صمود وانتصار

جريمة إفشاء الأسرار العسكرية في الفقه الإسلامي

بقلم / أ. حمود الأهنومي

يقصد بالأسرار العسكرية: الأخبارُ والأشياء والمعلومات المتصلة بالشؤون العسكرية للأمة، مما يجبُ مراعاةً لمصلحتها أن تبقى سرا، إلا على الأشخاص الذين لهم صفة الاطلاع عليها. ويُقْصَدُ بجريمة إفشاء الأسرار العسكرية: هو تعمُّدُ الإفضاء إلى الغير بوقائع أو معلومات متصلة بالشؤون العسكرية لها صفة السرية على وجهٍ غير مشروع.

وتَتّصِلُ جريمةُ الإفشاء بجريمة التجسُّسِ، والتجسُّسُ هو: محاولة الحصول على تلك المعلومات التي من شأنها أن يستفيد منها العدو، لإلحاق الضرر بالمسلمين مما له صلة بنقاط الضعف في الجبهة الإسلامية، وبما يرادُ كتمانُه عن العدو، وما يتعلق بالوضع العسكري للدولة الإسلامية، وما شاكل ذلك. أو هو: محاولة الحصول على المعلومات التي تتصل بالحرب، أو الاستعداد لها، مما يهم الدولةَ إخفاؤُه عن الدول الأخرى، سواء نجحت تلك المحاولة أم أخفقت، وسواء تمَّ نقْلُ تلك المعلومات للعدو أم لم يتم.

لقد عدَّ كثير من الفقهاء المسلمين إفشاء الأسرار العسكرية من الجرائم التعزيرية في الشريعة الإسلامية؛ كونه من المعاصي التي لم ترد فيها عقوبة مقدَّرة، مع نهي الشريعة عنه، وتحريمها له، وقد عاقبت الشريعة على جريمة إفشاء الأسرار العسكرية بالعقوبات التعزيرية المختلفة، ومنها القتل في بعض حالات الإفشاء الناتجة عن التجسس، أو مثيلاتها في الخطورة.

ولأن كون جريمة إفشاءِ الأسرار العسكرية من الجرائم التعزيرية، فإن أمرها موكل إلى الإمام أو من ينوب عنه، يجتهد في العقوبة بما يراه محقِّقًا لمصلحة الجماعة ولحالة الردع من العقوبة، وفي بعض الحالات يجوزُ لولي أمر الأمة أن يُنْزِلَ عقوبة القتل بحق الجاسوس والخائن، وله أن يُخَفِّفَ هذه العقوبة إلى أقلَّ من ذلك بحسب ما يراه ويقدره من الظروف والاعتبارات التي وقعت فيها وعليها حالة الجاسوسية.

ومع ذلك فقد نصَّ أئمة أهل البيت عليهم السلام على بعض تلك الحالات التي يُحْكَم على الخائن والجاسوس فيها بالقتل؛ قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (ت298هـ): “إنْ صحَّ على الجاسوس أنه قُتِلَ بجساسته أحدٌ من المسلمين قُتِلَ وإلا حُبِسَ”. وروى في الجامع الكافي هذا الحكم عن الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله بن الحسن (ت145هـ)، وأخيه الإمام إبراهيم بن عبدالله (ت146هـ)، والإمام الحسين بن علي الفخي (169هـ)، والإمام القاسم بن إبراهيم عليهم السلام (ت245هـ)، والإمام أحمد بن عيسى بن زيد (ت247هـ) عليهم السلام.

وقد أُتِيَ الإمام يحيى بن زيد بن علي عليه السلام (ت126هـ) بجاسوسٍ في خراسان [شرق إيران وغرب أفغانستان حاليا]، فضَرَبَ عنقه، قال مخول: فذكرت ذلك ليحيى بن عبدالله (ت180هـ تقريبا)، فقال: لا يُقْتَلُ حتى يُعْلَمَ أنه قد قُتِلَ بغمزه إنسان.

قال محمد بن منصور المرادي (ت290هـ تقريبا): ووجهُ قولِ محمد بن عبد الله، ويحيى بن زيد، وأحمد بن عيسى ومن قال بقولهم في إطلاقِ قَتْلِ الجاسوس إن كان قُتِلَ بدلالته رجلٌ، وإلا فلا يُقْتَل، أنهم جعلوه في وقت اغتياله وغَمْزِه بأهل العدل بمنزلة المُحارِب إذا كان في وجهه ذلك وفوره.

وورد في شرح الأزهار جوازُ قتل الإمام للجاسوس إذا كانت الحرب لا تزال قائمة، وإلا حُبِسَ وقُيِّدَ إذا خيف منه الهرب، وفي البيان: “قال الهادي عليه السلام: إلا أن يحصل منه كيدٌ للمسلمين بالكتابة، أو إيواء جاسوس، أو نحو ذلك، جاز قتله”، وقُرِّرَ ذلك للمذهب، وذكر في شرح الأثمار احترازا من أن يُخْشَى من الجاسوس الكَرُّ والعودُ إن لم يُقْتَلْ، فإنه يجوز قتلُه، وإن لم يكن قد قَتَل.

وَمَذْهَب الإمام الشَّافِعِيّ وَطَائِفَة أَنَّ الْجَاسُوس الْمُسْلِم يُعَزَّرُ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّة: يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ. وَبَعْضُهُمْ يُقْتَلُ، وَإِنْ تَابَ. وَقَالَ مَالِك: يَجْتَهِدُ فِيهِ الْإِمَام. وذهب الإمام الذهبي (ت748هـ) إلى وجوب قتل الجاسوس إذا ترتَّب على تجسُّسِه ضررٌ وفسادٌ. بل ذهب ابن عثيمين (من علماء الوهابية السعوديين المعاصرين) إلى تحتُّم الوجوبِ في قتل الجاسوس المسلم على وليِّ الأمر؛ حيث قال: “ولهذا يجب على ولي الأمر إذا أدرك جاسوسا يكتبُ إلى أعدائنا بأخبارنا أن يقتله ولو كان مسلما؛ لأنه عاثَ في الأرض فسادا، فقتلُ الجاسوس، ولو كان مسلما، واجبٌ على ولي الأمر؛ لعظم فساده” [شرح رياض الصالحين].

غير أن التفصيل الذي ورد في فقه أهل البيت حول الوضعيات والظروف التي يكون عليها الجاسوس، وأن الحكم يختلف باختلافها، وأنه إذا قُتِلَ بجساسته أحدٌ قُتِلَ به، وإلا فلا، ووضعية وجود حرب قائمة، يبين معقولية ذلك القول، ونضج ذلك الاختيار، الذي خلص إلى القول به كثير من الفقهاء المعاصرين.