نص وفيديو | المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1440هـ
نص وفيديو | المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1440هـ
الصمود / ٢٢ / مايو
متابعات /
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
وارض اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
اليوم هو الـ 17 من شهر رمضان المبارك، الذي شهد حدثا تاريخيا مفصليا واستثنائيا، ويوماً فارقاً في التاريخ، كان هو يوم بدر يوم التقى الجمعان، وغزوة بدر الكبرى هي حدثٌ عظيمٌ ومهمٌ وكبيرٌ ومؤثرٌ في مسيرة حياة البشرية، وفي مسيرة الإسلام العظيمة، وفي شهر رمضان المبارك أيضا، كان هناك حدثاً آخر هو فتح مكة، وهو كذلك يمثل حدثا مهما وتاريخياً وله تأثيراته الواسعة في ترسيخ قواعد الإسلام وفي بناء الكيان الإسلامي وفي تجذير المبادئ والقيم الإسلامية وفي رفع راية الإسلام وفي انتصار الأمة المسلمة.
نحن المسلمون في هذا العصر، أحوج ما نكون إلى الاستفادة من التاريخ وإلى الاستفادة من سيرة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) رسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، هو القدوة وهو الأسوة وهو الهادي، الذي يجب أن نهتدي به وأن نستفيد من سيرته، وأن نستلهم من حركته في الحياة ما يمثل هداية لنا ما يمثل معالم لنا نعتمد عليها، في مواقفنا، في تحركاتنا، في مسيرة حياتنا.
نحن اليوم كأمة مسلمة نواجه التحديات الكبيرة، ونواجه الأخطار الكبيرة، شئنا أم أبينا، لا يعود ذلك إلى مزاجنا ولا إلى رغباتنا، مسألة قائمة في الواقع ولا يمكن الإنكار لها ولا التجاهل لها، حتى الذين يحاولون أن يتجاهلوا ذلك، هذا التجاهل لا يجدي شيئاً، الذي يفيدنا هو الرجوع إلى القرآن الكريم وإلى سيرة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) إلى الرسول نفسه لنقتدي به، لنتأسى به {لَقَد كانَ لَكُم في رَسولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا} [الأحزاب:21].
الإسلام خاض الصراع لأن الصراع في واقع الحياة جزءٌ أساسي من الحياة، لا فكاك عنه ولا مناص منه، الصراع حالة قائمة في الواقع البشري، لدرجة أنها جزء من هذا الواقع في كل عصر في كل زمان في كل مكان، ولذلك عندما نأتي إلى واقعنا كأمة مسلمة، يجب أن نفهم أن الإسلام له رؤيته حتى في التعامل مع الصراع، والإسلام من يومه الأول أتى باعتباره رسالة الله، الرسالة الإلهية التي تصلنا بتوجيهات الله وبتعليمات الله سبحانه وتعالى، والتي نبني على أساسها حياتنا ومواقفنا ومسيرة حياتنا وأعمالنا، والإسلام كرسالة إلهية حاله حال الرسالة الإلهية مع كل الرسل والأنبياء وصولاً إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، الله جلّ شأنه قال: {وَلَقَد بَعَثنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسولًا أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطّاغوتَ} [النحل:36].
رسالة الله هي تحرر البشر تنقذهم تخلصهم من العبودية للطاغوت، وهي تربطهم في حياتهم بالعبودية لربهم، لله سبحانه وتعالى، وهذا أول ما في الرسالة الإلهية، وأعظم ما في الرسالة الإلهية، أنها رسالة تنقذ الإنسان وتحرره من استعباد أخيه الإنسان ومن استغلال الإنسان له، الإنسان الآخر، وأنها تؤسس مسيرة حياته على أساس صحيح على أساس سليم، تصله بربه، بخالقه، برب السماوات والأرض، برب العالمين، ليبني حياته على أساس ذلك، في الأعمال في الالتزامات في المواقف، في الحلال والحرام، فيما يفعل فيما يترك، وأيضا تصله بالهداية الإلهية في تصوراته ومفاهيمه وأفكاره ونظرته إلى الحياة وفي واقع الحياة، وهذا الجوهر الأساس للرسالة الإلهية، ولهذا عندما أتى رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) ليتحرك برسالة الله مبلّغاً وفي نفس الوقت يسعى إلى التحرك على أساس هذه الرسالة ليبني عليها واقع الحياة هو ومن اتبعه من الناس، كانت هذه مسألة تمثل مشكلة كبيرة جدا لكل كيانات الطاغوت الموجودة في الواقع، وكان الانزعاج بشكلٍ كبير جدا واتجهت كيانات الطاغوت بدءا في مجتمع مكة.
