صمود وانتصار

نص المحاضرة الرمضانية الـ 25 للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443هـ

الصمود|

نص المحاضرة الرمضانية الـ 25 لقائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443 هـ 2022م:

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

في سياق الحديث عن المبدأ الإسلامي العظيم: الاعتصام بحبل الله جميعاً، والأخوة الإيمانية، والحديث عن خطورة الفرقة بين المؤمنين، تجلَّى لنا أهمية هذا المبدأ، وأهمية تلك الفريضة العظيمة، بالاعتبار الإيماني، فلا يمكن أن تكون متقياً لله، مؤمناً كامل الإيمان، صادق الإيمان، مستجيباً لله “سبحانه وتعالى”، ملتزماً بدين الله “سبحانه وتعالى”، إلَّا وتهتم بهذا المبدأ، وتسعى للالتزام به، وتسعى لتطبيق تلك الفريضة، التي هي: الأخوة الإيمانية.

وتبيَّن إلى جانب الأهمية الإيمانية لهذه المسألة، أهميتها أيضاً على مستوى الواقع، في أن تكون الأمة قويةً في مواجهة أعدائها، وفي النهوض بمسؤولياتها، وفي إنجاز أهدافها المقدَّسة، وفي الاهتمام بمصالحها الكبرى، كل هذا لابدَّ فيه من وحدة الكلمة، من التعاون على المستوى العام، الأمة الإسلامية بشكلٍ عام، أو على مستوى أي مجتمع من مجتمعات أمتنا، يريد أن يستجيب لله “سبحانه وتعالى”، وأن يتحرك على أساس هذا المبدأ العظيم، الذي ثمرته معلومةٌ، ومعروفةٌ، ومؤكَّدة.

وكما قلنا في سياق الحديث في المحاضرات الماضية: هذا المبدأ يلقى أشد المحاربة من الشيطان، ومن أعداء المسلمين بشكلٍ عام؛ لأنهم يعون أهميته، يعون كم أنه يشكِّل عائقاً أمام مؤامراتهم، وأهدافهم، وأحقادهم، ومساعيهم للسيطرة على هذه الأمة، أو على أي مجتمع من أبناء هذه الأمة، يسعى وفق ذلك المبدأ العظيم، وينطلق على أساسه، هم يدركون أنه يمثِّل عامل قوة للأمة بشكلٍ عام، أو لبعضها، من يتحرك على أساسه من أبناء هذه الأمة، وهم يريدون أن يزيحوا من أمامهم كل ما يمكن أن يشكِّل عائقاً لهم في تحقيق أهدافهم، في السيطرة على أمتنا الإسلامية، وعلى أوطانها وثرواتها، وحتى على ثروتها البشرية، فهم يتحركون لمحاربة هذا المبدأ العظيم بكل الوسائل، وتحت كل العناوين، ومنذ زمنٍ طويل، ليست حربهم على هذا المبدأ، واستهدافهم للأمة في هذا المبدأ العظيم شيئاً جديداً، إنما يتطور مع الوقت، وتتطور أساليبهم فيه، ووسائلهم لتحقيقه.

من المعروف أنَّ أعداء الأمة سعوا إلى تقسيم العالم الإسلامي الكبير إلى دويلاتٍ متفرقة، ففصَّلوه جغرافياً وسياسياً، وأطَّروا كل بقعةٍ منه على المستوى الجغرافي والسياسي؛ ليفصلوها عن البقعة الأخرى، فهم كانوا وراء هذا التقسيم الذي عليه بلاد المسلمين، وفيما سبق كان العالم الإسلامي عالماً واحداً، ولكنهم سعوا إلى تجزئته، وتقطيع أوصاله؛ لإضعاف أبنائه، وهذا شيءٌ معروف، عُقِدَّت له مؤتمرات، وكانت لها مخرجات، ووثائق معينة، إلى درجة أنَّ أبناء العالم الإسلامي إذا اختلفوا، وتنازعوا أحياناً على الحدود، هم يحتكمون- البعض منهم- إلى العدو الذي فرَّقهم، وقسَّم أوطانهم، وجزَّأ بلدانهم؛ لأنهم يعتبرونه هو الأعرف كيف فعل، كيف قسم هذه المنطقة عن تلك المنطقة، وهذا البلد عن ذلك البلد، وكيف قطَّع أوصال ذلك الوطن، فيحتكمون إليه، يحتكمون عند البريطاني، ليقول لهم كيف قسم أوطانهم، أين هي الحدود وفق تقسيمه.

