ فـاستجابَ لأمـره كهارونَ من موسى أخٌ لي وصاحبُ
فـما زال يـعلوهم بـه وكـأنّهم شـهـاب تـلقّاه الـقوانس ثـاقبُ

ووقف بمقابر النباج عند ذهابه إلى الحجّ فقال (45):
لـكلّ أنـاسٍ مـقبر بـفِنائهم فـهم يـنقصون والقبور تزيدُ
فما أن تزال دار حيٍّ قد أخربت وقـبر بأفناء البيوت جديدُ (46)
هـمُ جيرة الأحياء أمّا مزارهم فـدانٍ، وأمّـا الـملتقى فبعيدُ

قال ابن عساكر في تاريخ الشام (47): لما خرج زيد بن عليّ من مجلس هشام وقد دار الكلام بينهما في أمر الخلافة أنشأ يقول:
مـهلا بني عمنا عن نحت أثلتنا سـيروا رُوَيداً كما كنتم تسيرونا
لا تـطمعوا أن تُهينونا ونُكرمكم وأن نـكفّ الأذى عنكم وتُؤذونا
اللهُ يـعـلم أنّــا لا نـحـبّكمُ ولا نـلـومـكمُ ألاّ تُـحـبّونا
كلّ امرءٍ مولع في بُغض صاحبه فـنـحمد الله نَـقلُوكم وتـقلونا

وفي الحدايق الوردية كان من انشاء زيد قوله مخاطباً ابنه يحيى:
أُبـنيّ إمّـا أهـلكنّ فـلا تكنْ دنِـسَ الفِعال مُبيَّض الأثوابِ
واحـذر مُـصاحبة اللئيم فإنّما شَـين الكريم فسولة الأصحابِ
ولـقد بلوتُ الناس ثم خَبَرتُهم وخبرت ما وصلوا من الأحبابِ
فـإذا القرابة لا تُقرّب صاحباً وإذا الـمودّة أقـرب الأنسابِ

وقوله في رثاء الباقر عليه السّلام:
يا موتُ أنت سلبتني إلفا قـدّمته وتـركتَني خَلْفا
واحـسرتا لا نلتقي أبداً حـتّى نقوم لربّنا صفّا

وقوله:
يـقولون زيـداً لا يزكّي بماله وكيف يزكّي المال مَن هو باذلُه
إذا حال حَولاً لم يكن في ديارنا مِـن المال إلاّ رسمُه وفضائلُه

وقوله:
السيف يعرف عزمي عند هبّته والرمح بي خبرٌ والله لي وزرُ
إنّـا لـنأمل مـا كانت أوائلنا مـن قبلُ تأمله إن ساعد القدرُ

* * *

خُطبه
كان زيد معروفاً بفصاحة المنطق وجزالة القول، والسرعة في الجواب وحسن المحاضرة، والوضوح في البيان والايجاز في تأدية المعاني على أبلغ وجه، وكان كلامه يشبه كلام جدّه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، بلاغةً وفصاحة (48)، فلا بِدعَ إِذاً إنْ عدّه الجاحظ (49) من خطباء بني هاشم، ووصفه أبو اسحاق السبيعي والأعمش بأنه أفصح أهل بيته لِساناً وأكثرهم بياناً (50). ويشهد له أن هشام بن عبدالملك لم يزل منذ دخل زيد الكوفة يبعث الكتاب أثر الكتاب إلى عامل العراق، يأمره بإخراج زيد من الكوفة ومنع الناس من حضور مجلسه، لأنّه الجذّاب للقلوب بعِلمه الجمّ وبيانه السهل، وأنّ له لساناً أقطع من السيف وأحدّ من شبا الأسنّة، وأبلغ من السحر والكهانة ومن النفث في العُقد (51). وجوابُه لهشام بن عبدالملك يوم قال له: « بلغني أنّك تذكر الخلافة وتتمّناها ولستَ هناك وأنتَ ابن أمَة » شاهد عدلٍ على تلك الدعوى التي لم تقع محل التشكيك؛ فلقد بان على هشام في ذلك المجلس المحتشد بوجوه أهل الشام؛ العجز والانقطاع؛ حدّث معمَّر بن خُثَيم عنه أنه يقول: كنت أماري هشاماً وأكايده الكلام ولم أترك له مخرجاً؛ دخلت عليه يوماً فذكر بني أمية وافتخر بهم؛ فقال: كانوا أشد قريش أركاناً، وأعلاهم مكاناً وسلطاناً؛ وكانوا رؤوس قريش في جاهليتها ومُلوكها في اسلامها.
فقلت: على مَن تفتخر، على هاشم وهو أول من أطعم الطعام وضرب الهام وخضعت له قريش بإرغام، أم على عبدالمطلب سيّد مضر جميعاً ؟! وإن قلت معدّ كلّها صدقت، إذا ركب مشوا، وإذا انتعل احتفوا، وإذا تكلّم سكتوا، وهو مُطعم الوحش في رؤوس الجبال، والطير والسباع والإنس في السهل، حافر زمزم، وساقي الحجيج، وربيع العُمرتين، أم على بَنيه أشراف الرجال، أم على سيّد ولد آدم رسول الله صلّى الله عليه وآله المحمول على البُراق، أم على أمير المؤمنين وسيّد الوصيين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، أخي رسول الله صلّى الله عليه وآله وابن عمّه، والمفرّج عنه الكُرب، وأوّل من قال « لا إله إلا الله » بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، لم يُبارزه فارس قطّ إلاّ قتله، وقال فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله ما لم يقله في أحدٍ من أصحابه ولا لأحد من أهل بيته. فاحمرّ وجه هشام وبُهِتَ ولم يُحِرْ جواباً (52).
وإليك ما وجدناه من خطبه محفوظاً في الجوامع ليكون مثالاً لتلك الدعوى التي لم تقع محل التشكيك.
1. حدّث أبو الجارود قال: خطب زيد بن عليّ عليه السّلام أصحابه حين الخروج فقال: « الحمدلله الذي منّ علينا بالبصيرة، وجعل لنا قلوباً عاقلة وأسماعاً واعية، قد أفلح مَن جعل الخير شعاره والحقّ دِثاره، وصلّى الله على خير خلقه الذي جاء بالصدق من عند ربّه وصدّق به الصادق [محمّد]؛ وعلى آله الطاهرين من عترته وأُسرته، والمنتجبين من أهل بيته.
أيّها الناس، العَجَل العَجَل قبل حُلول الاجل، وانقطاع الأمل، فوراً.. كم طالب لا يفوته هارب إلاّ هرب منه إليه، ففِرّوا إلى الله بطاعته، واستجيروا بثوابه من عقابه، فقد أسمعكم وبصّركم ودعاكم إليه وأنذركم، وأنتم اليوم حجّة على مَن بعدكم، إن الله يقول: ليتفقّهوا في الدِّينِ وليُنذروا قومَهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يَحذرون . ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات أولئك لهم عذاب عظيم. عِبادَ الله، إنّا ندعوكم إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نُشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً مِن دون الله سبحانه وتعالى، إنّ الله دمّر قوماً اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
عباد الله، كأنّ الدنيا إذا انقطعت وتقضّت لم تكن، وكأنّ ما هو كائن قد نزل، وكأن ما هو زائل قد رحل، فسارعوا في الخيرات واكتسبوا المعروف تكونوا مِن الله بسبيل، فإنّ من سارع في الشر واكتسب المنكر ليس من الله في شيء.
أنا اليوم أتكلّم وتسمعون ولا تنصرون، وغداً بين أظهركم هامة فتندمون، ولكن الله ينصرني إذا ردّني إليه، فهو الحاكم بينا وبين قومنا بالحق، فمن سمع دعوتنا وأناب إلى سبيلنا وجاهد بنفسه نفسه ومَن يليه من أهل الباطل لادّعائهم الدنيا الزائلة الآفلة على الآخرة الباقية، فالله من أولئك بريء؛ وهو يحكم بيننا وبينهم. إذا لقيتم قوماً فادعوهم إلى أمركم؛ فإن يُستجبْ لكم برجلٍ واحد خيرٌ مما طلعت عليه الشمس من ذهب وفضة؛ وعليكم بسيرة أمير المؤمنين عليه السّلام بالبصرة؛ لا تتبعوا مُدبراً؛ ولا تُجهزوا على جريح؛ ولا تفتحوا باباً مغلقاً، والله على ما نقول وكيل.
عبادَ الله، لا تقاتلوا عدوكم على الشكّ فتضلّوا عن سبيل الله، ولكن البصيرة ثمّ القتال؛ فإنّ الله يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حقّ؛ إنّه مَن قتل نفساً يشكّ في ضلالتها كمن قتل نفساً بغير حق. عبادالله البصيرة ثمّ البصيرة.
قال أبو الجارود: قلت له: يا بن رسول الله، الرجل يبذل نفسه على غير بصيرة؛ قال: نعم، أكثر مَن ترى عشقت قلوبهم الدنيا والطمع أرداهم إلا القليل، والذين لا يحضرون الدنيا على قلوبهم ولا لها يسعون أولئك مني وأنا منهم.
2. وحدّث عمر بن صالح العجلي أنه سمع زيد بن عليّ يخطب أصحابه ويقول: « الحمد لله مُذعناً له بالاستكانة، مقرّاً له بالوحدانية؛ وأتوكّل عليه توكّل من لجأ غليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده المصطفى ورسوله المرتضى الأمين على وحيه؛ المأمون على خلقه، المؤدي إليهم ما استرعاه من حقه؛ حتّى قبضه صلّى الله عليه وآله.
أيّها الناس، أُوصيكم بتقوى الله، فإنّ الموصي بتقوى الله لم يدّخر نصيحة ولم يقصر عن إبلاغ عِظة؛ فاتّقوا الله في الأمر الذي لا يصل إلا إلى الله تعالى إن أطعتموه؛ ولا ينقص من ملكه شيء إن عصيتموه؛ ولا تستيعينوا بنعمته على معصيته؛ وأجملوا في طلب مباغي أموركم، وتفكّروا وانظروا (53).
3. وحدّث فرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره أنّ زيد بن عليّ عليه السّلام خطب الناس فقال: أيّها الناس، إنّ الله بعث في كلّ زمان خيرة، ومن كلّ خيرة منتجباً حبوةً منه؛ فإنّ الله أعلم حيث يجعل رسالته؛ ولم يزل الله يتناسخ خيرته حتّى أخرج محمّداً صلّى الله عليه وآله من أفضل بريّته وأطهر عترة أُخرجت للناس. فاتّقوا الله عبادَ الله وأجيبوا إلى الحق، وكونوا أعواناً لمن دعاكم إليه ولا تأخذوا سُنّة بني إسرائيل يكذّبون أنبياءهم وقتلوا أهل بيت نبيهم. ثمّ أنا أذكّركم أيها السامعون لدعوتنا، المتفهمون لمقالتنا، بالله العظيم الذي لم يُذكّر المذكِّرون بمثله؛ إذا ذكروه وَجِلت قلوبُهم؛ واقشعّرت جُلودُهم. ألستم تعلمون أنّا أهل بيت نبيّكم المظلومون المقهورون؛ فلا سهم وُفِّينا؛ ولا تراث أُعطينا؛ ينشأ ناشئُنا بالقهر؛ ويموت ميّتنا بالذلّ.
وَيْحكم، إنّ الله فرض عليكم جهاد أهل البَغي والعدوان؛ وفرض نُصرة أوليائه الداعين إليه وإلى كتابه؛ قال الله: ولينصرَنّ اللهُ مَن ينصرُه وإنّا قوم غضِبنا لله ربِّنا، ونقمنا الجور المعمول به في أهل ملّتنا، ووضعنا كلّ من توارث الخلافة؛ وحكم بالأهواء ونقض العهد؛ وصلّى الصلاة لغير وقتها، وأزال الأفياء والأخماس والغنائم؛ ومنعها الفقراء والمساكين وأبناء السبيل؛ وعطّل الحدود؛ وأخذ بها الجزيل من المال، وحكم بالرشا والشفاعات والمنازل، وقرّب الفاسقين، ومثّل بالصالحين، واستعمل الخونة؛ وخوّن أهل الامانات، وسلّط المجوس، وجهّز الجيوش، وقتل الوالدان، وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف، ويحكم بخلاف حكم الله، ويصدّ عن سبيل الله، وينتهك المحارم، فمن أشرّ عند الله منزلة ممّن افترى على الله كذباً، أو صدّ عن سبيله وبغى في الأرض ؟! ومَن أعظم عند الله منزلةً ممّن أطاعه، ودان بأمره وجاهد في سبيله ؟! ومَن أحسن قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ؟! أولئك يدخلون الجنة، فمن سألَنا عن دعوتنا هذه فإنّا ندعو إلى الله وإلى كتابه وايثاره على ما سواه، وأن نصلّي الصلاة لوقتها، ونأخذ الزكاة لوجهها، وندفعها إلى أهلها، وننسك المناسك بهديها، ونضع الفيء والأخماس في مواضعها، ونجاهد المشركين بعد أن ندعوهم إلى الحنيفية، وأن نجبر الكسير، ونفكّ الأسير، ونرِدُ على الفقير، ونضع النخوة والتجبّر والعدوان والكبر؛ وأن نرفق بالمعاهدين ولا نكلّفهم ما لا يطيقون. اللهمّ هذا ما ندعو إليه، ونعين ونستعين عليه، وإنا نُشهدك عليه أكبر الشاهدين، ونُشهد عليه جميع مَن أسكنته أرضك وسماواتك.
اللهمّ ومن أجاب إلى ذلك مِن مسلمٍ فأعظِم أجره وأحسن ذِكره، ومِن عاجلِ السوء وآجله فاحفَظْه وكُن له وليّاً وهادياً وناصراً. ونسألك اللهمّ من أعوانك وأنصارك على أحياء خلقك، عصابة تحبّهم ويحبونك ويجاهدون في سبيلك لا تأخذهم فيك لومة لائم. اللهمّ وأنا أوّل من أناب وأوّل من أجاب، فلبيّك يا ربّ وسعديك، فواجبوا إلى الحقّ وأجيبوا إليه أهلَه وكونوا أعواناً، فإنّما ندعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه (54).
الحِكم والآداب
وقف التاريخ على نُبذة يسيرة من حكمه ومواعظه التي تجري مجرى الامثال وتُعدّ من جوامع الكلم. فأوحاها الينا لنستفيد منها دروساً ضافية في الاخلاق وتهذيب النفوس وتطهير القلوب، فمن ذلك قوله: من لم يستحي فهو كافر. (55) وسُئل: الصمت خير أم الكلام، فقال: قبح المساكتة ما أفسدها للبيان، وأجلبها للعي والحصر. والله للمماراة أسرع في هدم الفتى من النار في يبس العرفج، ومن السيل إلى الحدور. (56) وكان إذا كلّمه انسان وخاف أن يهجم على أمر يخاف منه مأئماً، يقول له: يا عبدالله أمسِك أمسِك، كُفّ كفّ، إليك إليك، عليك بالنظر لنفسك، يكفّ عنه ولا يكلّمه. (57) وقال يوماً للزهري وقد قارف ذنباً فاستوحش منه وهرب على وجهه: قُنوطُك من رحمة الله التي وسعت كل شيء أشدّ عليك من ذنبك. (58) وقال: المروّة إنصاف مَن دونك، والسمع إلى مَن فوقك، والرضا بما أُوتي إليك من خيرٍ أو شرّ. وقال لابنه يحيى: إنّ الله لم يرضَك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فلم يوصني بك. يا بني خير الآباء مَن لا تدعه المودة إلى الافراط، وخير الأبناء من لم يدعه التقصير إلى العقوق. (59) وكان يقول: لقد خلوت بالقرآن اقرأه، فما وجدت في طلب الرزق رخصة، وجدت « ابتغوا من فضل الله » إلاّ العبادة والفقه. (60) وعزّاه بعض إخوانه في ولدٍ له تُوفّي، فكتب في الجواب: أمّا بعد، فإنّا أموات آباء أموات أبناء أموات، عجباً من ميّت يعزّي ميتاً عن ميّت، والسلام. وقال في وصيّته لابنه يحيى عند وفاته: يا بُني جاهد الكفار فإنّك لعلى الحقّ وإنّهم لعلى الباطل، وإنّ قتلاك لفي الجنّة وقتلاهم لفي النار. (61)