الطاغوت في مكة المتمثل بزعامات قريش المنحرفة عن الحق أبو سفيان، أبو لهب، أبو جهل، وغيرهم ومن معهم من أتباعهم الذين بدأوا هم في ذلك المجتمع حربهم على الرسالة الإلهية ومعارضتهم الشديدة لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، في البداية حاولوا أن يُسكتوه، وأن يمنعوه نهائيا عن تبليغ الرسالة الإلهية، لأنهم عرفوا أنها رسالة هذا جوهرها، تختلف معهم بدءا في الموقف العام في الموقف الأساسي في المسيرة العامة، لأنها تحرر الإنسان وتفصله عن كيان الطاغوت وتبني حياته على أساس مستقل ومتحرر يعتمد فيه على تعليمات الله وتوجيهات الله سبحانه وتعالى، لا يبقى للطغاة والمجرمين الظالمين سيطرة عليه وتحكمٌ به، هذه كانت مسألة مفصلية وحساسة جدا عند الآخرين عندما لم يتمكنوا من منع الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) من الاستمرار في تبليغ رسالة الله، وفي حركته بهذه الرسالة حاولوا أن يؤثروا عليه وأن يقنعوه بالتكيف معهم قدر الإمكان وأن يداهنهم عندما عجزوا عن منعه بالكامل عن منعه بشكلٍ نهائي، حاولوا أن يتحركوا على أساس من الاحتواء لهذه الحركة التي ينهض بها رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) فتفاوضوا معهُ وحاولوا أن يتعاملوا معه بالترغيب وبالترهيب وقدموا له إغراءات كبيرة إلى حد استعدادهم أن يملّكوه عليهم، إلى حد استعدادهم أن يمكّنوه من الثروة الاقتصادية التي بأيديهم، عرضوا له المنصب في أعلى مستوى أن يكون ملكاً عليهم، وعرضوا عليه المال بحيث يوفرون له من الثروة ما يكون به أغناهم وأكثرهم ثروة، وعرضوا عليه العروض الكثيرة ولكنهم فشلوا في ذلك، لأن رسول الله صلوات عليه وعلى آله، كان هو يحمل هذه الرسالة في كل مضامينها ويحمل من هذه الرسالة روحها وتربيتها وأثرها العظيم في نفسه، زكاءً واستقامة وإخلاصا وصدقا وأمانة، يحمل من هذه الرسالة قيمها وأخلاقها ومبادئها، وليس فقط فكرتها إنما مع الفكرة الروحية، والقيم والمبادئ والأخلاق، يؤمن بها هو ولذلك لم يتأثر بكل الضغوط، لا الإغراءات والا الترهيب، اتجهوا بعد ذلك إلى الترهيب، إلى المحاربة بكل أشكالها، المحاربة الإعلامية فنظموا حملات دعائية واسعة ونشطوا فيها بشكل كبير ومكثف سواء في كل يوم، في كل يوم هناك من يتحدث في المجالس، في المقايل، في الاجتماعات، بين أوساط المجتمع، لإطلاق دعايات متنوعة أنه ساحر، أنه مجنون، أنه شاعر، أن الذي يقدمه ليس سوى أساطير الأولين، سلسلة طويلة من الدعايات المتنوعة في كل مرحلة، في كل فترة، دعاية أو أكثر من دعاية يطلقونها ويتحركون بها في الساحة، الحرب الاقتصادية في المضايقات الاقتصادية له ولمن اتبعه، الحرب التي سعوا من خلالها إلى استهداف من يلتحق بالدين الإسلامي، بالتعذيب والاضطهاد والسجن ووصلت حالة التعذيب بالبعض إلى الشهادة، ثم وصولا إلى النشاط العام الذي كانوا يقومون به في موسم الحج.