لم يكتفوا بذلك، أن قسموا العالم الإسلامي إلى أوطان مؤطَّرة سياسياً وجغرافياً، وفرقوا بين أبنائه على هذا الأساس، بل عملوا بكل جهد إلى توسيع الفرقة المذهبية، وإلى استنساخ مذاهب إضافية، وإلى إحداث الفرقة حتى داخل كل مذهب؛ ليشتتوا الأمة فكرياً، وثقافياً، ودينياً.

وأكثر من ذلك: يحاولون أن يزرعوا في العالم الإسلامي من جديد أقليات دينية، يعملون على إنشاء أقليات دينية، بديانات جديدة غير الإسلام، ثم إلى فرضها سياسياً، إلى أن يفرضوا لها حقوقاً سياسية، وأن يؤقلموا الوضع العام في البلد على مستوى النظام، وعلى مستوى ما يعتمد عليه أبناء البلد في نظم شؤون حياتهم، إلى أن يكون وفقاً لذلك لإزاحة الإسلام وشريعة الإسلام من شؤون الحياة، فعملوا على أن يزرعوا في كثيرٍ من العالم الإسلامي ديانات جديدة غير الإسلام، ويعملون على أن يوسعوا دائرتها بكل جهد، واستغربنا في الآونة الأخيرة حينما جلبوا إلى اليمن البهائية، والأحمدية، وأصبحوا يجلبون أيضاً عناوين أخرى، ويحاولون أن ينشروها، وأن يوسعوا دائرتها.

أمَّا على مستوى ما هو محسوبٌ على الإسلام من مذاهب، وأفكار، وتوجهات ثقافية وفكرية مشتتة، فهم يشتغلون باستمرار، وتحريف المفاهيم، وتغييرها، والشتات الفكري والثقافي الذي يسعون من ورائه بعثرة الأمة؛ حتى لا تعتصم بحبل الله جميعاً، تتوجه على أساسٍ واحد، ورؤيةٍ واحدة، وهم يشتغلون بشكل مستمر، ويستفيدون في هذا العصر من الإمكانات التقنية، وبالذات من الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع على الإنترنت، ويحاولون أن يستغلوا فقدان المنعة الثقافية لدى الكثير من أبناء الأمة، والضعف الثقافي لدى الكثير من أبناء الأمة، والفراغ الثقافي لدى الكثير منهم، في التأثير عليهم، وهم يعملون في هذا الاتجاه عملاً واسعاً.

من أبرز ما عملوه لإثارة الفرقة، تحت العنوان الديني، في أوساط المجتمع الإسلامي، هو: المد التكفيري، هم وراء إنشاء المد التكفيري، وزرعه في أوساط الأمة، وتوسيعه وتوسيع نطاقه في أوساط الأمة، الظاهرة التكفيرية هي تكررت في الواقع الإسلامي مع الزمن، لكنهم في هذا الزمن استغلوها، ووظفوها إلى أقصى حد، ودعموها، ووفروا لها الدعم الكبير من عملائهم من المنافقين، من الأنظمة التي هي مواليةٌ لهم، والحكومات التي تُمَوِّل مخططاتهم ومؤامراتهم، فاتجهوا إلى توسيع رقعته، ليمتد إلى مختلف بلدان العالم الإسلامي، وليتحرك لإثارة الفتن بين أبناء العالم الإسلامي بشكلٍ كبير وعنيف جدًّا، لإثارة الفتن، والقتل، والجرائم، والإبادات الجماعية، وتوسيع دائرة الفرقة على أشد ما تكون، لتكون فرقة عقائدية بشدة، ينظر إلى أخيه من أبناء الأمة الإسلامية إلى أنه كافر يجب ذبحه على الفور وبدون تأخير، أو تمزيقه إلى أشلاء، من خلال التفجيرات الإجرامية، كما رأيناه مؤخراً في أفغانستان، وتكرر مثله كثيراً في العراق، وفي اليمن… وفي بلدانٍ كثيرة.

فهم يعملون على إثارة الفرقة، وتدمير الأمة الإسلامية، وخلخلتها من الداخل، ويبذلون في ذلك كل جهد، هذا بالنسبة لهم هو توجهٌ أساسيٌ، يعملون عليه بكل اهتمام، وبكل جد، ويوظفون له كل الجهد والإمكانات اللازمة، وهذا ما يجب أن نعيه جيداً، وأن نستوعبه بحجم أهميته وتأثيره، هذا مما يعملون عليه.