* * *

أحاديث المدح
كانت قضية زيد من القضايا التي أخذت نصيباً في الأهمية وما زالت تتردّد على لسان النبي صلّى الله عليه وآله فالأوصياء بعده، فالعترة من أبنائهم بصور مختلفة يلقونها إلى أصحابهم فيفيدونهم درساً بليغاً من عظمة صليب الكناسة وما له من المقام العالي في الفضيلة والمكانة من الشرف، وهي الآيات البيّنة تدحض قول كلّ أفّاك أثيم، وإليك ما وجدناه من الأحاديث محفوظاً في الجوامع في هذا الشأن.
1. الروض النضير ج 1 ص 58 عن المنهاج لمحمد بن المطهر، وجلاء الابصار للحاكم، والأمالي ليحيى بن الحسين الهاروني بسند يرفعونه إلى زاذان، يرفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: الشهيد من ذريّتي والقائم بالحق من ولدي المصلوب بكناسة كوفان، إمام المجاهدين وقائد الغرّ المحجّلين، يأتي يوم القيامة وأصحابه تتلقّاهم الملائكة المقرّبون، ينادونهم: ادخُلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
2. وعن المنهاج وهداية الراغبين وجلاء الأبصار، عن أنس بن مالك، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: يُقتل رجل من ولدي يقال له « زيد » بموضع يعرف بالكناسة، يدعو إلى الحقّ ويتبعه كلّ مؤمن.
3. كتاب الملاحم لابن طاوس في الباب 31، أنّ علياً عليه السّلام وقف في الموضع الذي صُلب فيه زيد بن عليّ بالكوفة، ومعه أصحابه فبكى وبكى أصحابه، فقالوا له: مالذي أبكاك ؟ قال: إنّ رجلاً من وُلدي يُصلب في هذا الموضع، من رضي أن ينظر إلى عورته أكبّه الله على وجهه في النار.
4. في الباب 59 منه، أن علياً عليه السّلام خطب بالكوفة وقال: سَلوني، في العشر الأواخر من شهر رمضان تفقدوني. ثمّ ذكر الحوادث بعده وعدّ منها قتل الحسين عليه السّلام وقتل زيد بن عليّ عليه السّلام، واحراقه وتذريته بالرياح وأنّه في الجنة.
5. أبو داود المدني قال: حدّث عليّ بن الحسين عن أبيه عن عليّ عليه السّلام قال: يخرج بظهر الكوفة رجل يقال له زيد، في أبّهة الملك لا يسبقه الأوّلون ولا يدركه الآخرون إلاّ مَن عمل بمثل عمله، يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامير أو شبه الطوامير حتّى يتخطَّوا أعناق الخلائق، تتلقّاهم الملائكة فيقولون: هؤلاء خلف الخلف ودُعاة الحق، ويستقبلهم رسول الله صلّى الله عليه وآله، فيقول: يا بنيّ قد عملتم ما أُمرتم به فادخُلوا الجنة بغير حساب.
6. مقاتل الطالبيين عن خالد مولى آل الزبير قال: كنّا عند عليّ بن الحسين عليه السّلام فدعا ابناً له يُقال له زيد، فكبا لوجهه فانشجّ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: أُعيذك بالله أن تكون زيداً المصلوب بالكناسة، مَن نظر إلى عورته متعمداً أصلى الله وجهه بالنار.
7. الروض النضير ج 1 ص 55 عن جابر الجعفي، قال سمعت أبا جعفر عليه السّلام وقد نظر إلى أخيه زيد بن عليّ فتلا هذه الآية والذين هاجروا وأُخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي وقاتلوا وقُتلوا الآية وقال: هذا والله مِن أهل ذلك، قال جابر: وسألت محمّد بن عليّ عليهما السّلام عن أخيه زيد، فقال: سألتني عن رجل مُلئ إيماناً وعِلماً من أطراف شعره إلى أقدامه، وهو سيّد أهل بيته.
8. عيون أخبار الرضا في الباب 25، ومقاتل الطالبيين عن جابر الجعفي عن الباقر عليه السّلام أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال للحسين عليه السّلام: يا حسين، يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يتخطّى هو وأصحابه رقاب الناس يدخلون الجنة بغير حساب. ورواه في كفاية الأثر عن محمد بن مسلم عنه عليه السّلام.
9. سرّ السلسلة العلوية، عن سدير الصيرفي قال: كنت عند أبي جعفر الباقر عليه السّلام فدخل زيد بن عليّ عليه السّلام، فضرب أبو جعفر عليه السّلام كتفه، وقال: هذا سيّد بني هاشم، إذا دعاكم فأجيبوه، وإذا استنصركم فانصروه.
10. مقاتل الطالبيين عن يونس بن خباب قال: جئت مع أبي جعفر عليه السّلام إلى الكتاب، فدعى زيداً وألزق بطنه، وقال: أعيذك بالله أن تكون صليب الكناسة.
11. رجال الكشي في ترجمة السيّد الحميري عن فضيل الرسان، قال: دخلت على أبي عبدالله عليه السّلام بعد ما قُتل زيد بن عليّ عليه السّلام فأُدخلت بيتاً في جوف بيت، وقال لي: يا فضيل، قُتل عمّي زيد بن عليّ عليه السّلام ؟ قلت: نعم جعلت فداك؛ فقال: رحمه الله، أما إنّه كان مؤمناً وكان عارفاً وكان عالماً وكان صدوقاً، أما إنّه لو ظفر لوفى، أما إنّه لو مَلَك لعرف كيف يضعها.
12. مجالس الصدوق 62 عن حمزة بن حمران، قال: دخلت على جعفر بن محمّد عليه السّلام، فقال: من أين أقبلت ؟ قلت: من الكوفة، فبكى حتّى بلت دموعه لحيته. قلت له: يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله، مالك أكثرت البكاء ؟! قال: ذكرت عمي زيداً وما صُنع به. قلت: وما الذي ذكرت منه ؟ قال: ذكرت مقتله وقد أصاب جبينه سهم، فجاء ابنه يحيى وانكب عليه، وقال: أبشر يا أبتاه فانك ترِد على رسول الله صلّى الله عليه وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، قال: أجل يا بني. ثمّ دعا بحداد فنزع السهم من جبينه فكانت نفسه معه، فجِيء به إلى ساقية تجري عند بستان [ زائدة ] فحفروا له فيها ودفن وأجرى عليه الماء، وكان معهم غلام سندي لبعضهم، فذهب إلى يوسف بن عمر من الغد، وأخبره بدفنهم إياه، فاخرجه يوسف بن عمر وصلبه بالكناسة أربع سنين، ثمّ أمر به فأُحرق بالنار، وذُرّي بالرياح. فلعن الله خاذله، وقاتله، وإلى الله أشكو ما نزل بأهل بيت نبيه صلّى الله عليه وآله بعد موته، ونستعين الله على عدونا وهو خير المستعان.
13. كشف الغمة، قال الصادق عليه السّلام لأبي ولاد الكاهلي: رأيت عمي زيداً ؟ قال: نعم رأيته مصلوباً، ورأيت الناس بين شامت ومحزون، فقال عليه السّلام: أمّا الباكي عليه فمعه في الجنة، وأمّا الشامت فشريك في دمه.
14. ثواب الأعمال للصدوق، عن محمّد الحلبي، أن أبا عبدالله عليه السّلام قال: قتل الحسينَ عليه السّلام آلُ أبي سفيان فنزع الله مُلكهم، وقتل هشامٌ زيداً بن عليّ عليه السّلام فنزع اللهُ ملكه، وقتل الوليدُ يحيى بن زيد فنزع الله ملكه.
15. رجال الكشي، عن عبدالرحمن بن سيابة قال: دفع إليّ الصادق عليه السّلام دنانير وأمرني أن أُقسّمها على عيالات من أُصيب مع عمه زيد، فقسّمتُها فأصاب عيالَ عبدالله بن الزبير الرسّان أربعة دنانير.
16. الكافي، عن سليمان بن خالد أنّ أبا عبدالله الصادق عليه السّلام قال له: كيف صنعتم بعمي زيد ؟ قال: إنّهم كانوا يحرسونه، فلمّا شفّ (62) الناس أخذنا خشبته ودفناه على الجرف من شاطئ الفرات، فلما أصبحوا جالت الخيل يطلبونه فوجدوه. قال عليه السّلام: أفلا أوقرتموه حديداً وألقيتموه في الفرات، صلّى الله عليه ولعن قاتله.
17. الاصابة لابن حجر، بترجمة حكيم بن عياش عن فوائد الكواكب، يرفعه إلى رجل جاء إلى الصادق جعفر عليه السّلام فقال له: سمعت حكيم بن عياش ينشد هجاءكم بالكوفة، فقال: هل علقت منه بشيء ؟ قال سمعته يقول:
صلبنا لكم زيدّا على جذع نخلة ولم نرَ مهديّاً على الجذع يُصلبُ
وقِـستُم بـعثمانٍ عـليّاً سفاهة وعـثمانُ خير من عليّ وأطيبُ