بعد ثلاثة عشر عام من حركة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) في مكة وهو يواجه الطاغوت هناك أذن الله له بالهجرة إلى المدينة المنورة وفي يثرب أنشأ مجتمعا إسلاميا، وحظيت الرسالة الإسلامية بقابلية عالية وبحاضنة اجتماعية تمثلت بالأنصار (الأوس والخزرج)، الذين أسلموا وآمنوا وآووا ونصروا وحملوا راية الإسلام، واستقبلوا الرسول والمهاجرين، استقبلوا رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) وانضووا تحت راية الإسلام، أمة مجاهدة، واقفة، معطية، وتحركوا تحت راية الإسلام، تحت قيادة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) لحمل راية الإسلام.
بعد سبعة أشهر من هجرة النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) إلى المدينة وبدأت تلتحق به جموع المهاجرين بدأً من مكة، البعض من مناطق أخرى، بدأ الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) نشاطاته العسكرية المتمثلة بسرايا الاستطلاع، والأنشطة التي تمثل حالة من التجهيز والاستعداد، لماذا؟ بناءً على الوعي بواقع هذه الحياة وبطبيعة الظروف القائمة في الواقع البشري وبالفهم الصحيح لقوى الشر والطاغوت أنها قوى مستكبرة ومستبدة، وأنها بطبيعة ما هي عليه من الطغيان والإجرام والطمع والفساد والعدوانية والشر، لن تترك للأمة الإسلامية أن تنشأ كأمة مستقلة ومتحررة عن التبعية لقوى الطاغوت، وأن تبني حياتها وتبني واقعها على أساس من نهج الله وتعاليمه سبحانه وتعالى، فهم صحيح يعني لطبيعة الظروف والواقع البشري وفهم صحيح لقوى الطاغوت، لطبيعة ما تحمله من نظرة استكبار ومن توجهات وسلوكيات ونزعات ونزعة عدوانية.
فبدأ استعداداته بتوجيهات من الله سبحانه وتعالى، والذي حدث بالفعل أن الرسول بعد استقراره في المدينة، لم تتجاهل قوى الطاغوت الحركة الجديدة للرسول والظروف الجديدة التي تهيئ المسلمين البناء لأنفسهم كأمة مستقلة، قوى الطاغوت كانت تنظر إلى هذه الخطوة بنظرة نظرة الشر، نظرة عدوانية ولهذا بدأت أيضا هي المساعي من جانبها للتحضير لاستئصال هذه الأمة وضرب هذا الكيان الإسلامي العظيم الذي بدأ رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) ببنائه، فاتجهت قريش من جانبها لبعض التحضيرات العدوانية والتحضير لمرحلة عسكرية حاسمة، وبدأت نشاطها للتأثير على المحيط الذي يعيش فيه النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) محيط المدينة، بالتنسيق مع اليهود وبالتنسيق مع القبائل الأخرى، وقريش كانت تستند في تزعمها للحرب ضد الإسلام، ضد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) كانت تستند إلى جانبين مهمين وأساسيين تستغلهما:
الأول: تستند إلى مركزها وثقلها في المنطقة الذي توفر لها بسبب وجودها في مكة المكرمة، مكة والبيت الحرام والمشاعر المقدسة هناك.
