صمود وانتصار

ماذا يحدث عندما يقرر آل سعود شقّ عصا الطاعة؟

الصمود || متابعات

في شتاء سنة 1965، استرعت انتباه عملاء الـ«أف بي آي» أنشطة غريبة يقوم بها تجار السلاح في الولايات المتحدة. كان هؤلاء يسعون إلى عقد صفقات للحصول على طائرات حربية قديمة خرجت من الخدمة في سلاح الجو الأميركي. ولمّا كان اقتناء مثل تلك الطائرات المستعملة، وصيانتها، واستخدامها أمراً مكلِفاً وغير دارج لدى زبائن السوق السوداء للسلاح، كان إقبال التجار وحرصهم المفاجئ على الشراء مسألة مثيرة للدهشة وللريبة معاًَ.

 

 

وما لبثت هذه القصة أن أصبحت أكثر إثارة عندما أخذ أولئك التجار ينقلون طائراتهم إلى كندا، مستغلين في ذلك بَنْداً في القوانين الأميركية يجيز الاتجار بين الدولتين من دون الحاجة إلى الحصول على تراخيص تصدير. ظل مكتب التحقيقات الفيدرالي لأشهر يراقب عن كثب هذه الصفقات المشبوهة من دون أن يتدخل، وأحصى محققوه عبور ثلاث وعشرين طائرة حربية قديمة منطقة البحيرات الكبرى متجهة نحو الأجواء الكندية.

 

كانت تلك الطائرات في معظمها من مخلفات أيام الحرب العالمية الثانية، وبعضها كان من طراز «دوغلاس سي 47 سكاي ترين» يستخدم للنقل العسكري، والبعض الآخر كان قاذفات قنابل متوسطة من طراز «مارتن بي 26». وكل تلك الطائرات كان يقودها مرتزقة، عملوا في الماضي طيارين في الجيش الأميركي.

 

«غزوة» الملك المخلوع

 

لم تكن «سي آي إيه» أيضاً غافلة عمّا يجري من الحركات المريبة في الكواليس السرية لتجارة السلاح. ودلّتها متابعتها على أن الوجهة النهائية للطائرات ليست كندا، فهذه الأخيرة ما هي إلا محطة في الطريق إلى البرتغال. كان أنطونيو سالازار، الديكتاتور العجوز، لا يزال قابضاً على مقاليد السلطة في لشبونة، وقد حوّل بلاده، في عهده المديد، إلى مستودع كبير لتجار السلاح. وأثبتت تحرّيات المخابرات الأميركية أنّ المشتري الحقيقي لصفقة الطائرات لم يكن سوى الملك المخلوع عن عرشه سعود بن عبد العزيز الذي نُفي من بلاده، قبل أشهر، فظل يتنقل بين جنيف ونيس وأثينا. ولم تكن قضيّة الطائرات الحربية إلّا رأس جبل الجليد الذي أوصل إلى اكتشاف مؤامرة عائلية كبيرة تحاك ضد الجناح الحاكم في المملكة السعودية. وشيئاً فشيئاً بدأت «السي آي إيه» تكتشف أنّ الملك سعود يحاول أن ينشئ لنفسه جيشاً من المرتزقة، ويسعى لكي يمدّهم بعتاد حربي كامل يبذل في سبيل اقتنائه بضع عشرات من ملايين الدولارات. لكنّ الجزء الأكثر غرابة في هذه القصة، هو مقصد الملك المخلوع من وراء تجهيزه لسلاح جوّ خاص به. كان الرجل يعتزم – بكل بساطة – أن يستخدم جيشه الجديد والعجيب من أجل شنّ «غزوة» على عاصمة المملكة العربية السعودية، وتخليصها من أعدائه! لقد خطر في ذهن هذا الرجل المسكين أن يكرّر ما صنعه أبوه، قبل زهاء ستين عاماً، يوم أغار على الرياض بمجموعة من الجنود، وافتكّها من قبضة آل رشيد، واستعادها إلى حظيرة آل سعود. لم يكن ملك السعودية السابق يعِي جيّداً أنّ الظروف قد تغيرت كثيراً وعميقاً في هذا العالم، عمّا كان عليه الحال في عصر قبائل الصحراء قبل بزوغ النفط. وكان الشيء الأكثر مدعاة للأسف في كل هذه الخطة البلهاء، أنها تظهر تماماً حقيقة المستوى الذهني لتفكير ملك سعودي. وبالطبع، لم تنجح خطة الملك سعود في استرجاع الحُكم. وتدخلت الحكومة الأميركية لدى السلطات البرتغالية من أجل مصادرة الطائرات الثلاث والعشرين، واعتُقل المهرّبون، ووجهت إليهم تهمة انتهاك قوانين تصدير الأسلحة. ولم تشأ الحكومة السعودية – ولا الأميركية – أن تمضي قدُماً في معاقبة كل الضالعين في هذه المؤامرة، فبقي سعود حرّاً طليقاً. لكنّ أحقاد سليل العائلة المالكة على إخوانه الذين خلعوه وأهانوه وطردوه، ما كان لها أن تخمد نيرانها بمجرد فشل خطة واحدة. وهكذا فإنّ الملك المعزول قرر أن يمضي في حربه الشخصية حتى نهاية المظاف.

