عن كمال الإيمان واليقين
يقول الإمام زين العابدين(ع) في دعاء له في الصَّحيفة السَّجاديَّة: “اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِه، وبلِّغْ بإيمَاني أكْمَلَ الإيمانِ، واجْعَلْ يَقِيني أفْضَلَ اليَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيّتي إلى أحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلي إلى أحْسَنِ الأعْمَالِ“[1].
يا ربّ، لقد أردت لنا أن نؤمن بك من خلال المعرفة الواسعة الشاملة العميقة، التي تكشف لنا آفاق عظمتك، وسرّ جمالك، وهيبة جلالك، وتنفتح بنا على معنى ألوهيتك، لنتفهم من خلالها، معنى عبوديّتنا لك، ونتعرّف إلى توحيدك، لنجد في داخله توحيد العبودية فينا لك، لنكتشف فيها سرّ الحرية المطلقة عندنا أمام الكون كلّه، وآمنّا بك في قلوبنا، التي تكاملت مع عقولنا، فكان العقل يحرّك الفكر من خلال كلّ عناصر الحجّة القاطعة، وكان القلب يشرب الفكرة، ويحوّلها إلى دماءٍ تجري في العروق، ونبضات تهتز في الدماء المنسابة في كلّ أجزاء الجسد، وبذلك، كان الإيمان حسّاً داخليّاً يمتزج فيه الفكر بالعاطفة، فيمنح الفكر حركته من خلال خصوصيته الشعورية، لأنّ الفكر الجافَّ الذي لم يرتشف من ينابيع الشعور، لا يستطيع أن يهزّ الإنسان في حركة العواصف القادمة من هنا وهناك.
وفي ضوء ذلك، كان الإيمان حركةً في الوعي، وإرادةً في الموقف، وانفتاحاً على الحقيقة، وليس ـ كما يخيّل إلى البعض ـ حالةً عمياء تختزن في داخلها معناها، ولا تفتح آفاقها للشروق، لأنها في آفاق العقل ـ كما يقول هذا البعض ـ فوق العقل، فهي ابنة الوجدان الذي يلتقي مع الغيب الشعوري، الذي يطلّ على الذات من بعيد، فيغمرها بالحقيقة، كما هو المطر عندما يغمر الأرض.
ولكن ما هو الوجدان؟ وما هو الشّعور؟ إنهما يبدآن فكرة، ثم يمنحان الذّات الجوَّ الداخلي الذي يملك امتصاص الحقيقة بسرعة، ويُحسن اللقاء بالأسرار بعمق.
لقد خلقتنا ـ يا رب ـ كوناً متعدّد الجوانب، متنوّع العناصر، مختلف الأبعاد، ولكنك لم تفصل جانباً عن جانب، ولم تفرّق بين عنصرٍ وعنصر، وبين بُعدٍ وبُعد، بل زاوجت بينها، فعاشت الفكرة وحي العاطفة، وانطلقت الخطوة في خطّ التزواج بين الفكرة والعاطفة، الّذي تحوّل إلى الإيمان، والتقى الحسّ بالعقل في مزيج إنسانيّ روحيّ، فكان الوجدان.
ولعلَّ مشكلة الَّذين يفرّقون بين العقل والوجدان، أنهم يفهمون العقل معادلةً في الحسابات، بينما يتصوّرون الوجدان انطلاقة في الخيال والمثال.
ولكنَّهم لم يدقّقوا في المسألة، ليعرفوا أنّ الوجدان يختصر المعادلة، ويستخلص منها النتائج، ليودعها في غيب الذّات، لينفتح عليها ببساطة كما لو كانت حالةً عفويةً في التصوّر والإحساس، وتلك هي أكثر البديهيّات الوجدانيّة التي تعيش مخاض الولادة في العقل، لتشرق في الوعي، ولتتحوّل إلى نور يقذفه الله في قلب من يشاء، تماماً كما هي النار تأكل الحطب الّذي يعاني الاحتراق، ولكنه يتحوّل إلى لهيب نوراني يمنح الدّفء والنور لكلّ الذين يتجمدون في صقيع الظلام.