الثاني: كانت تحظى في الساحة العربية بالاحترام والتقدير من بعد زمن نبي الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكان العرب يؤمنون بالحج ويحجون ويقدسون الكعبة، البيت الحرام، وكذلك يقدسون مشاعر الحج، وكانت قريش بسيطرتها على مكة وإدارتها لشؤون الحج ومراسم الحج وتواجدها هناك، ولأنها البقية الباقية لذرية نبي الله إسماعيل عليه السلام هناك في مكة، ومن موقع إدارتها للحج وتواجدها في المشاعر المقدسة كانت تستغل هذا الثقل في التأثير والنفوذ في علاقاتها مع بقية المناطق العربية والقبائل العربية كما كانت تستغل ثروتها المادية، كانت تعيش رخاء اقتصاديا وإمكانيات اقتصادية متميزة عن بقية المناطق الأخرى، بفضل مكة المكرمة بفضل البيت الحرام، بفضل دعوة نبي الله إبراهيم بالرزق لقاطني مكة ومجاوري البيت الحرام، { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا } [البقرة: 126]. فكانوا يستغلون ما هم عليه من الثروة والإمكانات المادية من جهة ويستغلون ثقلهم نتيجة المركز الديني في البيت الحرام من جانب آخر، فكان لهم نفوذهم الواسع في المنطقة العربية وفي القبائل العربية وتأثيرهم الكبير الذي وظفوه في الحرب ضد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) وضد المسلمين وسعوا بالتنسيق مع القوى الأخرى والقبائل الأخرى ومع اليهود إلى العمل المستمر للحيلولة دون أن يتمكن المسلمون من بناء أمة مسلمة مستقلة متحررة تحمل راية الإسلام، وتدين بالإسلام وتبني حياتها على أساس من تعاليم هذا الإسلام، ولذلك ما إن أتت السنة الثانية للهجرة حتى كان الوضع العام يتفاقم في التوتر وصولا إلى انفجار الموقف عسكريا، واتجه الأعداء، اتجهت قريش بجيشها الجرار للحرب التي تهدف من خلالها إلى استئصال شأفة المسلمين والقضاء على الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) وكان ذلك في شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة، الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) تحرك كذلك تحركا للتصدي لهذه المحاولات الرامية إلى القضاء على المسلمين، وتحرك في المدينة المنورة وحاول أن يستنهض المسلمين للتحرك للتصدي للأعداء، ومن بيئة كانت لا تزال تعاني من حالة من الاستضعاف ومن التردد لدى البعض، ومن وجود حالات سلبية في الساحة الإسلامية، تعيش حالة ضعف، لا تتأثر بالإسلام بالدرجة الكافية، التي تساعدها على الوقوف الموقف الصحيح الذي يتناسب مع توجيهات الله سبحانه وتعالى ومع طبيعة الظروف ومستوى التحدي والخطر، فرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) استنهض المسلمين وتحرك واستجاب له البعض، والبعض الآخر كانوا مترددين، البعض كانوا سلبيين، كانوا سلبيين جدا، الحالة السلبية هذه تزعمها المنافقون والذين في قلوبهم مرض، الذين عملوا على التأثير في نفوس الكثير من الناس والتثبيط والتخذيل والإرجاف والتهويل وإضعاف العزم لدى الكثير من المسلمين، ولكن الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) ولم يبالي ولم يكترث بأولئك الذين كانوا يتحركون على هذا النحو السلبي في تخذيل الناس وفي إضعاف الموقف من الساحة الداخلية، كما كان حتى البعض ممن تحركوا وانطلقوا لهم موقف متردد ومخاوفهم كانت مخاوف كبيرة، وكانوا يجادلون رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) لكن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) ببصيرته العالية وفهمه الصحيح وإيمانه العظيم وعزمه الحديدي الذي لا يلين، كان يحرص على تنفيذ أوامر الله وتوجيهاته ويجعل لها أولوية مطلقة ويتحرك على أساسها دون الاكتراث بكل أولئك المثبطين والمخذلين والمجادلين والمناقشين والمترددين والمضطربين وتحدث القرآن الكريم عن ذلك في قول الله سبحانه وتعالى { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } [الأنفال: 5 – 6]، وكذلك يتحدث في آية أخرى { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال:49].