 

الارتماء في أحضان «العدو»

 

في ذلك الزمان، لم تكن «إيران الفارسية ومخططاتها الشريرة» قد تناهت إلى أسماع آل سعود، بل كان «الشرّ» عند السعوديين يستوطن في مكان آخر بعيد اسمه مصر. ولم يجد حكام الرياض قطّ خيراً في تطلعات الرئيس المصري جمال عبد الناصر لقيام مشروع قومي عربي، فدأبوا على اتهام الرجل بالتآمر عليهم، والوقوف وراء كل مشكلة تعترضهم. واستشرى العداء السعودي لمصر، بعد اندلاع حرب اليمن التي قسمت البلاد فريقين: دعم عبد الناصر أحدهما، ورعى الملك سعود ــ قبل خلعه ــ الطرف الثاني. ولكن على نحو مفاجئ، ومن دون سابق مقدمات، وصلت إلى الرئيس عبد الناصر، في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1966، رسالة من «أخيه» الملك سعود تحمل في طياتها التحية والمودة والسلام. ولم تكن العلاقة الشخصية بين الرجلين قد اكتنفها ــ في الماضي ــ السلام ولا المودة. لا، بل إنها وصلت إلى أسوأ مستوياتها حينما دفع سعود أموالاً لإسقاط طائرة ناصر في الجو، وإجهاض الوحدة المصرية السورية سنة 1958. وتدهورت العلاقة بين الرجلين أكثر فأكثر، قبل أربع سنوات، عندما أُطيح حكم الإمامة في صنعاء، فاعتبر سعود ذلك مقدمة ناصرية لإطاحة عرش أسرته. وفي رسالة الملك للرئيس، ورد النص الآتي: «استخرنا الله عزّ وجلّ، ونوينا الإقامة بوطننا الثاني بين إخواننا في الإسلام والعروبة، في الجمهورية العربية المتحدة». ولم يجد عبد الناصر ضرراً في لجوء سعود إلى حِماه، لكنّ الممسكين بالسلطة في الرياض ثارت ثائرتهم على هذه الخطيئة الجديدة التي اقترفها الأخ المعزول. لقد أصبحت قضية سعود تتعدى شق عصا الطاعة، لتصل إلى حدّ الخيانة العظمى. والحقيقة أنّ قصة ارتماء سعود في أحضان «العدو اللدود» عبد الناصر، كانت تمثل للسلطة السعودية فضيحة، في تلك الأيام؛ وهي تشبه، في زمننا هذا، أن يهرب ولي العهد المعزول محمد بن نايف من جدّة، ويلتجئ إلى الولي الفقيه في طهران! وسريعاً ما قرّر الملك فيصل أن يردّ على أخيه المتمرد بإلغاء جوازات السفر الخاصة به وبأبنائه وجميع أفراد حاشيته، وبقطع المخصصات الملكية عنهم. ولم تحرك إجراءات فيصل ساكناً في سعود، فلم يكن ينقصه المال. لكنّ الملك المخلوع سريعاً ما انتبه إلى احتمال حصول مؤامرة تُنسج بين إخوته وحكومات الغرب، وتؤدي إلى تجميد أرصدته في مصارف أوروبا. ولم تكن مسألة تواطؤ الأميركيين في عملية خلعه وإبعاده عن بلده، بعيدة عن ذهنه. وخطر لسعود أن يسحب أمواله من بنوك «الكفار»، ويجعلها بين يديه مباشرة. فاشترى لأجل هذا الغرض ثلاث خزائن ضخمة مقاومة للحرائق، وخصّص لها غرفة في جناحه الخاص في الطابق التاسع من فندق «شبرد» الواقع على ضفاف النيل، في «غاردن سيتي». وبحسب ما يذكره الكاتب البريطاني روبرت ليسي في الصفحة 228 من كتابه «المملكة»، منسوباً إلى أحد أبناء الملك سعود، فإنّ «كل واحدة من هذه الخزائن الثلاث تحتوي على ما لا يقل عن خمسة عشر مليون جنيه استرليني، من العملة والسبائك الذهبية والمجوهرات».