لقد خلقتنا ـ يا رب ـ روحاً تمتزج بالمادة، ومادة تذوب في الروح، فيكون الإنسان وحدةً فيهما لا ازدواجيّة فيها، ويعيش الإيمان في داخل هذه الوحدة بين العقل والشعور.
لقد آمنّا بك، ولكن كان إيماننا في البداية طفلاً يختزن سذاجة الطفولة في حركته في داخلنا، لأنّ الفكرة كانت غريزة، وكان الإحساس طفولياً، ثم انفتحت آفاق الإيمان على فكر جديد تتسع فيه الآفاق، من خلال غناها المتنوع، وعلى تجربة جديدة تتحرك فيها الذات للحصول على خبرة جديدة.. وهكذا كان الإيمان يتعمّق ويزداد كلَّما توسعت المعرفة، وانفتحت من خلال الفكر والتجربة، وكان للوحي في آيات الله دوره الحيوي في الوصول إلى النتيجة الكبرى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}[2].
وفي ضوء ذلك، فإن بساطة الإيمان لا تمنعه من النمو والزيادة والحركة في درجات الكمال، لأنَّ الإيمان بالشيء قد يحصل بدرجة معيّنة، من خلال الإحساس بوجوده في جانب من الجوانب، ثم يتعمَّق وينمو في ذاتية الشعور، كلما انفتحت له الجوانب الأخرى، لأنَّ الغموض في بعض ملامح الصورة، لا يمنع من الإيمان بها من خلال انكشاف الملامح الأخرى، ولكنَّ الحجاب الذي يرتفع من هنا وهناك، فيزيل الغموض، يمنح الإيمان إشراقة وراحة وانفتاحاً على مستوى الحالة في الإحساس، والوعي في المضمون، وهذا ما توحي به الآية الكريمة التي تؤكّد أن زيادة الإيمان تحصل من خلال تلاوة الآيات في مضمونها الفكري وفي إيحاءاتها الروحية، الأمر الذي ينعكس على نوعية الحالة في طبيعتها الذاتية وفي مضمونها الداخلي، وهذا ما توحي به كلمات الإمام الصادق(ع) في قوله: “إن الإيمان عشر درجات بمنـزلة السلّم، يصعد منه مرقاةً بعد مرقاة“[3]. وعن الزبيري عن أبي عبد الله جعفر الصّادق(ع) قال: قلت له: إنّ للإيمان درجات ومنازل يتفاضل المؤمنون فيها عند الله؟ فقال: “نعم“[4]. وعنه(ع) أنّه قال: “إنّ الإيمان حالات، ودرجات، وطبقات، ومنازل: فمنه التامُّ المنتهي تمامه، ومنه النّاقص البيِّن نقصانه، ومنه الرّاجح الزائد رجحانه“[5].
وقال بعض الشّارحين ـ تعليقاً على هذا الحديث ـ: التامّ المنتهي تمامه، كإيمان الأنبياء والأوصياء، والناقص البيّن نقصانه، هو أدنى المراتب، الّذي دونه الكفر، والراجح الزائد رجحانه على مراتب غيره محصورة باعتبار التفاوت في الكميّة والكيفيّة.
يا ربّ، إنني أتوسّل إليك أن توفّقني من خلال الفكر والممارسة الروحية في عبادتك ومناجاتك، وحيوية الإقبال على طاعتك، للوصول إلى الذوبان الروحيّ في رحاب قدسك، وأن أعيش الخطّ التصاعديّ في تنمية هذا الإيمان المنفتح على حقيقة توحيدك وخطّ رسالتك في حركة رسلك، وتقويته وإكماله، حتّى يصل إلى الدرجة العليا التي تبلغ بي إلى الغاية المثلى.
وأن تفيض عليَّ من ألطافك وفيوضاتك القدسيّة، اللّطف الروحيّ، والفيض الفكري الذي يزيد إشراقة العقل، وإضاءة القلب، حتى أتجاوز كلّ ظلمات الشكوك والشبهات، وألتقي بكلّ الحقائق التوحيدية في توحيدي إياك، وإيماني بك وبرسلك وبرسالتك، وأجعل حركتي في اتجاه حركة الإخلاص التي ألتقي فيها برضاك.
[آفاق الروح، في أدعية الصحيفة السجاديّة، الجزء الأوّل].