فالحالة هذه التي تحرك فيها رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) ومعه الصادقون والأوفياء من المؤمنين الذين انطلقوا بروحية عالية واستعداد كبير واستبسال في سبيل الله سبحانه وتعالى ووصلوا إلى منطقة بدر، هذه المنطقة التي تبعد عن المدينة بما يقارب 160 كيلو مترا، وصل إلى هناك والتقى بجيش المشركين هناك وكان جيشا كثير العدد ويمتلك الإمكانيات العسكرية والقدرات العسكرية بحسب نوعها آنذاك، ما لا يمتلكه المسلمون، ولكن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) لم يكن يتحرك في موقفه العسكري بناء على التكافؤ المادي، التكافؤ في العدد والعدة، لا، كان يعتمد على الله ويثق بالله سبحانه وتعالى ويركز على الحالة المعنوية العالية وعلى الصبر والاستبسال والاندفاع الكبير للمؤمنين الذين يعتمدون على الله سبحانه وتعالى ويحظون برعايته المعنوية وبنصره وتأييده في الموقف.
كانت معركة بدر معركة مهمة جدا، تحقق فيها أول انتصار وأكبر انتصار آنذاك في تلك المرحلة غيّر موازين المعركة، وغير المستقبل بكله، أسس لمستقبل جديد، فلذلك كان يوما فارقا في التاريخ، كان ما بعده يختلف عما قبله، في تلك المعركة قُتل عدد ما يقارب السبعين من المشركين من أعداء الإسلام وكان فيهم قيادات أساسية وشخصيات عسكرية مهمة وأبطال من أبطال الأعداء، فمثّل هذا كسرا لشوكة الشرك لشوكة الأعداء وأثر تأثيرا كبيرا حتى في الأحداث المستقبلية، ما بعد غزوة بدر وصولاً إلى فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة والذي كان أيضاً في شهر رمضان، كان لهذا الانتصار التاريخي والعظيم، أثرٌ كبيرٌ في الساحة، في واقع المسلمين ارتفعت المعنويات، اطمأنت النفوس، استقوى أمر الأمة، ازدادت القناعة والتصميم على مواصلة المشوار تحت راية الإسلام، وتأثير كبير في الساحة والمحيط العربي آنذاك، في القبائل العربية الأخرى ولدى الأطراف الأخرى، وكان حدثاً مهماً جداً استحق أن يسميه الله سبحانه وتعالى (يوم الفرقان)، لأنه كان يوماً فارقاً في التاريخ، وأسس لمرحلة جديدة، وحسم الوضع في معركة كانت معركة مصيرية، كانت تلك المعركة لو استشهد فيها الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) وتمكّن الأعداء من قتل المسلمين وحسم المعركة لصالحهم، لأستمر الطاغوت في سيطرته العامة على الواقع وبتأثيره الكبير جداً في الساحة، ولانطفأ نور الإسلام، ولكن الله سبحانه وتعالى يأبى إلا أن يُتمَ نوره، كان لذلك الانتصار أهمية كبيرة جدا في ارتفاع راية الإسلام وفي استمرارية بناء هذه الأمة المسلمة المتحررة من ولاية الطاغوت، من ولاية الطاغوت لأن الحالة القائمة في الواقع البشري، إما أن تكون تحت ولاية الطاغوت، وإما تحت ولاية الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله في القرآن الكريم: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]. ويقول الله جل شأنه: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة :256]. وهكذا تأتي الآيات الأخرى التي تؤكد أن ولاية الله سبحانه وتعالى ولاية يتحرر فيها الإنسان من الطاغوت ومن سيطرته، ويعتمد في حياته على هداية الله، على منهج الله، على توجيهات الله، على تعليمات الله، ليبني عليها مسيرة حياته ويبني عليها مواقفه، وهذه المسألة هي المسألة الحساسة جداً في كل زمن وفي كل عصر، نحن في هذا العصر نواجه الطاغوت المتمثل في أمريكا وإسرائيل ومن يدور في فلكهم، ونحن بين خيارين إما أن نبني مسيرة حياتنا على أساس مستقل، ومتحرر من هذه الهيمنة بالاعتماد على تعليمات الله، وتوجيهات الله، ومنهج الله، وبمقتضى انتمائنا لهذا الإسلام العظيم، أو أن نصنع كما يريد الآخرون أن يتكيفوا مع الطاغوت، أن يتكيفوا وأن يقولبوا واقعهم الديني بما يتلاءم مع الطاغوت، وهذه الحالة التي كان يسعى لها الطاغوت في حربه على رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) ولكنه فشل، رسول الله لم يتكيف، من قبله في حركه الرسالة السابقة، أهل الكتاب كانوا قد تكيفوا، اليهود تكيفوا مع الطاغوت وآمنوا بالجبت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51].