 

«تسقط الرجعيّة… تسقط الإمبرياليّة»

 

ولم تتوقف محاولات الملك سعود للانتقام من أعدائه عند حدّ، فلقد وصلت به شهوة الثأر إلى درجة جعلته يكتب مذكرة إلى جمال عبد الناصر، قال فيها إنه «يستطيع إنهاء حرب اليمن وحسمها بأسرع مما يمكن الجيش المصري أن يفعله، ومن دون أية تضحيات من الجانب المصري». وقال إنه «يعرف كل زعماء القبائل اليمنية، ويستطيع شراء ولاءهم بالذهب، وإنه مستعد لبذل آخر جنيه ذهبي لديه في سبيل هذه الغاية التي ستضع فيصل في موقع الخاسر». ولم يجد الرئيس المصري مانعاً في تجريب خطة ملك السعودية لشراء ولاء القبائل المتمردة، وفعلاً سافر سعود إلى صنعاء، في يوم 23 نيسان/ أبريل 1967، واستقبله الرئيس اليمني عبد الله السلال بحفاوة. وبقي الملك السعودي السابق في اليمن أسبوعاً كاملاً يلقي الخطابات الثورية المؤيدة لقيام الجمهورية، والمناهضة للأنظمة «الرجعية عميلة الإمبريالية» في المنطقة العربية، ولا سيما نظام السعودية. وكانت تلك مفارقة مدهشة بكل معاني الكلمة! وبحسب ما أورده الكاتب المصري محمد حسنين هيكل في الصفحة 358 من كتابه «الانفجار»، فقد أنفق سعود بالفعل، في تلك الزيارة لليمن، ثلاثة أرباع مليون جنيه ذهبي على زعماء القبائل والمشايخ. على أنّ كل ما بذله الرجل المسكين المبتلى بالأمراض، والضعيف النظر في سبيل الانتقام من إخوته، ذهب أدراج الرياح إثر اندلاع حرب حزيران 1967، بعد شهر واحد فقط من تاريخ زيارته لصنعاء. وفي أعقاب الهزيمة الفادحة لمصر في تلك الحرب، وجد عبد الناصر أنّ عليه أن يصفّي خلافاته الجانبية مع الأطراف العربية المناوئة له، في سبيل التفرغ لما سمّاه «إزالة آثار العدوان الإسرائيلي على الأمة العربية». وكان من النتائج الطبيعية التي ترتبت على انفتاح مصر على حكومة الملك فيصل، الطلبُ من سعود أن يغادر بهدوء الأراضي المصرية، وأن يعود من حيث جاء. وهكذا أسقط في يد الملك المخلوع، فرجع مع حريمه، وعياله الذين تجاوز عددهم مئة نفر، وخزائنه المقاومة للحريق، إلى فندق «كافوري» المطل على شاطئ البحر في أثينا، حيث أمضى القوم عامين آخرين في التمتع بالملذات. ولعل أكثر ما كان يبعث على الهزل والتندر والضحك في أوساط المجتمع المخملي لمدينة أثينا: صراعات أنجال الملك الصبيانية حول أحقية أي منهم في ركن سيارته الفارهة أمام المدخل الرئيس للفندق الفخم، ومناظر الخدم الحفاة ــ الذين يَشكُّ كثيرون في أنهم ما زالوا عبيداً ــ وهم يحملون قصعات الكبسة والمنسف والمفطح فوق رؤوسهم، ويرتقون الدرج، كي يصلوا بالأطعمة إلى الطبقات العلوية حيث يقيم سعود وحاشيته، ومشاهدُ النساء المنقبات وهن يتشمّسن على حافة حوض السباحة في الفندق، وناقة الملك القابعة في الحديقة على مدار الشهور، وقد أتت على الشجيرات الخضراء فيها، والزبائن الذين يتقافزون في المسبح بكامل ملابسهم طمعاً في جوائز سعود السخية لمن يفعل ذلك.

 

 

مات الملك سعود في الساعة الرابعة والثلث من بعد ظهر يوم الأحد الموافق للثاني والعشرين من شباط/ فبراير 1969، بسبب إصابته بأزمة قلبية انتابته، وهو نائم على فراشه في فندق كافوري في أثينا. كان الرجل يعاني طوال طفولته من «الجدري» الذي نهش وجهه، وفي شبابه تفاقمت أمراض عينيه اللتين ضعفتا كثيراً، وفي كهولته نال الداء من كبده، وفي شيخوخته زادت عليه تعقيدات في أمعائه… ولكنّ أكثر ما فتك بقلب الملك المريض هو حقده الجارف على إخوته من آل سعود. وكان أشدّ ما يؤذيه هو أنه ــ برغم كل محاولاته ومساعيه ــ لم يستطع أن ينال منهم واحداًَ واحداً. كان الرجل يريد أن ينتقم، قبل أن يموت. ومن سوء حظه أنه لم يحصل على ما كان يتمناه، ولم يطل به العمر ليشهد انتقام أحد أبناء إخوته من أخيه اللدود.