فرفع الصادق عليه السّلام يديه وهما يرعشان وقال: اللهمّ إن كان عبدك كاذباً فسلِّط عليه كلبَك. فبعثه بنو أميّة إلى الكوفة، فبينا هو يدور في سككها إذ افترسه الأسد، واتّصل خبره بجعفر عليه السّلام فخرّ ساجداً، ثمّ قال: الحمد الذي أنجزنا وعده.
ويظهر من غرر الخصائص لابراهيم المعروف بالوطواط ص 254 ومروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 182 أن البيتين من جملة أبيات.
18. عيون أخبار الرضا عليه السّلام عن محمد بن يزيد النحوي عن أبيه أنّ الإمام الرضا عليه السّلام قال في مجلس المأمون ( ضمن كلام له عن زيد الشهيد ): إنّ زيداً بن عليّ عليهم السّلام لم يدّعِ ما ليس له بحقّ، وإنّه كان أتقى لله من ذلك، إنّه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد، وإنّ ما جاء فيمن ادّعى الإمامة أنّ الله تعالى نصّ عليه ثمّ يدعو إلى غير دين الله ليُضلّ عن سبيله بغير عِلم، وكان زيد ـ واللهِ ـ ممّن خُوطب بهذه الآية وجاهِدوا في الله حقَّ جهادِه هو اجتباكم .

* * *

نظرة في الاحاديث
على ضوء هذه الأحاديث الكريمة نعرف من الحقيقة أنصعها ويتجلى من أعماق الاصداف لؤلؤها، وأنّ تلك الشخصية الشامخة على سبب وثيق من معادن الحق وذات كرامة قدسيّة تهبط من الملأ الأعلى، وأنّ الأئمة الهداة يتفألون من غرّة تلك النهضة الهاشمية أن يعود الحق إلى نصابه، وهي القوة التي تنحطم بها هيأكل الباطل وتعقد عليها الآمال، وهي التي أظهرت مظلوميّة الأئمّة، ومثّلت للملأ أحقيّتهم بالخلافة من غيرهم ذوي الأطماع وأرباب الشهوات، وانكشف لنا بكل وضوح امتثاله أمر الإمام في نقض دعائم الالحاد وتبديد جيش الظلم والباطل وتفريق جماهير الشرك وأحزاب الضلال وعبدة المطامع والاهواء، خصوصاً إذا قرأنا قول الباقر عليه السّلام: ويلٌ لمن سمع واعيته فلم يُجبه، وقول الصادق عليه السّلام: إذا دعاكم فأجيبوه وإذا استنصركم فانصروه، وقوله: أشركني الله في تلك الدماء، وقوله عندما سُئل عن مبايعته: بايعوه، وقوله: خرج على ما خرج عليه آباؤه، وقوله: برئ الله من تبرّأ من عمي زيد. فإن هذه الاحاديث تدلّنا على أنه لم يقصد إلا اصلاح امة جده صلّى الله عليه وآله ولم يدْعُ إلا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.

* * *

البراءة من دعوى الإمامة
من الجليّ الواضع بُطلان نسبة دعوى الإمامة لتلك النفس المقدسة والذات الطاهرة، وكيف نستطيع أن ننسب له ذلك ونحن نقرأ جوابه لولده يحيى حينما سأله عن الأئمّة الذين يلون الخلافة وعليهم النصّ من النبيّ صلّى الله عليه وآله، فإن فيه صراحة بالبراءة من دعوى الإمامة، واعتراف باستحقاق الاثنى عشر من أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله للخلافة. وهذا نص الحديث الذي يحدثنا عنه الحافظ عليّ بن محمد الخزاز الرازي القمّي في كفاية الاثر بإسناده إلى يحيى بن زيد قال: سألت أبي عن الأئمّة عليهم السّلام، فقال: الأئمّة اثنا عشر: أربعة من الماضين وثمانية من الباقين، قلت: فسمِّهم يا أبت، قال: أمّا الماضون فعليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وعليّ بن الحسين عليهم السّلام، وأمّا الباقون فأخي الباقر وابنه جعفر الصادق، وبعده موسى ابنه، وبعده عليّ ابنه، وبعده محمد ابنه، وبعده عليّ ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده المهدي: فقلت: يا أبت الستَ منهم ؟ قال: لا ولكن من العترة. قلت: فمن أين عرفت أسماءهم ؟ قال: عهدٌ معهود عهده رسول الله صلّى الله عليه وآله.
روى محمد بن بكير، قال: دخلت على زيد بن عليّ عليه السّلام، وعنده صالح بن بشير فسلّمت عليه، وهو يريد الخروج إلى العراق، قلت: يا بن رسول الله حدثني بشيء سمعته من أبيك، قال: نعم، إلى أن قال له: يا بن بكير، بنا عُرف الله وبنا عُبد الله ونحن السبيل إلى الله، ومنّا المصطفى والمرتضى، ومنّا يكون المهدي قائم هذه الأمّة. قلت: يا بن رسول الله صلّى الله عليه وآله، هل عهد إليكم رسول الله صلّى الله عليه وآله متّى يقوم قائمكم ؟ قال: يا بن بكير إنّك لن تلحقه، وإن الأمر يليه ستّة من الأوصياء بعد هذا ـ الصادق عليه السّلام ـ ثم يجعل خروج قائمنا فيملأها قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً، قلت: يا بن رسول الله، ألست صاحب هذا الأمر ؟ قال: أنا من العترة، فعدت فعاد إليّ، فقلت: هذا الذي تقوله، عنك أو عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟ قال: لو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير، ولكن عهدٌ عهده إلينا رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وحدّث أبو خالد الواسطي، عن زيد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين عليه السّلام عن أبيه الحسين بن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا حسين أنت الإمام، والتسعة من ولدك أمناء معصومون والتاسع مهديّهم، فطوبى لمن أحبهم والويل لمن أبغضهم.

* * *

الخلاصة
أمّا ما ذُكر من دعواه الإمامة لنفسه، عن جد وعقيدة، فما هو إلاّ أساطير لفّقها دعاة الباطل للحطّ من كرامة تلك الذات الطاهرة، بغضاً وعدواناً. وإن تكن تلك الدعوى، فانما الغرض منها استنقاذ الحقّ من أيدي المتغلّبين عليه ولاة الجور وأرباب الباطل وإعادته إلى أهله، كما يفصح عنه قول الصادق عليه السّلام: كان زيد عالماً وصدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه (63).
وهذا من أهم الوسائل إلى استحصال الحقّ المغصوب واعادة سلطان العدل إلى أهله. ولو أعلن الدعوة للإمام الصادق عليه السّلام كما يريده ضعيف النظر، قاصر البصيرة، لرأيت هناك الأضرار البالغة التي تلحق الإمام من أئمّة الجور، تكاد السماواتُ يتفطّرن منه وتنشقّ الأرضُ وتَخِرُّ الجبالُ هدّا .
من هذا وأشباهه نشاهد الإمام الصادق عليه السّلام تارة يظهر المدح والثناء عليه ويقول حين يُسئال عن خروجه: ( خرج على ما خرج عليه آباؤه ) (64)، وذلك لأن الثقة من أصحابه محفوظة، فلا خوف ولا تقية؛ وتارة يُلقي الستر والحجاب ولا يتكلم إلا بالإبهام والاعجام، ويقول لمن حاجج زيداً من أصحابه: اخذته من بين يديه ومن خلفه ولم تترك له مخرجاً. وذلك لان الخوف هناك والتقية أمامه.
ويشهد للتقية، ما يرويه فضيل الرسان، يقول: دخلت على الصادق بعد ما قتل زيد فأُدخلت بيتاً في جوف بيت فقال لي: يا فضيل، قتل عمي زيد ؟ قلت: نعم جعلت فداك فقال: رحمه الله، أما انّه كان مؤمناً وكان عارفاً وكان صدوقاً أما إنّه لو ظفر لوفى، اما انه لو ملك لعرف كيف يضعها.
فانه عليه السّلام لو لم يحذر ولم يخَفْ من وصول الخبر إلى أئمّة الجور لما أدخله تلك البيوت وسأله عما جرى على عمه؛ وإلى هذا ينظر ما في ( كفاية الأثر ) من بيان الوجه في مخالفة الصادق عليه السّلام حيث يقول: كانت المخالفة لضرب من التدبير، فإنّ مراده من التدبير ذلك الذي أشرنا إليه وهو الخوف من السلطان.
وتابعه على هذا الرأي السيّد صدر الدين بن الفقيه السيّد محمّد العاملي في تعليقته على ترجمة زيد من ( منتهى المقال ) (65) قال: ( لو لم يظهر الصادق عليه السّلام عدم الرضا بخروجه، ويصوب أصحابه في معارضتهم واسكاتهم إياه ولم يُجب بالابهام والاعجام عند السؤال عن خروجه، لكان في ذلك نقض الغرض والتعريض بهلاك الإمام ).
وهناك احتمال آخر للشيخ فخر الدين الطريحي النجفي ذكره في مادة ( زيد ) من مجمع البحرين، وهو حمل النهي على الشفقة وخوف القتل، وليس للتحريم؛ ولعله أخذه من الخوف الموجود في بعض الأخبار، مثل ما رواه القطب الراوندي في ( الخرايج ) في الباب 6 في معجزات الباقر عليه السّلام عن الحسن بن راشد، قال: ذكرت زيد بن عليّ عليه السّلام فتنقّصته عند أبي عبدالله عليه السّلام فقال: لا تفعل، رحم الله عمي زيداً انه أتى أبي وقال: إني أريد الخروج على هذا الطاغية، فقال: لا تفعل فاني أخاف أن تكون المقتول المصلوب على ظهر الكوفة، أما علمت يا زيد أنه لا يخرج أحد من السلاطين قبل خروج السفياني إلاّ قُتل. ثم قال: يا حسن، ان فاطمة عليها السّلام لعظمها على الله حرّم ذريتها على النار وفيهم أُنزلت ثمّ اورثْنا الكتابَ الذين اصطفَينا من عبادِنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابق بالخيرات فأما الظالم لنفسه الذي لا يعرف، والمقتصد العارف بحق الإمام. يا حسن، لا يخرج أحدنا من الدنيا حتّى يقر لكل ذي فضل فضله.

* * *

أسباب النهضة
كان السبب الوحيد الدافع للشهيد زيد على هذه النهضة، تنبيه الأمة على زلات ولاة الأمر وتعريفهم مضار تلك السطوة الغاشمة وذلك الحكم الجائر، ولولا نهضة الهاشميين في سائر الأنحاء والازمان لذهب الدين الحنيف الذي لاقى المتاعب صادعه وكابد في تأييده كل شدة، ادراج المنكرات، وذلك النهوض الباهر أفاد الامة شعوراً واحساساً بما عليه القوة العادية من الأخذ بالمشاق والحكْم بالشفاعات، كما عرفهم الصالح للقيام بتلك الوظيفة التي لا يقوم بها إلا نبي أو وصي نبي. ولا شك في محبوبية ذلك القيام للأئمّة الاطهار لما فيه من فوائد ومنافع أهمها ابقاء الناس على موالاتهم واعتقاد تقدمهم ومظلوميتهم، وإليه يشير الصادق عليه السّلام بقوله: ( خير الناس بعدنا مَن ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذِكرنا )؛ وكون زيد قاصداً تلك الغاية فشيء لا ينكر خصوصاً بعدما نقرأ في حديث أهل البيت المتواتر ( انما دعا إلى الرضا من آل محمّد، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، انما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه ) وقوله لجابر بن عبدالله الأنصاري: إني شهدت هشاماً ورسول الله يُسَب عنده، فوالله لو لم يكن إلا أنا وآخر لخرجت عليه.
تُعرّفنا هذه المصارحة مقاصده العالية، ونيته الحسنى في أمة جده، واسترجاع الامامة إلى اهلها: تراجمة الوحي ومصدر الحِكم والاسرار. فلقد تلاعب الأُمويون بالدين الإسلامي، تلاعب الصبيان بالكرة.
تحكّم فيه معاوية عشرين عاماً بما شاء له هواه، كما اخبره عن نفسه بقوله:
« اني تضجعت فيها ظهراً لبطن » (66) وخطبته بالنُّخَيلة بعد صلح الحسن بن عليّ عليه السّلام القائل فيها: « انما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا وان كل شيء أعطيتُه الحسن بن عليّ تحت قدميّ لا أفي به » (67)، شاهد عدل على الغاية المتوخاة له، وانها ليست الا حب الدنيا، ونهمة الاستعمار واتباع المطامع، فلا غرابة إذاً إذا حدث عنه أبو إسحاق الموصلي ، بقوله: كان بين المغنين وبين معاوية ستارة لئلا يظهر ذلك للناس؛ ويقول أبو الفدا في « المختصر من اخبار البشر » (68): غنّاه بعض المغنين بشعر يحبه وذكر الابيات فطرب وتحرك، حتّى ضرب برجله الأرض وقوله لابنه يزيد وقد استمع عنده ليلة غناء أعجبه فلما أصبح قال له: من ملهيك البارحة ؟ قال: سائب بن خاثر، قال: فأكثرْ له من العطاء (69).
أجل، يقف القارئ موقف الدهشة والاستغراب، وان وجدت هذه الاحاديث في المصادر الموثوق بها، بعد ان يشاهده قريب العهد بزمن التشريع، والشريعة نفسها تمنع بتاتاً من سماع الغناء، فضلاً عن بذل مال المسلمين بازائه؛ لكنه إذا تصفحنا الآثار والجوامع وقرأنا اليسير من سيرته ارتفعت كل دهشة واستغراب، فهذا أحمد بن حنبل يحدّث في المسند ج 5 ص 347 عن عبدالله بن بريدة الاسلمي قال: دخلت انا وأبي على معاوية فأجلَسنا على الفراش ثمّ أُتينا بالطعام فأكلنا ثمّ أُتينا بالشراب فشرب معاوية ثم ناول أبي فقال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله صلّى الله عليه وآله. ويقول أبو الفرج في الأغاني ج 2 ص 79: خرج عبدالرحمن بن سيحان سكرانا من دار الوليد بن عثمان، فضربه الحد ثمانين سوطاً مروان بن الحكم أيّام ولايته المدينة، فغاظ معاوية ذلك حينما اقرأه البريد هذه الحادثة، وقال: لو كان حليف أبي العاص لما ضربه، وانما ضربه لكونه حليف حرب بن أمية. ثمّ أمر الكاتب أن يكتب إلى مروان باعطاء ابن سيحان ألفَي درهم ويعلن أنه ضربه على شبهة، ففعل ذلك مروان. ويحدّث الزمخشري في [ ربيع الابرار ] في باب التأديب والحبس والنكال، « إن معاوية بن أبي سفيان قُدّم إليه حمزة السارق فأمر بقطعه، فاستعطفه بهذه الابيات:
يـديْ يـا أمير المؤمنين أُعيذها بـعفوك مـن عار عليها يشينها
فلا خير في الدنيا ولا في نعيمها إذا مـا شـمالي فـارقتها يمينها
فلو قد أتى الاخبار قومي تقلصت إليك المطايا وهي خوصٌ عيونُها

فأبطل عنه الحد وهو أول حد بطل في الإسلام ».
لقد هانت على الدين الحنيف كل صعوبة لاقاها تلك الأيّام القاسية، بعد ما شاهد أيّام « يزيد » ذلك الذي سوّد صحائف حياته بالمنكرات، فكانت أيامه كلها جوراً وضلالاً وانهماكاً في الخمور (70)، فمثلت تلك الأيّام المظلمة موقفه السيّئ في هذه الشريعة المقدسة. ومن هنا مقته الناس، وخرج عليه أهل المدينة فاسرف جيشه المتمرد في دماء الابرياء من الصحابة والتابعين، واتخذ من بقي من الناس عبيداً له في طاعة الله ومعصيته ومن لم يقبل تُضرب عنقه، فبايعوه على ذلك الا رجلاً من قريش قال: أبايعه في طاعة الله، فلم يقبل منه فقُتل (71).
كانت تلك الفضائع والمنكرات بمرأىً منه ومسمع، يشهد له وصيته أمير الجيش لمّا سيره بإباحة حرم الرسول صلّى الله عليه وآله ثلاثة أيّام (72)، ذلك الحرم الذي يقول فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله: من أخاف أهل المدينة ظالماً لهم اخافه الله وكانت عليه لعنة الله (73)، ولم يعلمنا التأريخ باستيائه وغضبه حينما اقرأه البريد انتهاب ذلك الجند أموال الابرياء واستباحته الفروج والاعراض (74)، نعم حمل الينا التاريخ مجازاته مروان بن الحكم بكل جميل لإعانته أمير الجيش على أهل المدينة، فقربه وأدناه وشكر له (75).
ليس الغرض في هذا الموقف احصاء زلات القوم وان كثرت، لاني لم أكن في هذا المختصر بصدد ذلك؛ وانما كان التعرض لهذه الجملة اليسيرة كمثل تتعرف منه القراء الغاية الباعثة للشهيد زيد على الخروج، وهي استرجاع الخلافة إلى أهلها، واظهار العدل في امة جده صلّى الله عليه وآله، وقلع الفساد الذي نشروه بين الأمة.

* * *

موقفه مع هشام
ولم يوقفه عن الإصحار بالحقيقة، كلُّ ما كان يلاقيه من الذل والهوان من هشام بن عبدالملك، فانه كان يقيم في الشام الأيّام المتطاولة، وفي كل يوم يطلب الإذن من هشام ليرفع إليه القصص وفيها الشكايات من سوء معاملة عماله معه، فلم يأذن له (76)، في حين انه يشاهد الاذن للاذناب ومن لاحظَّه في العلم والعرفان، وإذا أذن له أمر أهل المجلس بالتضايق وعدم التوسع له (77) لئلا يظهر للناس كلامه وحسن بيانه، ولكن لم يمنعه ذلك من الجواب وأداء المقصود والرد عليه، فكان يُمع هشاماً من الكلام ما هو أحدّمن السيف وأنفذ من السهم.
قال لزيد في جملة تلك الأيّام وقد احتشد المجلس بأهل الشام: ما يصنع أخوك البقرة ؟غضب زيد حتّى كاد يخرج من أهابه، وقال: سماه رسول الله صلّى الله عليه وآله الباقر وانت تسميه البقرة ؟! لشد اختلفتما، لتخالفه في الآخرة كما خالفته في الدنيا، فيرد الجنة وترد النار (78)، فانقطع هشام عن الجواب وبان عليه العجز ولم يستطع دون أن صاح بغلمانه: أخرجوا هذا الاحمق المائق. فاخذ الغلمان بيده فأقاموه.
وفي حديث عبدالأعلى الشامي، أن زيداً بن عليّ لما قدم الشام، ثقل ذلك على هشام، لما كان فيه من حسن الخلق وحلاوة اللسان، فشكا ذلك إلى مولى له، فقال: ائذن للناس إذناً عاماً وأحجب زيداً، ثمّ ائذن له في آخر الناس، فإذا دخل عليك وسلم فلا ترد عليه، ولا تأمره بالجلوس فإذا رأى أهل الشام هذا سقط من أعينهم. ففعل بكل ما أشار عليه، اذن للناس وحجبه ثمّ اذن له في آخر الناس ولما دخل عليه قال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين، فلم يرد عليه؛ فقال: السّلام عليك يا أحول، فانك ترى نفسك أهلاً لهذا الاسم (79)، فقال له هشام: بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك وأنت ابن أَمَة، فقال له زيد: انّ الامهات لا يُقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت ام إسماعيل امة لأم إسحاق فلم يمنعه ذلك ان بعثه الله نبياً وجعله أباً للعرب وأخرج من صلبه خير الانبياء محمّداً صلّى الله عليه وآله (80)، وأخرج من إسحاق القردة والخنازير وعبدة الطاغوت (81). فغضب هشام وأمر بضربه ثمانين سوطاً (82)، فخرج زيد من المجلس وهو يقول: لن يكره قوم حَرَّ السيوف الا ذلوا. فحملت كلمته إلى هشام فعرف انه خارج عليه؛ قال: ألستم تزعمون ان أهل البيت قد بادوا! فلعمري ما انقرض مَن مثْلُ هذا خلَفُهم (83). وتمثل زيد بهذين البيتين (84):
إنّ الـمحكّم مـا لـم يرتقب حسداً أو يرهب السيف أو وخز القناة صفا
مـن عاذ بالسيف لاقى فرجة عجباً مـوتاً على عجَل أو عاش فانتصفا

وتمثل بهذه الابيات (85):
شـرّده الـخوف وأزرى به كذاك من يطلب حر الجلادْ
منخرق الكفين يشكو الجوى تـنكبه أطـراف مـرٍ حدادْ
قـد كان في الموت له راحة والموت حتم في رقاب العبادْ
إن يُـحدث الله لـه دولـة يـترك آثار العدى كالرمادْ

ولما خرج زيد بعث إليه بهذه الأبيات (86):
مهلاً بني عمّنا عن نحت أثلتنا سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا
لا تجمعوا أن تهينونا ونكرمكم وأن نكف الاذى عنكم وتؤذونا
فالله يـعـلم أنّـا لا نـحبكمُ ولا نـلـومكمُ ألا تـحـبونا

* * *

زيد وخالد القسريّ
لما ولى يوسف بن عمر الثقفي ( العراق ) لهشام بن عبدالملك اخذ يحاسب خالد بن عبدالله بن يزيد بن اسد بن كرز البجلي ثم القسري على بيت المال، وكان قبله والياً على العراق فحبسه، وعذبه، فادعى خالد أنه اشترى أرضاً بالمدينة من زيد بن عليّ عليه السّلام بعشرة آلاف دينار، فكتب يوسف بن عمر إلى هشام بذلك فاستحضر زيداً وسأله عن الأرض فأنكر واستحلفه فحلف له فخلى سبيله (87)، وكتب يوسف بن عمر كتاباً ثانياً، يقول فيه: إنّ خالداً ادعى انه أودع مالاً جزيلا عند زيد بن عليّ، ومحمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وداود بن عليّ بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب، وسعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، وأيوب بن سلمة بن عبدالله بن العباس بن الوليد المخزومي. فكتب هشام إلى عامله بالمدينة أن يحمل إليه الجماعة، فحملهم إليه مكرهين (88). فقال بعض بني هاشم (89):
يـأمن الطير والظباء ولا يـأمن آلُ النبيّ عند المقامِ
طبتَ بيتاً وطاب أهلُك أهلاً أهـل بيت النبيّ والإسلامِ
رحـمةُ الله والسلام عليكم كـلّما قـام قـائمٌ بـسلامِ
حفظوا خاتَماً وجرّوا رداءً أضـاعوا قـرابة الأرحامِ

ولما اجتمعوا عند هشام سألهم عن المال فانكروا واستحلفهم فحلفوا وأقرّ بعضهم بانه لم يستفد من خالد سوى الجائزة؛ فقال لهم هشام: انا باعثون بكم إلى يوسف بن عمر ليجمعكم مع خالد، فقال زيد: نشدتك الله يا هشام والرحم إلا تبعث بنا إليه فانا نخاف ان يتعدى علينا، فقال: كلاّ انا باعث معكم رجلاً من الحرس يأخذه بذلك. ثمّ كتب إلى يوسف بن عمر: أما بعد، فإذا قدم عليك فلان وفلان فاجمع بينهم وبين خالد فان اقروا بما ادّعى عليهم فسرّح بهم إليّ، وإن أنكروا فاسأله البيّنة، فإن لم يُقِمْها فاستحلفهم بعد صلاة العصر، بالله الذي لا إله إلا هو ما استودعهم وديعة ولا له قبلهم شيء ثمّ خلِّ سبيلهم (90)، وبعث هشام بهم إلى العراق واجتنب ايوب بن سلمة لخؤلته فإنّ ام هشام بن عبدالملك ابنة هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي وهو في اخواله (91)، فقدموا على يوسف بن عمر فسألهم عن المال فأنكروا ثمّ قال زيد: كيف يودعني المال وهو يشتم آبائي على منبره ؟! (92)؛ فأخرج خالداً إليهم وقال له: هؤلاء الذي ادّعيت عندهم، فاعترف بأنه لم يكن له عندهم شيء، فغضب يوسف وقال: أفبي تهزأ أم بأمير المؤمنين ؟! وضربه حتّى خُشي عليه الهلاك، فقال زيد لخالد: ما الذي دعاك إلى ذلك ؟ قال: شدة العذاب ورجوت به الفرج.

* * *

استجارة أهل الكوفة
اقام الشهيد زيد بالكوفة أيّاماً بعد ان وضح حاله للوالي وعرف براءته من تلك التهمة، ثمّ قفل راجعاً إلى المدينة. وفي القادسية أو الثعلبية لحقه جماعة من أهل الكوفة واستجاروا به من جور الأمويين وظلمهم الفاحش وطلبوا منه المصير إلى بلادهم، وقالوا له: نحن اربعون الفاً نضرب باسيافنا دونك، وليس عندنا من أهل الشام إلا عدة وبعض قبائلنا يكفيهم باذن الله تعالى. وأعطوه العهود والمواثيق إلاّ يخذلونه، فقال لهم: اني أخاف ان تفعلوا معي كفعلكم مع أبي وجدي. فحلفوا له بالايمان المغلظة على ان يجاهدوا بين يديه (93)، فلما عزم على موافقتهم عرفه جماعة ممن يمحضه الود والنصيحة غدر أهل الكوفة وانهم لا ثبات لهم في قول ولا عمل.
حسب هؤلاء الناصحون له أنه لم يصل إلى ما يعرفونه في أولئك الغدرة المجبولين على نقض العهود والمواثيق، فاشاروا عليه بالإعراض عن الكوفة فإن نتيجة وفاقهم القتل، ولكنهم لم يقفوا على الغاية المقصودة له من تعريف الملأ البدع التي أحدثها الامويون، وكادت ـ لولا هذه النهضات المقدسة من العلويين ـ تقضي على الدين باسرع وقت.
كيف يجهل رضوان الله عليه قتله في هذا الوجه مع ما يشاهده من علامات القتل ودلائله، رأى قبل الخروج إلى الكوفة في منامه كانه قائم يخطب، فعبّرها بالصَّلْب (94). ورأى مرة ثانية كانه أضرم ناراً في العراق ثمّ اطفأها ومات، فقصّها على ابنه يحيى فعبّرها بالخروج على هشام. ومن هنا كان يقول لهشام حين أمره بالخروج إلى الكوفة لموافقة يوسف بن عمر الثقفي: نشدتُك بالله يا أمير المؤمنين ألاّ تبعثني إليه، فوالله لا آمن إن بعثتني إليه ألاّ أجتمع أنا وأنت حيّين على ظهر الأرض بعدها، فقال له: الحق بيوسف كما تُؤمر، فقدم عليه (95)، وكان الأمر كما قال. وينضاف إلى ذلك ما تلقّاه من آبائه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله الموحى إليه على لسان الأمين جبرئيل من القتل والصلب والحرق، وإليه يشير بقوله لجابر بن عبدالله: لو لم أكن إلاّ أنا وآخر لخرجتُ عليه. يريد أنّ الخروج على هشام والقتل في هذا السبيل أمر محتّم من الله، لأن فيه أسراراً ومصالح أهمّها اظهار مظلوميّة آبائه.

* * *

تحذيره من أهل الكوفة
لما أجاب أهل الكوفة ورجع إليها عظم ذلك على صحبه وأهل بيته، فبالغوا في تخويفه وعرّفوه عواقب هذا الوفاق لما عليه أولئك الخونة من الشقاق والميل إلى الاطماع.
ولم يعزب عن علم زيد ما يصير إليه امره من القتل والشهادة، ولا كان يخفى عليه غرائز الكوفيين الغدرة بسلفه الطاهر، فقد انتهى إليه العلم القطعي من آبائه الهداة عن جده النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله بما سوف ينتابه من المحن ويعانيه من السياسة القاسية من طاغية عصره، لكنه كغيره من قادة الاصلاح الناهضين لم يحصر أثر الوثبة في وجه داعية الفساد بخصوص الاستيلاء على قطر تتقلص عنه بقوة بأسه عوامل الفساد فيتخذه قاعدة سطوته، وبعدُ يمد يد الاصلاح إلى غيره من الاقطار، وانما هناك اسرار وفوائد تبرّر للمتوثب عمله، وتحبذ له غايته المتوخاة له؛ ولو لم يكن فيه الا إشعال شطر من قوى العدو عن الاستزادة في العمل، او لفت أنظار العامة إلى مجابهة تلك البيعة الفاجرة. على ان لأُباةِ الضيم و [ زيد الخير ] في طليعتهم وراء ذلك كله خطة لا يعدونها، وهو ايثار موتة العز على الحياة مع الضعة، والتوثب على كل حال متى شاكتهم شائكة الهوان. وبعد ان حظي [ زيد المفاخر ] بتلكم الغايات الكريمة جمعاء، لم يعبأ بكل انذار وتخويف صدر من رجال لم يقفوا إلا على صور وعاديات ومجاري أمور ظاهرية عكفوا عليها من غير ما وقوف على ما [ لشهيد إلاباء ] من أحساسات معنوية، ونوايا مقدسة، وما كان يجده من واجبه الديني بعهد من آبائه عن جده النبيّ صلّى الله عليه وآله، غير انه لم يجد لذلك العلم ظروفاً تسع الأمر المستصعب. لذلك كان يتحرى في جواب كل من أولئك ما تتحمله نفسه، فتارة يقول: شهدت هشاماً ورسول الله صلّى الله عليه وآله يُسَبّ عنده فلم يُغيّره، فو الله لو لم يكن إلا انا وآخر لخرجت عليه، وأخرى يقول: ان هشاماً أخرجنا اسرى على غير ذنب من الحجاز ثمّ إلى الجزيرة ثمّ إلى العراق ثمّ إلى تيس ثقيف يلعب بنا، وثالثة يقول: ان اهل الكوفة بايعوني وقد وجبتْ بيعتهم في عنقي، ورابعة يقول: انهم كتبوا إليّ يسألون القدوم عليهم.
وفي ذلك كله دلالة على ان هناك علماً لا يستطيع بثه لعدم القابل لتحمله. وبالرغم من أيّ وهن صوري يجده في طريقه، وتخاذل يبلغه عن الكوفيين ، مشى إلى مصرعه قِدماً. وكان كلما اشتد عليه الأمر لم يزدد إلا نشاطاً وفرحاً بقرب الغاية وبلوغ الأُمنيّة حتّى لفظ آخر نفس منه بقلب مرتاح وبشاشة بادية.

دخوله الكوفة
دخل الكوفة في شهر شوال سنة مائة وعشرين وقيل تسع عشرة، فاقام بالكوفة خمسة عشر شهراً وفي البصرة شهرين (96)، فأخذت الشيعة وغيرهم من المحكِّمة (97) تختلف إليه يبايعونه فبلغ ديوانه خمسة وعشرين ألفاً وقيل اربعون ألفاً (98) وقال أبو معَّمر: بلغ ثمانين الفاً (99) كلهم من أهل الكوفة، وبايعه من أهل المدائن والبصرة وواسط والموصل والجزيرة والريّ وخراسان وجرجان (100) خلق كثير، وفيمن بايعه من أهل الكوفة نصر بن خزيمة العبسي، ومعاوية إسحاق بن زيد بن حارثة الانصاري، وحجية الأجلح الكندي (101)، وكان نصر على احدى مجنبته، وكان معمر بن خيثم وفضيل الرسان يُدخلان الناس عليه وعليهم براقع لئلا يُعرَف موضع زيد (102).
وبايعه من فقهاء الكوفة وقضاتها ومحدّثيها عدد كثير نذكر بعضاً ممن وقفنا عليه كمثل تتعرف منه القراء أن الشهيد زيداً لم يتبعه سواد الناس ومن لا معرفة له بمقاصد الرجال الناهضين، بل الذين اتبعوه مع هؤلاء خواص الناس ومن لهم المعرفة التامة بالسبب الدافع لزيد على هذه النهضة الهاشمية التي لم يقصد بها إلا إحياء السنّة واقامة العدل، ثمّ انه اخذ يرسل دعاته إلى من تخلف من الناس في الكوفة وسائر الأمصار، وكان من رسله الفضل بن الزبير بعثه إلى ( أبي حنيفة ) يدعوه إلى بيعته فأبلغه الفضل رسالة زيد، فذكره أبو حنيفة بكل جميل وألزم الخروج معه وبعث إليه بثلاثين الف درهم ويقال دينار معونةً على جهاد عدوه. وذكر الخوارزمي أن ابا حنيفة قال: لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا اباه لجاهدت معه لأنه إمام بحق، ولكن أُعينه بمالي. ثمّ بعث إليه بالمال وقال للرسول: أبسط عذري عنده. وسئل أبو حنيفة عن خروج زيد فقال: ضاهى خروج رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم بدر، فقيل له: لمَ تخلفت عنه ؟ فقال: حبستني عنه ودايع الناس عرضتها على ابن أبي ليلى فلم يقبل، فخفت أن اموت مجهلاً، وكان كلما ذكر خروج زيد بكى (103).
ومن دعاته يزيد بن أبي زياد الفقيه مولى بني هاشم وصاحب عبد الرحمن بن أبي ليلى، بعثه إلى ( الرقة ) فاجابه إلى بيعته عدد كثير من أهلها وفيهم عبدة بن كثير الجرمي، فكان هو والحسن بن سعيد الفقيه رسولاه إلى خراسان. ومن دعاته أبو اليقظان عثمان بن عمير الفقيه بعثه إلى الأعمش سليمان بن مهران. وبعث سالم بن الجعد إلى زبيد الفقيه، ومن دعاته منصور بن المعتمر السلمي المحدث، بعثه يدعو الناس إليه فقُتل زيد وهو غائب، وخاف أن يكون مقصِّراً فصام سنة رجاء ان يُكفر ذلك عنه، ثمّ خرج بعد ذلك مع عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر الطيار (104).
لم يمنع أولئك الفقهاء من الخروج معه إلاّ تخاذل الناس عنه وخوف السلطان. وكان الأعمش يقول: لولا ضرارة بي لخرجت معه، والله ليخذلنه أهل العراق وليسلمنّه كما فعلوا بجده وعمه (105).

* * *

ماهي البيعة
كانت البيعة التي أخذ الناس عليها: الدعوة إلى كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين واعطاء المحرومين وقسمة الفيء بين المسلمين بالسوية وردّ المظالم ونصرة أهل البيت على من نصب لهم العداوة وجهل حقهم. فكان يقول للناس: اتُبايعوني على ذلك ؟ فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يد من بايعه ثمّ يقول عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفينّ ببيعتي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن لي في السر والعلانية. فإذا قالوا: نعم، مسح يده على يده ثمّ قال: اشهدوا عليه (106).
ولما تمت البيعة لزيد وخفقت الألوية على رأسه قال: الحمد لله الذي اكمل لي ديني، والله اني كنت لاستحي من رسول الله صلّى الله عليه وآله أن أرِد عليه الحوض غداً ولم آمر في امته بمعروف ولم أنهَ عن منكر (107)، والله ما ابالي إذا اقمت كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله ان أُجّجت لي نار وقذفت فيها ثمّ صرت بعد ذلك إلى رحمة الله، والله لا ينصرني أحد إلا كان في الرفيق الأعلى مع محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين. وَيْحكم: أما ترون هذا القرآن بين أظهركم جاء به محمّد صلّى الله عليه وآله ونحن بنوه، يا معشر الفقهاء، ويا أهل الحجاز، أنا حجة الله عليكم وهذه يدي مع أيديكم على ان نقيم حدود الله ونعمل بكتاب الله ونقسم فيئكم بالسوية، فسلوني عن معالم دينكم فان لم انبئكم عما سُئلتم فولوا من شئتم ممن علمتم انه اعلم مني، والله لقد علمت علم أبي عليّ بن الحسين وعلم عليّ بن أبي طالب وصي رسول الله صلّى الله عليه وآله وعيبة علمه، والله ما كذِبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي، ولا انتهكت محرّماً لله يؤاخذني به (108).

* * *

غدر أهل الكوفة بزيد
ليس غدر أهل الكوفة بالشهيد زيد باكورة من نفاقهم ولا بدعاً من غرائزهم. جاء إليه جماعة من الرؤساء وذوي البصائر وأهل الحل والعقد فسألوه عما يراه في أبي بكر وعمر فتلكّأ واحتبس وما يدري ماذا يجب في ذلك الحال الرهيب حال التجمع والتحزب والتألف والتجمهر كله لمكافحة الباطل والضلال، وكيف لا يرتكب المجاز في القول وهو يقرأ على صفحات وجوههم الغدر والخذلان. فمن هنا نشاهده يقول لهم في الجواب:(ما سمعت أحداً من آبائي تبرّأ منهما، ولا يقول فيهما إلاّ خيراً) (109)، فلم يقتنع القوم منه بهذا بعد أن كان غرضهم حلّ عُرى العهود والمواثيق الصادرة منهم، فاتخذوا علامة التبرّي من الخلفاء ذنباً يستوجب به عدم النصرة والمحاماة، وصاحوا باجمعهم: إنك لم تطلب بدم أهل هذا البيت إلاّ أن وثبا على سلطانكم فانتزعاه من أيديكم.
فقال زيد: ان أشد ما أقول فيما ذكرتم أنّا كنا أحق بسلطان رسول الله صلّى الله عليه وآله من الناس أجمعين، وإن القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، قد وُلوا فعدلوا في الناس أجمعين، وعملوا بالكتاب والسنة، فقالوا له: إذا لم يظلمك أولئك فلِم يظلمك هؤلاء، فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين ؟ فقال: ان هؤلاء ظالمون لي ولكم ولانفسهم؛ وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وإلى السنن أن تُحيى وإلى البدع أن تُطفأ، فان أنتم أجبتمونا سُعدتم وإن أنتم أبيتنم فلست عليكم بوكيل، ففارقوه ونكثوا بيعته (110).
فتبرأ زيد منهم وصاح: فعلوها حسينية. ولما بلغ الصادق عليه السّلام حديثهم معه تبرأ منهم؛ وقال: برئ الله ممّن تبرّأ من عمّي زيد. وقال لجماعة من أهل الكوفة سألوه عن زيد والدخول في طاعته: ( هو والله سيدنا وخيرنا ) (111)، فكتموا ما أمرهم به وتفرقوا عنه.
وانقشعت سحابة الضلال عن عصابة طابت أصولهم وأنارت أحسابهم في سماء العز والإباء، فكانوا كثيرين على الأعداء وان قلوا العدد وفارقوا العدة، نهضوا لحماية الدين الحنيف والذب عن ذرية سيد المرسلين وهم لا يزيدون على خمسمائة رجل منهم مائتان وعشرون رجل نشابة (112). ويحّدث الداودي في ( عمدة الطالب ) أنهم ثلثمائة رجل، وبينا زيد يفكر في حالة أهل الكوفة، ومرض قلوبهم وبعدهم عن رضا الرحمن، جاء إليه كثير النوى يستقيله فاقاله (113) حيث رآه لا يدفع عنه ضيماً ولا يأخذ له بِتِرة، ثم أنشد يقول:
الـحرب أقـوام لـها خُـلقوا ولـلتجارة والـسلطان أقـوامُ
خـير البرية من امسى تجارته تقوى الاله وضرب يجتلى الهامُ

* * *

صفة الحرب
لمّا عرّف زيد من يوسف بن عمر التطلب له والاستبحاث عن أمره وتتبع شيعته، وبلغه خبر الرجلين الذين أُخذا وقُتلا، خاف على نفسه ان يؤخذ غيلة فتعجل الخروج قبل الأجل الذي كان بينه وبين الامصار (114) وأمر من ثبت معه بالتهيؤ والاستعداد (115). وكان ظهوره بالكوفة ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة مائة وإحدى وعشرين.
قال ابن جرير: جمع الحكم بن الصلت أهل الكوفة في المسجد الاعظم قبل خروج زيد، وبعث إلى العرفاء والشرطة والمناكب والمقاتلة فحصرهم في المسجد، ومكث الناس ثلاثة أيّام وثلاث ليالي في المسجد الأعظم يُؤتى إليهم بالطعام والشراب من منازلهم. ونادى مناديه إلى أن أمير المؤمنين يقول: من أدركْنا زيداً في رحله فقد برئت منه الذمة. وكان يومئذ على ربع المدينة إبراهيم بن عبدالله بن جرير البجلي، وعلى ربع مذحج واسد عمر وابن أبي بذل العبدي، وعلى ربع كندة وربيعة المنذر بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، وعلى ربع تميم وهمدان محمد بن مالك الهمداني ثم الخيواني.
وفي يوم الثلاثاء قبل خروج زيد أمر الحكم بن الصلت بدروب السوق فغُلقت وغلقت أبواب المسجد على أهل الكوفة وبعث إلى يوسف بن عمر وهو ( بالحيرة ) يُعلمه الحال، فأمر يوسف مناديه فنادى في اصحابه من يأتي الكوفة ويقترب من هؤلاء القوم، فركب جعفر بن العباس الكندي في خمسين فارساً حتّى انتهى إلى ( جبانة سالم السلوي ) (116) فعرف موضعهم ورجع إليه.
وفي ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر طلبوا زيداً في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الانصاري، فلم يجدوه لانه خرج من دار معاوية وفي ليلة شديدة البر ذي ظلمة، واصحابه يستضيئون بالهراوي يشعلون فيها النار، وما زالوا على هذا الحال طول ليلهم وشعارُهم كاصحاب بدر ( يا منصور أمت ).
وفي صباح يوم الأربعاء خرج يوسف بن عمر إلى تل قريب من ( الحيرة ) فنزل عليه ومعه جماعة من كبار قريش واشراف الناس، وبعث الريان بن سلمة الاراشي في الفين وثلثمائة من القيقانية معهم النشاب قوةً لصاحب شرطته العباس بن سعيد المزني.
وفي هذا اليوم بعث ( زيد ) القاسم بن كثير بن يحيى بن صالح بن يحيى بن عزيز بن عمرو بن مالك بن خزيمة التنعي ثمّ الحضرمي؛ رجلاً آخراً يقال له ( صدام ) يناديان بشعارهما: يا منصور أمت، فالتقيا مع جعفر بن العباس الكندي في ( صحراء عبد القيس ) واقتتلا معهم فقُتل صدام وارتُثّ القاسم فأُسِر وجيء به إلى ابن الصلت فكلمه فلم يردّ عليه فامر به فضُربت عنقه على باب القصر، فقالت ابنته سكينة ترثيه:
عـينُ جـودي لـقاسمِ بن كثيرِ بـدرورٍ مـن الـدموع غـزيرِ
أدركـتـه سـيوفُ قـوم لـئامٍ من أُولي الشرك والردى والشرورِ
سـوف أبـكيك مـا تغنّى حَمامٌ فـوق غصن من الغصون نضيرِ

لم يواف زيداً ممن بايعه في هذا اليوم غير مائتين وثمانية عشر رجلاً، فقال زيد: سبحان الله! اين الناس ؟ قيل: انهم محصورون في المسجد الأعظم، قال: والله ما هذا لمن بايعنا بعذر. وسمع نصر بن خزيمة النداء فأقبل إليه ولقي عمرو بن عبدالرحمن صاحب شرطة الحكم بن الصلت في خيله من جهينة عند دار ( الزبير بن حكيمة ) في الطريق الخارج إلى مسجد بني عدي، فقال نصر بن خزيمة: [ يا منصور أمت ] فلم يردّ عليه شيئاً فحمل عليه نصر واصحابه فقتل عمرو بن عبدالرحمن، وانهزم من كان معه، واقبل نصر إلى ( زيد ) فالتقى معه في ( جبانة الصائدين )؛ وفيها خمسمائة من أهل الشام فحمل عليهم زيد فيمن معه فهزمهم، وتحت زيد برذون بهيم اشتراه رجل من بني ( نهد ) ابن كهمس بن مروان النجاري بخمسة وعشرين ديناراً، ثمّ صار بعد زيد إلى الحكم بن الصلت. وانتهى زيد إلى باب رجل من الازد يقال له انس بن عمرو وكان ممن بايعه، فناداه زيد: يا انس اخرج إلي رحمك الله، فقد جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا، فلم يخرج إليه. فقال زيد: ما اخلفكم، قد فعلتموها، الله حسيبكم.
ومضى زيد حتّى انتهى إلى الكناسة وكان بها جماعة من أهل الشام فحمل عليهم وهزمهم، ثمّ خرج حتّى اتى ( الجبانة ) وكانت فيما بين الحيرة والكوفة ويوسف بن عمر على تل قريب من الحيرة، معه من قريش واشراف الناس نحو مائتي رجل فيهم حزام بن مرة المزني، وزمزم بن سليم التغلبي ولو اقبل على يوسف لقتله، وكان الرّيان بن سلمة يتبع أثر زيد في أهل الشام فمانعه عن التوجه نحو يوسف بن عمر فأخذ زيد على مصلى خالد بن عبدالله القسري حتّى دخل الكوفة، وقد انشعب اصحابه لمّا قصد الجبانة فذهب بعضهم نحو جبانة مخنف بن سليم، ثمّ تراجعوا إلى جبانة كندة. وبينا هم يسيرون اذ طلعت عليهم خيل اصحاب يوسف بن عمر، فلما رأوهم دخلوا زقاقاً ونجوا منهم إلا رجلاً دخل مسجداً يصلي فيه ركعتين وبعد ان فرغ خرج إلى اصحاب يوسف وقاتلهم فتكاثروا عليه وصرعوه وحمل عليه رجل بعمود فقتله، وخرج أولئك النفر الذين دخلوا الزقاق وقاتلوا اصحاب يوسف بن عمر، فاقتطع اهل الشام منهم رجلاً دخل دار عبدالله بن عوف فهجموا عليه وأسروه واتوا به إلى يوسف بن عمر فقتله.
ولما دخل زيد الكوفة أشار عليه نصر بن خزيمة بالتوجّه نحو المسجد الاعظم لاجتماع الناس فيه، فقال له زيد: انهم فعلوها حُسينيةً، فقال نصر: أمّا انا فاضرب معك بسيفي هذا حتّى أُقتل.
وبينا يسير زيد نحو المسجد الاعظم، إذ طلع عليه عبيدالله بن العباس الكندي في أهل الشام والتقى معه على باب ( عمر بن سعد بن أبي وقاص ) فاراد الحملة عبيدالله وتكعكع مولاه سلمان وبيده اللواء فصاح به: احمل يا بن الخبيثة، فحمل عليهم ولم ينصرف حتّى خضب اللواء بالدم وضرب واصل الحناط عبيدالله وقال: خذها وانا الغلام الحناط، فلم تعمل فيه شيئاً، وقال عبيدالله: قطع الله يدي ان اكلت بتفيز ابداً. ثمّ ضرب الحناط فلم يصنع شيئاً. واشتد القتال بينهم، ولكثرة من قتل من اصحاب عبيدالله فر بمن بقي معه وانتهى إلى دار ( عمرو بن حريث ) وكانت في ( السبخة ) قريبة من المسجد الاعظم.
وأقبل زيد باصحابه وانتهى إلى ( باب الفيل ) فأدخل اصحابه راياتهم من فوق الأبواب وهم يقولون: يا أهل المسجد اخرجوا إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا فانكم لستم في دين ولا دنيا. فاشرف عليهم اهل الشام يرمونهم بالحجارة من فوق المسجد.
وفي عشية الاربعاء انصرف الريان بن سلمة إلى الحيرة وخرج زيد فيمن معه فنزل ( دار الرزق ) فاتاه الريان بن سلمة وقاتله هناك قتالاً شديداً. فخرج بعض اصحاب الريان وقُتل منهم كثير وفرّ الباقون، فتبعهم اصحاب زيد من دار الرزق حتّى انتهوا إلى المسجد ورجع أهل الكوفة عشية الاربعاء بأسوأ حال.
وفي صباح يوم الخميس الثاني من صفر بعث يوسف بن عمر العباس بن سعيد المزني صاحب الشرطة في جماعة من أصحابه فاتوا زيداً وهو في ( دار الرزق ) فاقتتلوا هناك والطريق متضايق بخشب كثير للنجار، وعلى ميمنة زيد وميسرته نصر بن خزيمة العبسي، ومعاوية بن اسحاق الأنصاري، فصاح العباس باصحابه: الأرض الأرض، فنزلوا عن خيولهم واشتد القتال، فضرب نائل بن فروة نصر بن خزيمة على فخذه، وضربه نصر فقتله، ولم يلبث نصر ان مات. وقتل في هذه الصدمة من اصحاب العباس بن سعيد نحو من سبعين رجلاً وفرّ الباقون.
وفي عشية الخميس عبّأ يوسف بن عمر اصحابه وسيّرهم إلى زيد فاقتتلوا ثمّ كشفهم زيد إلى ( السبخة ) واشتد القتال فيها، فكانت الدبرة على أصحاب يوسف بن عمر، وتبعهم زيد بمن معه حتّى اخرجهم إلى بني سليم، وطاردهم في خيله ورجاله فاخذوا طريق المسناة، ثمّ ظهر لهم فيما بين ( بارق ورؤاس ) فقاتلهم، وصاحب لوائه عبدالصمد بن أبي مالك بن مسروح من بني سعد بن زيد حليف العباس بن عبدالمطلب، وكان مسروح السعدي متزوجاً صفية بنت العباس بن عبدالمطلب. وتمثل زيد يوم السبخة بأبيات ضرار بن الخطاب الفهري التي قالها يوم الخندق:
مـهلاً بني عمّنا ظلامتنا إنّ بـنا سَورةً من القَلَقِ
لمثلكم نحمل السيوف ولا نـغمز أحسابنا من الرققِ
إنّي لأُنمى إذا انتميتُ إلى عزّ عزيز ومعشر صدقِ
بـيض سباط كأنّ أعينهم تُكحل يوم الهياج بالعلقِ

وفي حديث محمد بن فرات الكوفي: كان الناس ينظرون إلى زيد يقاتل يوم السبخة وعلى رأسه صفراء تدور معه حيثما دار.
وبينا زيد يقاتل اصحاب يوسف بن عمر اذ انفصل رجل من كلب على فراس له رائع، وصار بالقرب من زيد فشتم الزهراء فاطمة، فغضب زيد، وبكى حتّى ابتلت لحيته، والتفت إلى من معه وقال: اما احد يغضب لفاطمة، أما أحد يغضب لرسول الله صلّى الله عليه وآله، اما احد يغضب لله ؟! قال سعيد بن خيثم: اتيت إلى مولى لي كان معه مشمل (117) فاخذتُه منه وتسَترت خلف النظارة والناس يومئذ فرقتان مقاتلة ونظارة، ثمّ صرت وراء الكلبي وقد تحول من فرسه وركب بغلة فضربته في عنقه فوقع رأسه بين يدي البغلة، وشد اصحابه عليّ وكادوا يرهقوني، فلما رأى اصحابنا ذلك كبروا وحملوا عليهم واستنقذوني، فركبت البغلة واتيت زيداً فقبل بين عيني وقال: ادركتَ والله ثارنا، ادركت والله شرف الدنيا والاخرة وذخرهما، ثمّ اعطاني البغلة.
وسار زيد حتّى انتهى إلى الجسر ونادى اصحابه: والله لو كنت اعلم عملاً أرضى لله من قتال هؤلاء لفعلته. وقد كنت نهيتكم ألاّ تُتْبعوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح؛ ولا تفتحوا باباً مغلقاً، ولكني سمعتهم يسبون علياً عليه السّلام فاقتلوهم من كل وجه، فوالله لا ينصرني رجل عليهم اليوم إلا اخذت بيده وادخلته الجنة.
واشتد القتال فكانت خيل اهل الكوفة لا تثبت لخيل اصحاب زيد، فبعث العباس بن سعيد المزني إلى يوسف بن عمر يستمده الرجال والخيل فمده بسليمان بن كيسان الكلبي في القيقانية والبخارية وهم نشابة؛ وحرص زيد حين انتهوا إليه ان يصرفهم نحو السبخة فيم يتمكن. وفي هذه الصدمة قاتل معاوية بن إسحاق حتّى قتل، وكان زيد يتمثل:
أُذُلُّ الـحياة وعِـزّ الـممات وكــلاًّ أراه طـعاماً وبـيلا
فـإن كـان لابـدّ مـن واحدٍ فسَيري إلى الموت سيراً جميلا

ولمّا جنح الليل من ليلة الجمعة الثالثة من صفر سنة 121 هـ رُمي زيد بسهم غرب اصاب جبهته ووصل إلى الدِّماغ (118) فرجع زيد ورجع اصحابه ولم يظن اصحاب يوسف بن عمر إلاّ انهم رجعوا للمساء والليل. وكان الرامي له مملوك ليوسف بن عمر اسمه راشد، ويقال من اصحابه اسمه داود بن كيسان.
وجاء بزيد اصحابُه فأدخلوه بيت حران بن كريمة مولى لبعض العرب في ( سكة البريد ) (119) في دور ( ارحب وشاكر )، وجاءوا بطبيب يقال له شقير، وفي مقاتل أبي الفرج اسمه سفيان. فقال له الطبيب: ان نزعتُه من رأسك مت، فقال: الموت اهون علَيّ مما انا فيه، فخذ الكلبتين فانتزعه. فساعة انتزعه مات رضوان الله عليه، ولعن قاتله وخاذله.
وقال سلمة بن الحر بن الحكم: في قتل زيد:
وأهلكْنا جحاجحُ من قُريشٍ فأمسى ذِكرهم كحديث أمسِ
وكـنّا أُسَّ مُـلكهمُ قـديماً ومـا مُـلكٌ يقوم بغير أُسِّ
ضـمنّا مـنهم نكلاً وحُزناً ولـكن لا مـحالة من تأسِّ

* * *

زيد وتقدير عمره
اتفق جمهور المؤرّخين على أنه استُشهد وله اثنتان واربعون سنة (120)، وحدّده ابن العماد في شذرات الذهب بثلاث واربعين، وابن خرداد بثمان واربعين، وعلى تصحيحنا لتقدير الولادة يكون عمره ستاً وخمسين أو سبعاً وخمسين. وتقدم اختيار ما اتُّفق عليه في تحديد سنة شهادته بالواحدة والعشرين بعد المائة الشيخ الطوسي في المصباح، والمسعودي في مروج الذهب، وابن قتيبة في المعارف، واليافعي في مرآة الجنان ج 1 ص 257، وأبو الحسن الدياربكري في تأريخ الخميس ج 2 ص 357، وابن العماد في شذرات الذهب ج 1 ص 58، ونص ابن جرير في باب مقتل زيد على الاثنتين والعشرين بعد المائة، ولم يخالف احد في تعيين شهر الشهادة في [ صفر ] وتواتر الحديث بقتله في الثالث من صفر إلا محمّد بن إسحاق خصه بالنصف منه.

* * *

مواراة الجسد الطاهر
لما قُتل اختلف اصحابه في دفنه ومواراته بصورة تخفى عن الاعداء خوفاً من اخراجه والتمثيل به، فقال بعضهم: نُلبسه درعه ونطرحه في الماء (121)، وهذه الوسيلة تمنّاها الصادق عليه السّلام، فقد قال لسليمان بن خالد: كم بين الموضع الذي واروه فيه وبين الفرات ؟ قال سليمان: قذفة حجر، فقال الصادق: سبحان! الله أفلا كنتم أوقرتُموه حديداً وقذفتموه في الفرات وكان أفضل ؟! (122).
ويمكن ان يدلنا الحديث على ان المكان المعروف له اليوم الذي يزار ويتبرك به لم يكن محل دفنه لبُعده عن الفرات بنحو ست فراسخ، فاين يقع منه قذفة الحجر ؟!
واشار بعض من حضر من اصحابه بدفنه في العباسية (123) وهي النخيلة (124). وارتأى اخرون حز رأسه وإلقاءه بين القتلى (125) حتّى لا يعرف، فلم يوافق ابنه يحيى على هذا الرأي وقال: لا والله، لا تأكل لحم أبي الكلاب (126)، يشير إلى ان هذه الوسيلة لإخفاء الجسد الطاهر عن الاعداء لا يدفع محذور التمثيل به، فان الكلاب لا تصل إليه وتتحاماه فيوجب ذلك اهتداء الاعداء إليه فيعود المحذور. قال سلمة بن ثابت: لما كثر الخلاف بين اصحابه أشرت عليهم ان ننطلق به إلى نهر هناك وندفنه فيه، فقبلوا الرأي وكان في النهر ماء كثير حتّى إذا امكنا له دفناه (127)، ووضعنا عليه الحشيش والتراب وأُجري عليه الماء (128) وكان النهر في بستان رجل يقال له [ زائدة ] (129) وقيل يعقوب (130).

* * *

اخراجه بعد الدفن
دخل يوسف بن عمر الكوفة بعد قتل زيد وتطلب مكان دفنه، ونادى مناديه، الا من اخبر بمكان دفنه فله الجائزة، فجاءه الطبيب الذي اخرج السهم وكان حاضراً دفنه فاعلمه بمكانه (131) وكان مملوكاً لعبد الحميد الرؤاسي. وقيل: انّ مملوكاً سندياً لزيد بن عليّ اخبر بمكان دفنه (132). وحدّث أبو مخنف عن كهمس: ان نبطياً كان يسقي زرعاً له بتلك الناحية رآهم حين دفنوه فاخبر به (133). وبعد ان استبان للوالي موضع دفنه، بعث العباس بن سعيد المزني، وفي نقل آخر بعث الحجاج بن القاسم بن محمد بن أبي عقيل (134)، ويقال بعث خراش بن حوشب بن يزيد الشيباني وكان على شرطة يوسف بن عمر (135).
وحُمل الجسد الطاهر على جمل وكان عليه قميص هروي، فأُلقي على باب القصر فخر كأنه جبل. فامر يوسف بن عمر بقطع رأسه وفي حديث أبي مخنف قطعَ رأسَه ابن الحكم بن الصلت، فان الحكم ابن الصلت بعث ابنه، وصاحب الشرطة العباس بن سعيد المزني لاستخراج زيد، فكره العباس ان يغلب ابن الحكم عليه فتركه وسرح الحجاج بن القاسم بن محمد بن الحكم ابنَ أبي عقيل بشيراً إلى يوسف بن عمر. فقال أبو الجويرة مولى جهينة:
قُـل لـلذين انتهكوا المحارمْ ورفعوا الشمع بصحرى سالمْ
كـيف وجـدتم وقعة الأكارمْ يا يوسف بن الحكم بن القاسمْ

* * *

صلبه
لما جيء بالجسد الطاهر وأُلقي امام الوالي وكان هناك عدد كثير من جثث اصحابه، امر بالجسد فصُلب منكوساً (136) بسوق الكناسة (137)، وصلب معه اصحابه (138) وفيهم معاوية بن إسحاق، ونصر بن خزيمة العبسي وزياد الهندي (139). وامر بحراسة زيد لئلا يُنزَل من الخشبة. وكان فيمن يحرسه زهير بن معاوية بن جديح بن الرحيل (140)، والرحيل هذا ممن خرج لحرب الحسين (141). فساء هذا الموقف رسول الله صلّى الله عليه وآله وذريته المعصومين، يقول جرير بن حازم: رأيت النبيّ صلّى الله عليه وآله في المنام متسانداً إلى جذع زيد بن عليّ وهو يقول للناس: هكذا تفعلون بولدي (142) ؟! ويحدث الموُكَّل بخشبته: أنّه رأى النبيّ صلّى الله عليه وآله في النوم واقفاً على الخشبة ويقول: هكذا تصنعون بولدي من بعدي ؟! يا بني يا زيد قتلوك قتلهم الله، صلبوك صلبهم الله (143). ففشا الحديث بين الناس وظهر بذلك فضله ومظلوميته، وعرف حتّى حراس خشبته مكانته من الشرف وصدق دعواه وانه مَحْبوّ بجنان واسعة، ومن اجل هذا لم يمنعوا من يرغب من أهل الكوفة في زيارته والتمسك بجسده المقدس. حدّث ابن تيمية في ( منهاج السنة ) (144): لما صُلب زيد كان أهل الكوفة يأتون خشبته ليلاً ويتعبّدون عندها.

* * *

زمان الصلب
لم يختلف المؤرخون في بقائه مرفوعاً على الخشبة زمناً طويلاً حتّى اتخذته الفاختة وكراً (145) تنعى لرسول الله صلّى الله عليه وآله العدل والإصلاح والمكارم والإباء، وانما كان الخلاف في تحديد تلك المدة، وكل يرتئي قدراً حسب القرائن المتوفرة عليه، والمتحصل من كلام المؤرخين اراء ستة ( أ ) سنة واشهر ( ب ) سنتين ( ج ) ثلاث سنين ( د ) اربع سنين ( هـ) خمس سنين ( و ) ست سنين (146). ولعل السر في اختيار الاول والثاني الاعتماد على ما حدّث به بعض المؤرخين من ان هشاماً هو الذي امر باحراقه، كما يمكن ان يكون الوجه في اختيار الثالث والرابع مقايسة اختيار سنة الشهادة إلى تصحيح الحديث الحاكي أمر الوليد بن يزيد بن عبدالملك (147) باحراقه عند ظهور يحيى بن زيد سنة 125، كتب إلى يوسف بن عمر: إذا اتاك كتابي فأنزل عجل أهل العراق وانسفه في اليمّ نسفا، فلما وقف على الكتاب امر خراش بن حوشب فأنزله من جذعه واحرقه بالنار وجعله في قواصر وحمله في سفينة وذرّاه في الفرات. وفي حديث أبي حمزة الثمالي بعد ان احرقه دق عظمه بالهواوين وذرّاه بالعريض من اسفل العاقول، وإذا كان العاقول موضعاً قريباً من الفرات امكن ان يتفق الحديثان بان بعضه ذُرّي في البر وبعضه في الفرات. ولعل ما في ( تذكرة الخواص ) من ان رماده ذروه في الماء والريح، وقول ابن خلكان في ترجمة الهيثم بن عدي من ( الوفيات ) ذُرّي رماده في الرياح على شاطئ الفرات يشير إلى هذا المعنى. ولم نعرف الوجه في تعيين القول الخامس والسادس.

* * *

الكرامات التي ظهرت لزيد عليه السّلام
اثبت حفاظ الآثار من كراماته عشرة.
1. في تاريخ الشام ج 6 ص 25 وتاريخ الخميس ج 2 ص 357 والصواعق المحرقة ص 101 واسعاف الراغبين للصبان وعمدة الطالب وسبك الذهب لابن معية: كانت العنكبوت تنسج على عورته فتسترها، وفي الحدايق الوردية إذا اصبح اهل الكوفة ورأوا النسج هتكوه بالرماح فإذا جاء الليل نسجت العنكبوت عليه.
2. في مقاتل أبي الفرج: صلبوه عرياناً فارتخى بطنه من قدامه وظهره من خلفه حتّى سُترت عورته من القبل والدبر. ولعل هذا بعد ان صنعوا ذلك في نسج العنكبوت.
3. في تاريخ الشام ج 6 ص 25، وحياة الحيوان للدميري بمادة [ العنكبوت ]: لما صلبوه وجّهوا وجهه إلى جهة الفرات فدارت خشبته إلى ناحية القبلة حتّى فعلوا ذلك مراراً.
4. في امالي الشيخ الطوسي: قدم الكوفة رجل من بلنجر بعد قتل زيد فقال: ألا ترون إلى هذا الفاسق ابن الفاسق كيف قتله الله. فلم يلبث ان رماه الله بقرحتين في عينيه فطمس الله بهما بصره فقال أبو زط الكوفي: احذروا أن تتعرضوا لأهل هذا البيت إلا بخير.
5. في الحدايق الوردية: مرت على خشبته امرأة فرأته عرياناً فرمت عليه خمارها فالتاث بمشية الله تعالى وستره فصعدوا له وحلوه.
6. فيها أقبل رجلان من بني ضبة ويد كل واحد منهما في يد صاحبه حتّى قاما بحذاء الخشبة فضرب احدهما بيده على الخشبة وهو يقول: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ان يُقَتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّعَ ايديهم وارجلهم من خلاف. فذهب لينحّي يده فانتثرت فيها الأُكلة ووقع على شقه فمات.
7. فيها يحدث شبيب بن غرقد قال: قدمنا الكوفة من الحج فدخلنا الكناسة ليلاً، فلما كنا بالقرب من خشبة زيد اضاء الليل، فلم نزل نسير نحوها فنفحت منها رائحة المسك، فقلت لأصحابي: هكذا توجد رائحة المصلوبين، وإذا بهاتف يقول: هكذا توجد رائحة أولاد النبيين، الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
8. فيها أنّ رجلاً مر على خشبته فوضع اصبعه عليها وقال: هذا جزاء الفاسق ابن الفاسق، فغاصت إصبعه في كفه.
9. فيها: ان عرزمة أخا كناسة الاسدي جلس في مجمع الأسديين بالقرب من خشبة زيد، فكان يلتقط حُصيّات ويرمي بها زيداً يصنع ذلك كل يوم، يقول إسماعيل بن اليسع العامري: فوالله الذي لا إله غيره، ما مات حتّى رأيت عينيه مرقودتين كانهما زجاحتان خضراوان.
10. فيها: لما ذُرّي رماده في الفرات استدار كهلة القمر وضاء.
هذا ما حفظه ارباب الآثار في جوامعهم، ولا أخال كل من تُتلى عليه الا ويتجلى له عمود الحق وترتفع عنه غشاوة كل شبهة، فيحفظ لبطل النهضة الهاشمية، ومصلح الأمة الإسلامية مقامه الرفيع بين المستشهَدين في سبيل قلع الفساد.

* * *

الرأس المقدس
لما قطع يوسف بن عمر رأسه بعث به وبرؤوس اصحابه إلى هشام بن عبدالملك مع زهرة بن سليم، وفي ضيعة ام الحكم ضربه الفالج فانصرف واتته جائزته من هشام (148)، ودفع هشام لمن اتاه بالرأس عشرة دراهم، ونصبه على باب دمشق (149)، ويروي (150) انه ألقى الرأس امامه فاقبل الديك ينقر رأسه فقال بعض من حضر من الشاميين.
اطردوا الديك عن ذُؤابة زيدٍ فـلقد كـان لا يطاه الدجاجُ

وقال المبرد في الكامل (151): قائل هذا البيت بعض الشيعة فانه رأى يوسف بن عمر الثقفي ألقى الرأس الطاهر إلى الديك ينقره.
بعث هشام بالرأس من الشام إلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وآله فنُصب عند قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله يوماً وليلة (152). وكان العامل على المدينة « محمد بن إبراهيم بن هشام المخزومي »، فتكلم معه ناس من أهل المدينة ان يُنزله فأبى إلاّ ذلك، فضجت المدينة بالبكاء من دور بني هاشم، وكان كيوم الحسين عليه السّلام. ونظر إلى الرأس كثير بن المطلب السهمي فكى وقال: نضّر الله وجهك ابا الحسين عليه السّلام وقتل قاتليك. وكان كثير يميل إلى بني هاشم لأن أم أبيه المطلب، أروى بنت عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف، فقال له الوالي: بلغني عنك كذا وكذا، قال: هو كما بلغك، فحبسه وكتب إلى هشام بن عبدالملك يخبره فقال كثير وهو في الحبس (153):
إنّ امــرأً كـانت مـساويه حُـبَّ الـنبيّ لَغير ذي ذنْبِ
وكـذا بـني حـسنٍ ووالدُهُم من طاب في الأرحام والصُّلبِ
ويَــرَون ذنـباً إن أُحـبَّكمُ بـل حُـبُّكم كَـفّارةُ الـذَّنْبِ

* * *

زوجاته
تزوج ستاً من النساء، أوّلهن ريطة بنت أبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية، وأمها ريطة بنت الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، وأمها بنت المطلب بن وداعة السهمي، وكانت ريطة بنت أبي هاشم من سيدات نساء بني هاشم ومجيداتهن، روت الحديث عن أبيها وبعلها (154)، وهي التي عناها أبو ثميلة الأبّار (155) بقوله (156):
فـلعلّ راحـم أم موسى والذي نـجّاه مـن لُـجج خِضَمّ مُزيدِ
سـيسرّ ريطة بعد حزن فؤادها يحيى ويحيى في الكتائب مرتدي

والثانية والثالثة من أهل الكوفة، تزوجهن أيّام إقامته في الكوفة، ويظهر من ابن خلدون (157) أنه تزوج في الكوفة باكثر من اثنتين، والكوفيتان واحدة ابنة يعقوب بن عبدالله السلمي أحد بني فرقد، والثانية ابنة عبدالله بن أبي العنس الازدي، وهذه ولدت له بنتاً ماتت في أيامه (158). والثلاثة الأُخر أمهات أولاد.

* * *

اولاده
اتفق أهل النسب وغيرهم على انه لم يخلّف إلا أربعة بنين وليس له اثنى، وهم يحيى أمُّه ريطة بنت أبي هاشم، وعيسى أمه أم ولد نوبية اسمها سكن (159)، والحسين ذو الدمعة أمه أم ولد (160)؛ ومحمد وهو أصغرهم أمه أم ولد من السند (161).