تكيفوا هم وحرفوا الرسالة الإلهية وانحرفوا عن كثير من مبادئها الرئيسية والأساسية، وتعاليمها المهمة، وابقوا منها طقوسا وشكليات بالقدر الذي لا يحتكون به مع الطاغوت، وأصبحوا تحت ولاية الطاغوت.
المنافقون لا مانع عندهم أن يتكيفوا من واقع انتمائهم الإسلامي، أن يتكيفوا مع الطاغوت وكان على هذا النحو حتى في زمن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) ونزل قول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:60].
هكذا يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، أن يقبلوا بحاكميته بحاكمية الطاغوت عليهم، وإذا يؤكد القرآن الكريم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء:61]. فلا مانع لدى المنافقين والذين في قلوبهم مرض والذين لم يعوا جوهر هذا الدين، أساس هذا الدين، المبادئ الرئيسية لهذا الإسلام، لا مانع عندهم من واقع انتمائهم لهذا الإسلام، الانتماء غير الواعي، غير السليم، أن يتكيفوا مع الطاغوت، وأن يبتعدوا عما أنزل الله، في كثير من المبادئ، في كثير من التوجيهات، في كثير من التعليمات، وأن يتحركوا وفق ما يأمر به الطاغوت وتحت ولاية الطاغوت، ولهذا كانت مسيرة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) المعبرة عن حقيقه الإسلام، وعن مبادئ الإسلام، وعن قيم الإسلام، مسيرة تحررية، مسيرة مستقلة، مسيرة تكفر بالطاغوت، وتؤمن بالله سبحانه وتعالى، مسيرة تبني الأمة المسلمة على أساس من الاستقلال، وليس على أساس من التبعية لأعدائها، ليس على أساس من التبعية للطاغوت والتكيف مع الطاغوت، والتحرك تحت ولاية الطاغوت.
اليوم كل الذين يتحركون تحت الراية الأمريكية ويوالون أمريكا ويسعون إلى التحرك بأمتنا تحت ولاية أمريكا، إنهم جميعا تحت ولاية الطاغوت، إنهم يتولون الطاغوت، وهذا غير مقبول أبدا في نهج الإسلام العظيم.
الله يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]. والطاغوت هو مشروع شيطاني في الواقع البشري، هو يرتبط بالشيطان، ولهذا كان مرتبطا في الآية المباركة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء:76].
نحن بحاجه إلى أن نلتفت من جديد إلى الإسلام كما هو في مبادئه العظيمة التي تكفل لنا أن نبني واقعنا على أساس مستقل ومتحرر من التبعية لأعدائنا، من الخضوع لولاية الطاغوت حتى ننعم بولاية الله سبحانه وتعالى، التي يخرجنا الله بها من الظلمات إلى النور، إلى النور، والتي نحظى من خلالها بالعزة والكرامة، وننعم بها بالتحرر من عبئ الطاغوت، في ظلمه وطغيانه وإجرامه واستعباده وقهره وإذلاله للإنسان، واستغلاله للإنسان، وكانت مسيرة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) مسيرة جهاد، ومسيرة تضحية، وأتت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي تجعل من الجهاد في سبيل الله، عنوانا رئيسيا وفريضة عظيمة ومهمة في الإسلام من أهم فرائض الإسلام تحمي الأمة، تكسب بها الأمة المنعة والعزة والقوة، وتحرر الأمة من ولاية الطاغوت ومن سيطرة الطاغوت وتحمي الأمة من الذل والهوان والاستعباد والقهر.
إن شاء الله نسلط الضوء على المزيد من هذا الموضوع، أو في هذا الموضوع في المحاضرة القادمة.
نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يُوفقَنا وإياكم لما يُرضيهِ عنّا، وأن يرحمَ شهدائَنا الأبرارَ، وأن يشفيَ جَرحانا، وأن يُفرِّج عن أسْرَانا، وأن ينصرَنا بنصرِه، إنه سميعُ الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه