صمود وانتصار

لا يجوزُ أن نكونَ أقلَّ من العدوان تحمُّلاً، أو أن نتراخَى عن طلب هزيمتهم والتنكيل بمرتزقتهم..، الصبر.. يعقبُه النصر

 

يختارُ اللهُ ويصطفي من عِبَادِه أقواماً لأدوارٍ كبيرةٍ وعظيمةٍ، ويؤهِّــلُهم لمقامات عالية، بما صبروا على عظيم البلاء، وأيقنوا بحسن العاقبة، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)؛ ولهذا أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة الاستعانة المطلقة، في كل الأمور، وجميع الحالات، يقول الله تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)، ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، والاستعانة المطلقة باب واسع يطرقه المؤمن ويجد الله عنده.

وما أجدرَ اليمنيين اليوم وهم في أوْجِ محنتهم، وخِضَمِّ آلامهم، أن يستعينوا بالصلاة، وأن يستعينوا بالصيام، وأن يستعينوا بالصبر؛ ذلك أنه هو السلاح الأمضى في معارك الإرادات، وهو الأفتك في مراحل الاستراتيجيات.

الصبرُ يضبُط الإنسان عند الشدائد، ويهوِّن عليه المصائب، ويدفعُه للتحرُّك إلى الأمام في المسارعة إلى الطاعات والاستمرار عليها، وكبْحِ جماحه عن المعاصي، والنكوص عن مواطن الخير، ومكامِنِ العز، وجبهاتِ الكرامة، وساحات الغيرة. والصابر هو الذي لا يتأخّر حيث يجب التقدم، ولا يتقدم حيث يجب التأخر، ومثلما لا يرتاعُ للمكارهِ والنوازل، لا تُبْطِره النِّعم والفواضل.

في خضم هذه الأمواج من الحروب الظالمة، وظلمات الاستبداد القاتمة، ما أجدرَ الإنسانَ المؤمنَ وهو يخوض معركة الفضيلة ودرءَ الرذيلة عن الأرض والعِرض، أن يتسلّح بهذا السلاح الفعّال والنشِط والقادر على قلب الموازين المادية رأسا على عقِب، وهو يرى هؤلاء الأنذال والأوغاد، وشذاذَ الآفاق، وقد تداعوا علينا من الشرق والغرب، بنفسياتهم الحقيرة، وسوابقهم الخطيرة، وفعلاتهم الشنعاء، وجرائمهم الصلعاء، ما أجدرَه أن يكتسب بالصبر قوة إضافية إلى قوته، وطاقة متنامية إلى طاقته، وسيكون له النصر والظفَر خاتمة طبيعية في نهاية المطاف.

لما جاوزَ طالوتُ وجنودُه النهرَ، ورأوا إمكاناتِ عدوِّهم جالوت المادية الهائلة والمتفوقة، تحدّث فريقان من جنود طالوت عن توقعاتهم، فقال المتعجِّلون الذين لا يضعون حسابا للقيم الروحية والعوامل المعنوية، ويقيسون الأشياء بمقاييس المادة الغليظة، (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ)، لقد أسرعوا بالتعبير عن توقعاتهم المتهالكة، شأنُهم شأن الضعاف الذين يسارِعون بإبداء الرأي السريع، والنظرة المادية المتهالكة، وقد بدأ القرآنُ الكريم بحكاية موقفهم؛ لأنهم هم المتعجِّلون دائما، والمسارِعون بإبداء الرأي البعيد عن الصبر والقيم الروحية.

الصبر.. طاقةُ الجهاد المتجدّدة

غير أن الفريق الآخر- الذي يعيش حياة الإيمان، ويكتسب قوته المادية من قيَمِه الروحية، ويؤمن بقضية الصبر والروح وتفوُّقِهما على قضية المادة والعدة، ويُصْدِر أحكامَه المتأنِّية بالنظر في سنن الله التي لا تغيب عن الواقع – هذا الفريق أعلنها بصراحة اليقين: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

إنهم طرقوا أهمَّ مسألةٍ يمكِنُها قلْبُ الموازينِ المادية رأساً على عقِب، إنها مسألةُ الصبر، التي لن تكون بمستواها العالي (الصبر الجميل) (صبر أولي العزم) إلا في صف المؤمنين، الذين ينفتحون بقلوبهم وعقولهم على الله (الصبور) (الناصر) (الوكيل) (القهار) (الجبار) (القوي) (اللطيف)، ويرتبِطون به ارتباطا وثيقا، ويرتقون في أسبابه؛ لهذا يعلنون أن الصبر بتوفيق الله وإمداده هو ما سيغيِّر موازين القوة المادية على الأرض، (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). وكانت النتيجة (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ).

ومن ذلك معركتُنا اليومَ ضد هذا العدوان السعودي الأمريكي؛ إذ ظهر فيها جليا وواضحا أن مجاهدي يمن الإيمان، يتفوّقون على عدوان قرن الشيطان، بهذا العامل المعنوي القوي، بهذا الصبر استطاعوا الثبات هذه المدة الطويلة، وبه كبحوا جماح آماله العريضة، وظهروا كالأسود الضارية يهاجمون معسكرات العدو، فلا يلوي جنودهم على شيء سوى الفرار، ويتصدون لجحافله الشيطانية، كالجبال شموخا وقوة وصمودا.

إن مشاهدَ كرِّ وهجوم مجاهدينا الأبطال – في ظروفِهم وأسلحتهم وخياراتهم المتواضِعة ضد العدوان في ظروفه وأسلحته وخياراته المادية العسكرية المرتفعة والمتطورة حيث يفرُّ جنودُه فرارَ النعاج من الأسود – لتشكّلُ مثالا رائعا وحكاية جميلة تُبْرِز هذا العاملَ العظيم الذي سيكتبُ النهايةَ العزيزةَ لأولياء الله وإن ضعُفَت إمكاناتهم، والمُذلة لأعدائه وإن عظُمت خياراتهم.

يقول الله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

في مواقع الطاعة والقرب من الله، في ميادين الجهاد ترتفع النفس عن دنس المعصية؛ لانشغالها بعظيم الهدف وكريم الوِجهة، ونُبْل المقصد، وفيه تسمو النفسُ عن عبودية الهوى لاتصالها بالمعبود الحق الذي لا إله إلا هو، وفيه تتقدّس المشاعِرُ لتخرُجَ من طورِ البهيمية التي ارتكست فيها من خلالِ الإيغال في الشهوات إلى سموِّ الروح، وجمالِ الفكرة، فيها يشعُر المسلمُ أنه مأمورٌ من قبل خالقِه المنعِم عليه الذي يجب امتثال أمره، فتكون نفسُه أطوعَ لأمره، وأقربَ إلى الخوفِ من نهيه وزجره، فلا تثقُل عليه طاعة، ولا تتحبّب إليه معصية.

ولا طاعة اليوم أوجب من طاعة الجهاد، ضد الغزاة المعتدين وأهل الفساد، ولا معصية أقبحُ من معصية اللاموقف، وجريمة الحياد السلبي الذي ينصُر الباطل والشيطان، ويخذل الحق والرحمن، ويميت قضية الصبر، التي هي عنوان كبير من عناوين تربية الله وتهيئته لعباده العظماء.

علينا أن لا ننكِسرَ، ولا نضعُفَ، ولا نستكينَ، أمام هؤلاء المعتدين، فإنه بطولِ عُمْرِ العدوان يطولُ عمْرُ ثباتنا، ويعلو بناءُ صبرنا.

وبقدر تحدي العدوان لنا ينمو ويشتد ساعد صمودنا.

وبقدر تحديات المحنة الكبيرة، يؤهلنا الله للدور العظيم فيها، فإن لهم قعرا سحيقا في الخزي، لا يبلغونه إلا بهذا العدوان، وإن لنا منزلا كريما عند الله وفي هذه المرحلة لا نبلغه إلا بهذه التضحيات.

والصبرُ عاقبتُه الظفر

ومن الأشجار ما تحتاج من الناحية الطبيعية إلى أكثر من عشر سنوات لتعطيَ الثمارَ المطلوبة، وقد صدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لما قال كلِمة مهِمَّة وملهِمة: (لا يعدم الصبورُ الظفرَ وإن طال به الزمان).

الصبرُ مفتاحُ كلِّ خيرٍ …. وكلُّ صعبٍ به يهونُ

وطالما نيلَ باصطبارٍ …. ما قيل: هيهات لا يكونُ

لا يجوزُ أن نكونَ أقلَّ من العدوان تحمُّلاً وتجمُّلاً، ولا يجوزُ أن نتراخَى عن طلب هزيمتهم والتنكيل بمرتزقتهم، (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً).

وإذا كانت عاقبةُ الهزيمة في هذا العدوان هو العبودية والاستذلال والاستضعاف لعشرات ومئات السنين، فإنه لخيرٌ من ذلك أن نصبر الصبر الاستراتيجيَّ لبضعِ سنوات في مقاتلتهم، وملاحقتهم، وابتغاءِ هزيمتهم.

صبرٌ في منهاج الكرامة والعزة بضعَ سنين، خيرٌ من حياة في ذلةٍ ومهانةٍ واستضعافٍ مئاتِ السنين.

وصبرٌ على طاعة الله في مواجهتهم، خير من معصية الله بالانكسار أمامهم.

وصدق الإمام علي عليه السلام حين قال: (مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ أَهْلَكَهُ الْجَزَعُ)، وبذلك الخيارِ تميّز العقلاء الثابتون، وفاز الشجعان الأكرمون، ونجى الفرسان الصامدون، وخاب الأذلاء الأضعفون.

ومع ذلك وتحدُّثاً بنعمة الله فإن مجاهدينا الأبطال قد صبروا جميلاً على مقاساة الأهوال الشديدة، والغربة الأكيدة، صبروا على الجوع، والعطش، وعلى انعدام تكافؤ الأسلحة، وقّلتها، وتحدّوا أحدثَ أسلحة الطيران، وصبروا على أذى المرتزقة، وخياناتهم المتكررة، ولم يزعزعْ ثقتَهم إعلامُ المعتدين الكذوب، ولا كثرة درّ بقرتهم الحلوب.

صبروا على حرب الاقتصاد، وإرجاف أهل العناد والفساد، وكيد الكائدين، وتربُّص المتربصين، وعلى مشاهدة الدمار، ومقاساة الأهوال، وتقطُّع الأوصال، ورؤية الأصدقاء والأقارب وهم يغادرون الحياة في وحشية قاهرة، وظروفٍ فاجرة. صبروا على التلاعب بالمشاعر، والكيد في القنوات والمنابر.

وإن تعجبْ فمن تلك المرأة اليمنية التي يتكرَّر مشهدُها يومياً، وهي تستقبلُ شهيدَها الوحيد، مزغرِدةً مسرورةً.

صبرٌ جميل في الفراق، وزغردة عند الوداع، وفرحٌ عند نبأ الصدمة الأولى، بشكلٍ لم نشهد له في التاريخ مثلا، وهل ذلك إلا الصبر الجميل، الذي لم يكن اليوم إلا اليمنيون، وما كان اليمنيون إلا إياه.

إن المجاهدين الأبطال وكلَّ فئات شعبنا اليوم أحوجُ ما يكونون إلى الصبر الواعي في كل لحظة من لحظات تحركهم الجهادي من بدايته إلى نهايته.

وأعظم صبرٍ يجب عليهم هو الصبر على الامتثال لتعاليم الكتاب والسنة الصحيحة، ثم الامتثال لأوامر القادة المحنَّكين والمجرِّبين، والحرص على الاعتصام وتجنب التنازع، حيث يُورِث ذلك كلُّه النصرَ والظفرَ، (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

ما أحوج الأمة اليوم إلى مزيد من ذلك، ليس في ميدان المعركة المباشر، ولكن في الميادين المختلفة التي تتعلق بالمعركة.

نحن بحاجة إلى الصبر الذي يثبّت الأقدام في المعركة، وفي الموقف الحق، وفي الطريقة المرضية، وفي تجاوُزِ الشائعات، وفي الترفُّع على الأذى الذي يبخَس المجاهدين وأهلَ العطاء، وفي التعالي على إساءات المنافقين، وعند تشفِّيهم من تضحيات المجاهدين، كلُّ ذلك نستطيعُ تجاوزَه من خلال الصبر، يقول الله تعالى: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

ويقول الإمام علي عليه السلام: (فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا، وَأَعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا، فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا، وَعَلَا سَنَاهَا، وَاسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى النَّصْرِ). وما أجملَها من كلمةٍ تجعلُ الصبرَ سببا للظفر والنصر.

إني رأيتُ وفي الأيامِ تجربةً … للصبرِ عاقبةً محمودةَ الأثرِ

وقلَّ من جدَّ في أمْرٍ يحاولُه … واستصحب الصبرَ إلا فاز بالظفَرِ

يقول الله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ). وفعلاً طالما كان هذا سلوكَ المجاهدين الصابرين الماضين على درب الإيمان الذين لا يلتفتون إلى السفاسف، ولا يُعيرون أيَّ أهمية لسيول الزخارف، (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

أخيراً بالصبر تستطيعُ الأمة تجاوزَ محنتها وآلامِها والانتصارَ على بلائها، وبالصبر يصغُر هذا الأذى المتمثل في الإعلام الإبليسي والتضليل الإعلامي، والذي يقصَدُ به انتهابُ عقول الناس، وبعثرة اطمئنانها، وصناعة إذعانها، والإطاحة بيقينها عن خاتمة النصر ويقين الظفَر.

بالصبر تقدِرُ الأُمَّــةُ على مواجهة مصاعبِ الحياة فتجتاز الأهوال بتؤدة وطمأنينة، ولا تبالي بشظف العيش، ولا معرَّة الحرب، ولا بطول أمدها، وهذا هو ما يثبته شعبنا اليمني البطل المجاهد، (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

صبرٌ في منهاج الكرامة والعزة بضعَ سنين، خيرٌ من حياة في ذلةٍ ومهانةٍ واستضعافٍ مئاتِ السنين

الإمام علي عليه السلام: (مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ أَهْلَكَهُ الْجَزَعُ)