يعملون على الاستثمار في كل المشاكل والأزمات والخلافات، أي خلاف يظهر في هذا البلد الإسلامي، أو ذلك البلد، سواءً في الوطن العربي، أو غيره، فهم يتجهون إلى استغلاله، إلى تغذيته، إلى أن يزداد أكثر وأكثر، وأن يتوسع أكثر وأكثر، إلى أن يخدم أهدافاً لهم محددة هنا أو هناك، وهذا مما يعملون عليه، ويشتغلون فيه بشكلٍ جاد.

يتجهون حتى في الاستثمار في المشاكل الاجتماعية، المشاكل بكل أشكالها في عالمنا الإسلامي يستثمرونها.

يتجهون حتى على مستوى الفرز الاجتماعي، فهم وراء العمل على أن يفصلوا المرأة ككيانٍ لوحده، والشباب ككيانٍ لوحده، هذا ما يعملونه عندنا في العالم الإسلامي، ثم يتجهون بالمرأة إلى أن تفهم أنها كيان لحالها، ولديها اهتمامات سياسية، ولديها معركتها مع الرجل، في الصراع على الحقوق، وما إلى ذلك؛ لأنهم يسعون حتى إلى تفكيك الأسرة، لا تبقى الأسرة التي هي اللبنة الأساسية في الإسلام في داخل المجتمع، المجتمع لبناته الأسر، يتكون من الأسر، الاستقرار على مستوى الأسرة له أهمية في الاستقرار على مستوى المجتمع، فهم يسعون بكل جهد، والبعض من النساء السذج يستجبن لهذه التوجهات، وهذه الأنشطة، ويغفلن عن أنها أنشطة استهدافية؛ لأن قوة المجتمع في أن يكون أبناؤه في حالةٍ من الوحدة، قوة الأسرة في أن تكون متوحدة، قوة المجتمع كذلك.

فيتجهون على مستوى المرأة، على مستوى الشباب، على مستوى الطفل… وهكذا، تقسيمات وبعثرة، كما قلنا في مناسبة من المناسبات: لو استطاعوا أن يبعثروا الإنسان نفسه إلى عدة اتجاهات، ويجعلوا كل يدٍ من يديه تخاصم الأخرى، وكل شيءٍ فيه يخاصم الآخر، لفعلوا، هم يعملون على تجزئة هذه الأمة إلى أنهى حد، إلى أقصى ما يمكن، هذا ما يعملون له، ويلقون بيئةً مهيأةً لذلك إلى حدٍ كبير.

فاشتغلوا في كل هذه الاتجاهات، وفي الأزمات، وفي تفرقة الأمة في المواقف والسياسات، تجاه أي موقف مهم يسعون إلى أن يكون واقع الأمة تجاهه في حالة اختلاف وتشتت، السياسات كذلك، في كل الاتجاهات.

وعانا المسلمون من هذه الفرقة، ضعفوا، تجرأ عليهم أعداؤهم في كل مكان، في كل اتجاه، اطمأن أعداؤهم إلى حدٍ كبير، من أن تكون ردة الفعل العامة من كل المسلمين تجاه ما يفعله ببعضهم هنا، أو هناك، مع أن تربية الإسلام تربيهم على الشعور بأنهم أمة واحدة ((كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تتداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى))، أن يعملوا على أن يكونوا كالبنيان المرصوص، والذي يربي على الشعور بالمسؤولية تجاه كل المسلمين من كل فردٍ منهم، ((من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن سمع منادياً ينادي يا للمسلمين، فلم يجبه، فليس بمسلم)) وفي بعض الروايات ((فليس من المسلمين)).

هكذا عملوا داخل بلدان العالم الإسلامي، يعني: عملوا على المستوى العام كأمة، ثم داخل كل بلد من بلدان العالم الإسلامي، يشتغلون بعد أن فككوا الأمة إلى دويلات، يتجهون داخل كل بلد، كل دولة، بنفس العمل، بنفس الاتجاه؛ لتمزيق صف أبناء ذلك الوطن، للتفرقة بينهم إلى أقصى حد، تحت كل العناوين، لتشتيتهم في كل شيء، لبعثرتهم في كل شيء، لزرع التباين بينهم في كل الأمور وفي كل المجالات: المجالات السياسية، والمجالات الاجتماعية… وفي كل شيء، ويعملون على ذلك بشكلٍ مستمر ومنظم، ووفق خطط، وهذا أمرٌ واضح، هذا ليس أمراً خفياً، وليس افتراءً عليهم، أو ادعاءً عليهم بغير حقيقةٍ، هم يعملون ذلك، لديهم خطط منظمة، معلنة، وأنشطة واضحة، ويشتغلون على ذلك بكل جد، وبكل اهتمام.

من ضمن ما يعملون على استهدافه، ولمحاربته، هو: عندما يتحرك أيٌّ من أبناء هذه الأمة في الاتجاه الصحيح، الذي فيه التبني للموقف الصحيح، سواءً تجاه قضايا الأمة بشكلٍ عام، أو تجاه أي بلدٍ من البلدان، فعندما يتجه البعض من أبناء هذا البلد، أو ذاك، في اتجاه أن يكون بلدهم حراً، مستقلاً، كريماً، مستقلاً من التبعية لأعدائه، وأن يحظى بالحرية والكرامة من سيطرتهم، ومن نفوذهم، والانعتاق من هيمنتهم، ويتجه إلى أن يتكامل إيجابياً مع أبناء أمته، وأن يتبنى قضايا أمته، فهم يستهدفونه على أشد مستوى من الاستهداف: الاستهداف العسكري، الاستهداف الاقتصادي، الاستهداف بهذا المجال نفسه، بهذا الجانب نفسه، لتفكيكه من الداخل، وأيضاً لبعثرة الأمة من حوله أن تتجه نفس التوجه الصحيح.

وهذا ما حصل عندنا في اليمن، عندما اتجه شعبنا على هذا الأساس، ضمن هذا التوجه الصحيح الإيجابي، المنسجم مع مبادئه، مع انتمائه للإسلام، مع هويته الإيمانية، يريد ألَّا يخضع لسيطرة أعدائه من الكافرين والمنافقين، توجه الاستهداف له عسكرياً، واقتصادياً، وتوجه الاستهداف له تحت كل عناوين التفرقة بين أبنائه، واستهداف الأحرار فيه بكل شكلٍ من أشكال الاستهداف.

وهذا ما حصل في فلسطين، في استهداف المجاهدين هناك، هذا ما يحصل في لبنان، ضد حزب الله في لبنان، هذا ما حصل في العراق، هذا ما حصل في مختلف البقاع الإسلامية، أيُّ توجهٍ صحيحٍ بنَّاءٍ، يتجه نحو عزة الأمة، وكرامتها، وحريتها من أعدائها، والتصدي لأعدائها، والتصدي لطغيانهم وشرهم، والعمل على إعاقة مخططاتهم ومؤامراتهم، يتوجه نحوه الاستهداف بشكلٍ مكثف، وهذا أيضاً أمرٌ معلن، وأمرٌ واضح، وليس خفياً.

ويستغلون من ضمن ما يستغلونه في تحقيق هذا الهدف، وفي إطار هذا الاستهداف: مواقع التواصل الاجتماعي، بحملات التشويه المنظَّم، سواءً التشويه العام، مثلاً: عندنا في اليمن يتوجه بشكلٍ رئيسي التشويه ضد أنصار الله؛ لدورهم مع بقية أحرار هذا البلد في الاتجاه الصحيح، في التصدي لأعداء هذا البلد، في السعي لحرية وكرامة أبناء هذا البلد، ويتجه أيضاً ضد الآخرين الذين يتجهون معهم في هذا الموقف: الموقف الصحيح.

في فلسطين ضد المجاهدين، في لبنان ضد حزب الله… وهكذا في بقية العالم الإسلامي، حملات منظَّمة، حملات دعائية، مشحونة بالافتراءات، ومشحونة أيضاً بتوظيف أي إشكاليات، وتكبيرها، وتضخيمها، وتعميمها، وتحويلها إلى عناوين أساسية تملأ كل مواقع التواصل الاجتماعي، حملات للتشويه؛ لهدف صد الناس عن تبني الموقف الصحيح، وصرف أنظارهم عن العدو الحقيقي، وصرف اهتماماتهم عن النهوض بمسؤولياتهم في الاتجاه الصحيح، والموقف الحق، الذي ينبغي أن يكون محط اهتمامهم.

إضافةً إلى توظيف أي خلافات، وأي إشكالات، وأي سلبيات، إلى أقصى حد، مهما كانت السلبية جزئية، أو محدودة، تتحول إلى قضية رئيسية، وتتحول إلى موضوع أساسي، يطغى على  كل شيء، ويتحول هو محط كل الاهتمام، والأخذ والرد، وتبنى عليه المواقف، والأحكام العامة، وتبنى عليه توجيه الإساءات إلى أقصى حد، حتى لتتحول الجزئية البسيطة من الإشكالات، أو السلبيات، أو حتى قضية لا أساس لها من الصحة، هي مجرد افتراء، وكأنها قضية القرن الحادي والعشرين، التي ينبغي أن يتحول كل اهتمام الناس حولها، وأن يبنى عليها كل الأحكام، والمواقف، والإساءات، وكل الإجراءات، وكل شيء، وكل العداء، وكل السخط يبنى على أساسها، على نحوٍ غير طبيعي، على نحوٍ هستيري، جنوني، على نحوٍ فيه إفراط، وفيه مبالغات غريبة جدًّا.

أيضاً على مستوى استغلال أي خلافات، سواءً خلافات في الرأي، خلافات في الواقع العملي، خلافات تظهر كخلافات شخصية، أي خلافات، فتأتي معها الحملات الدعائية، التي تجعل منها أمراً كبيراً، ورئيسياً، كل هذا بهدف: التفرقة، توسيع الفجوة، زرع حالة التباينات، تفكيك الناس عن الموقف الصحيح، عن الاتجاه الصحيح، وأيضاً إشغال الناس وصرف اهتمامهم عن القضايا المهمة فعلاً، عن القضايا الحقيقية، عن القضايا الأساسية، عن الأخطار الحقيقية، عن العدو الحقيقي، عن المسؤوليات المهمة، وحتى عن معالجة أمورهم على المستوى العملي بشكلٍ صحيح، يصرفونك عن الأسلوب الصحيح، عن التوجه الصحيح، إلى الأسلوب غير الصحيح، الهدَّام، المدمِّر، المسيء، الذي يفاقم المشاكل أكثر، ولا يسهم في حلها أصلاً… وهكذا.

يبرز مع نشاط الأعداء المنظَّم في ذلك، والذي يشتغل ضمن خطط واضحة، وحملات بعد كل فترة وأخرى، حملة معينة يطلقونها، ينسجم ويتلاقى معه دور بقية المنافقين، بقية الذين في قلوبهم مرض، مثلاً: على مستوى واقعنا في اليمن، من هم في إطار الصف الوطني، ولكنهم ليسوا جادين، ليسوا صادقين، ليس لهم اهتماماتهم الحقيقية الصادقة، أو لديهم بعض الاهتمامات الشكلية والمحدودة جدًّا، والموضوع بالنسبة لهم في مستوى هامشي وعادي، ليس توجهاً جاداً، صادقاً، له شواهده في الواقع، له مداليله في الأداء العملي؛ إنما هو مجرد كلام عادي، ولكن يبرز اهتمامهم الكبير، عنايتهم الفائقة، تركيزهم الكبير، شدتهم، جرأتهم، وقاحتهم، في الاتجاه السلبي، المناوئ، المعارض، الذي يصرف الناس عن الاهتمام بالأمور المهمة، بالقضية الأساسية، بالموقف الصحيح، فينسجمون مع أي حملة معادية، عندما يطلق الأعداء حملة، سواءً تستهدف أشخاصاً محددين، أو تستهدف الاتجاه بكله، الاتجاه الذي يتصدى للأعداء، الذي ينهض بالمسؤولية، الذي يقف الموقف الحق، فينسجمون ويتماهون مع ذلك.

والبعض أيضاً من ذوي العقد، أو المشاكل الشخصية، لديه مشكلة شخصية، لديه أهداف شخصية لم تتحقق، لم يحصل عليها، يتبنَّى بالنتيجة موقفاً سلبياً معادياً، لكنه يتجه مع الموجه، موجه من جانب الأعداء، فيها نشاط عدائي، فيها إثارة للسخط، فيها تحريض عدائي، فيتماهى معها من منطلق أن لديه عقدة شخصية، ومشكلة شخصية، وهذا أسلوبٌ خاطئٌ، ولا أخلاقي، ولا إنساني، وأي شيءٍ لا يبرر للإنسان مهما كان أن يتماهى مع الأعداء، أن يتجه مع الأعداء من أجل شفاء غيظه، أو من أجل عقده الشخصية.

الأعداء يشتغلون بشكلٍ مكثف، ويصبون نشاطهم نحو الاتجاه الداخلي؛ لتفكيك الناس من الداخل، إلى درجة أن يوظِّفوا في ذلك ما يفعلونه هم؛ بهدف صرف ردة الفعل، وتوجيه ردة الفعل بالاتجاه الخاطئ، فمثلاً: عندنا في اليمن، عندما يحاصرون شعبنا، عندما يرتكبون بحقه أبشع الجرائم، يحاولون أن يؤلِّبوا الناس حتى تجاه ما فعلوه هم، ضد من؟ ضد من يتصدى لهم، ضد من يقف بوجههم، ضد من يحاربهم، ضد من ينتقم منهم لشعبه، فيتَّجهون بتوجيه اللوم تجاه ما حصل، تجاه ما يرتكبونه من جرائم، تجاه ما يعملونه من حصار، ضد أنصار الله، وضد من يقف معهم من أحرار هذا البلد في التصدي للعدوان، ويحمِّلونهم المسؤولية، واللائمة، ويتحرك معهم الطابور الخامس، والمعقَّدون، والسيئون، ممن لا يمتلكون الضمير، والأخلاق، والقيم، ولا يكترثون لأن يقولوا أي شيء، فيتماهون معهم في ذلك، فتأتي المحاولات لأن تتوجه حالة السخط تجاه ما فعله العدو ضد الصديق، ضد الذي يقف بوجه العدو، ضد من يتصدى للعدو، ونفس هذا التصرف، نفس هذه السياسة، نفس هذا الأسلوب يفعلونه في فلسطين.

يقوم العدو الإسرائيلي باعتداءاته على الشعب الفلسطيني، وأحياناً بتصعيد كبير، مثلما حصل في العام الماضي بتصعيده على غزة، وفي أعوام سابقة، حملات وحرب شاملة مفتوحة، وحصار شديد، ثم يحرِّض الأهالي والشعب الفلسطيني ضد المجاهدين تجاه جرائمه، هو يقتل، ويدمِّر، ويحاصر، ويريد من الناس ألَّا يسخطوا عليه تجاه ما فعل، وأن يسخطوا على الذين يقفون بوجهه من أبناء شعبهم، الذين يتصدون لجرائمه من أبناء شعبهم، الذين يقفون بوجه عدوانه وإجرامه من أبناء شعبهم، الذين يسعون لإنقاذ شعبهم، لتحرير شعبهم، يريد منهم (من الفلسطينيين) أن يعادوهم هم، بدلاً من أن يعادوه هو على جرائمه، وعلى حصاره.

نفس المسألة عندنا في اليمن، يأتي تحالف العدوان ليقتل، ويريد من الناس ألَّا يغضبوا منه هو لأنه قتل، لأنه ارتكب الإبادات الجماعية، يحاصر، ويعذِّب المجتمع اليمني في قوته، وفي معيشته، وفي اقتصاده، لكن يريد من الناس ألَّا يسخطوا منه هو لأنه فعل بهم ذلك، ألَّا يغضبوا منه لأنه يعذبهم، يضطهدهم، يحاصرهم، أن يغضبوا ممن يقفوا بوجهه، ممن يتصدى له، ممن يحاربه، ممن يقف بوجه عدوانه، ممن ينتقم للشعب منه، أن يبغضوه هو.

في لبنان كذلك حملات كبيرة دعائية ضد حزب الله في لبنان، ومطالبات مستمرة بنزع سلاحه؛ لأنه حرر لبنان من أعدائه، لأنه تصدى للعدو الإسرائيلي، الذي يعتدي على لبنان، الذي سعى إلى احتلال لبنان، الذي سعى إلى مصادرة الحرية على الشعب اللبناني، والاستقلال والكرامة، الذي ارتكب أبشع الجرائم بحق الشعب اللبناني، وعند كل حربٍ مفتوحة مع حزب الله، يرتكب أبشع الجرائم، يقوم بتنفيذ عمليات وحشية وإجرامية، لكن- في نفس الوقت- يطلب من اللبنانيين ألَّا يبغضوه على ذلك، وألَّا يكرهوه على ذلك، ألَّا تكون ردة فعلهم تجاهه تجاه ذلك؛ إنما أن يبغضوا حزب الله؛ لأنه يقف بوجهه، لأنه يحاربه، وحصل هذا في العراق، وحصل… يحصل بشكلٍ عام في واقع الأمة الإسلامية.

المسألة هذه مسألة واضحة، حملات الأعداء فيها عادةً ما تكون واضحة، وسياساتهم في ذلك سياسات مكشوفة، لكن عندما يكون لدى البعض حالة من العقد، تسبب لهم العمى، عمى البصيرة، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج: من الآية46]، أو البعض أيضاً مفلسون إنسانياً، وأخلاقياً، وقيمياً، فيتجهون نفس الاتجاه الذي يريده العدو، وهو اتجاه خاطئ، وغبي، وظالم؛ لأنك عندما تتوجه بسخطك، وكرهك، ولومك، وتحميلك المسؤولية، إلى من هو بريءٌ، وتناصر المعتدي الذي يرتكب الجريمة، تقف مع ذلك الذي يقتل، ويحاصر، ويرتكب الجرائم البشعة، والإبادة الجماعية، تؤيِّد سياساته، تتبنى منطقه، تتبنى ما يقوله، وتوجِّه اللوم إلى من يقف بوجهه، توجِّه اللوم فيما فعله ذاك، هذا افتراء، وبهتان، وظلم، وإجرام، وانحراف، وغباء، ويجمع كل الأوصاف السيئة والمقيتة.

في الواقع الداخلي عادةً ما يكون هناك استهداف في اتجاهات متعددة، فمن يقف في وجه الأعداء، من يتبنى الموقف الحق، كجزءٍ من أبناء هذه الأمة، يتوجه الاستهداف له حتى لتفرقته من الداخل، وحتى في استهداف بيئته الشعبية، والحاضنة، وجمهوره، عادةً ما يكون هناك نشاط مكثف في هذا الاتجاه، وشغل لتوظيف أي إشكالات، أو أي خلافات، أو أي تباينات إلى أقصى حد، كما شرحنا في بداية الحديث.

وفي الواقع العملي هناك سنَّة من سنن الله “سبحانه وتعالى” مع عباده المنتمين للحق، المتجهين على أساس الاتجاه الإيماني، هي: سنَّة الاختبار، التي تبيِّن الصادق عن غيره، الوفي عن الخائن، والصادق عن الكاذب، الله “سبحانه وتعالى” قال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: من الآية179]، ومن أهم ما يأتي فيه الاختبار، ويجلِّي الناس هو: في الموقف الحق، في تبني الموقف الحق، وفي الثبات على ذلك، في الثبات على ذلك، والاستمرار على ذلك.

في مسيرة الحياة في كل زمن، يأتي الفرز، ويأتي نتيجةً لذلك الاختبار من ينكشف زيغهم، من يتجهون على نحوٍ آخر، من ينحرفون عن الموقف الحق، من ينحرفون عن الاتجاه الحق، هذا حصل حتى في عهد الأنبياء “عليهم الصلاة والسلام”، وحصل في كل زمن، هي سنَّة الله “سبحانه وتعالى”، {مَا كَانَ}، يعني: أنها سنَّة مستمرة، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، فيأتي البعض مثلاً في مرحلة من المراحل فيزيغ ويخرج عن تبني الموقف الحق، والاتجاه الحق، ويصبح منطقه منطق الأعداء، اتجاهه اتجاه الأعداء، يتخلى نهائياً وبشكلٍ تام عن تبني الموقف الحق، والتوجه الحق، ويتبنى موقفاً مغايراً سلبياً، تجاه من؟ تجاه الذين يتبنون موقف الحق، يتحول إلى مخاصم لهم، إلى مسيء إليهم، إلى معادٍ لهم، إلى محرضٍ ضدهم، إلى مسيءٍ إليهم، إلى مفترٍ عليهم، ويتبين أنه أصبح موقفه موقفاً مغايراً، قد تخلى عن الموقف الحق، وتخلى عن القضية الحق، وتخلى عن الاتجاه الحق، وبقي اتجاهه متماهٍ تماماً مع اتجاه الأعداء.

يحصل هذا في كل زمن، الزائغون الذين ينحرفون عن تبني الحق، ثم يتحول نشاطهم إلى نشاطٍ من أجل الفرقة، يكونون دعاةً للفرقة، دعاةً للخلاف، يسعون إلى خلخلة الصف الداخلي، يسعون إلى صرف اهتمام الناس عن القضايا الرئيسية، عن الموقف الحق المهم، عن القضية الأساسية، يسعون إلى صرف أنظار الناس عن ذلك نهائياً؛ حتى لا تبقى قضيةً للناس، ولا تبقى محط اهتمامهم، وأن يتجهوا بالناس إلى تبني مواقف عدائية مختلفة، تنسجم مع توجهات الأعداء، وهذا يحصل في كل زمن.

الذين يتجهون هذا الاتجاه المنحرف، فيزيغون عن الموقف الحق، والاتجاه الحق، ويتحولون إلى دعاةٍ للفرقة، يصفهم الله في القرآن الكريم بـ(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

يعني: البعض من الناس قد ينطلق في الاتجاه الحق، ويتبنى الموقف الحق، وقد يبرز في ذلك، أو يلقى شيئاً من السمعة والشهرة، ولكنه في حقيقته، في داخله، في ضميره، في وجدانه، في قلبه، بقي لديه مرض، ما هو المرض هذا؟ هو مرض معنوي، مرض تربوي، إمَّا أنه بقي مرتاباً تجاه شيءٍ من الحق، لم يؤمن به في الواقع، أظهر اقتناعه بالحق، لكنه بقي مرتاباً تجاه شيءٍ من الحق، لم يؤمن به حقاً، لم يؤمن به حقيقةً، واحتفظ بحالة الريب تلك، بقية معه، لم يتخلص منها، لم يستنر بنور الله، لم تكتمل بصيرته، ولم يتم يقينه، فبقي ذلك الريب فيه، يكبر، يعظم، يصطدم باختبارٍ معين، فيتجلى في موقفه، ويظهر مثلاً تنكره لمبدأ من مبادئ الحق، أو لمبادئ من الحق، أو لشيءٍ من الحق، أو حتى للموقف الحق بكله، وهذا يحصل للكثير من الناس على مدى التاريخ وفي كل زمن، وسيبقى إلى قيام الساعة.

والبعض أيضاً إلى جانب ارتيابه باتجاه شيءٍ من الحق لم يؤمن به، يحتفظ أيضاً بخللٍ تربوي، لا يتزكى، لا يتزكى في طريق الحق، لا يتخلص من الشوائب الخبيثة، فهو يحتفظ في قلبه بشيءٍ من الخبث: إمَّا كبر، إمَّا حقد، إمَّا العجب والغرور، إمَّا شيءٌ من الخلل التربوي الذي لا يستقيم معه الإيمان، لا يكتمل معه الإيمان، يبقى متعارضاً مع الحالة الإيمانية، ويعظم لدى الإنسان، فيصطدم في مرحلة من المراحل باختبارٍ معين؛ فيتجلى لدى الإنسان ذلك الخبث، فيظهر ويتبين في موقفه المغاير، في زيغه وانحرافه.

وهذه أيضاً من سنن الله “سبحانه وتعالى”، وقد يتفاجأ الناس من البعض، كيف تغيَّر تماماً، كيف تبنى موقفاً معادياً، كيف أصبح موقفه منسجمٌ مع الأعداء، متماهٍ مع الأعداء، مغايراً لما كان عليه في الماضي، فانحرافه واضحٌ عمَّا كان عليه سابقاً.

الله “سبحانه وتعالى” قال في القرآن الكريم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}[محمد: 29-30]، فالله “سبحانه وتعالى” من سنته أن من يحتفظ في قلبه بالمرض، المرض على مستوى الارتياب والشك في شيءٍ من الحق، لا يؤمن به، يحتفظ بارتيابه ذلك، أو معه أيضاً اختلالات تربوية، لا تنسجم مع الإيمان، شيءٌ من الخبث، أن يظهر ذلك، أن يتجلى؛ لأن الله لا يقبل من عباده إلا الصدق، يريد من عباده أن يكونوا صادقين في إيمانهم، صادقين حتى في تبنيهم للموقف الحق، لا يقبل إلَّا الصدق، وإلَّا الصادقين، فمن يتمسك معه بشيءٍ من الارتياب، لا يتركه، لا يستبصر، لا يتم يقينه، لا تكتمل بصيرته، أو أنه يحمل شيئاً من الخبث ولا يتزكى، تأتيه الفرص التربوية والإيمانية والعملية، التي تساعده على أن يتزكى، فلا يتزكى، فهو يصل إلى مرحلة معينة، يصطدم فيها بالاختبار الإلهي، ويفضحه الله، ويكشفه الله، ضمنن سنته في أن يميز الخبيث من الطيب في الواقع الإيماني نفسه.

مثل هذه الحالة يجب أن يكون الجميع على وعيٍ تجاهها، أولاً: من أجل أن يحذر الإنسان هو نفسه، ألَّا يحتفظ بشيءٍ من الريب، وأن يضل متمسكاً به، وألَّا يحتفظ بشيءٍ من الخبث، ليسعى الإنسان إلى أن تكتمل بصيرته، إلى أن يتم يقينه، إلى أن يكون على وعيٍ كبير، على وعيٍ تام، وأن يتزكى، يسعى دائماً في أن يتزكى، يسعى دائماً في صلاح النفس، يستفيد من كل الفرص التربوية.

ثم لا يتفاجأ الإنسان، أو يتأثر سلباً عندما يشاهد شيئاً من هذه الحالات، التي حصلت في كل زمن، وتحصل في كل عصر، فإذا وجد شيئاً من هذه الحالات، وجد من يزيغ، من ينحرف، من يتبنى الاتجاه المغاير، من يصبح منسجماً مع الأعداء، يتبنى اتجاههم، معادٍ لأمته، معادٍ لمن يتجهون الاتجاه الحق، ويتبنون الموقف الحق، أن ينظر إليه نظرة القرآن، يمكن أن ينصحه، يمكن أن يذكره، إذا لم يقبل، إذا أصبح مخذولاً، قد خذله الله “سبحانه وتعالى”، وسلبه التوفيق، فلا يبالي به، لا يعطيه أي قيمة، لا يتأثر به، لا يهزه هو في موقفه، يعرف أن هذه سنة الله في الأولين والآخرين، وأنها على مرِّ الزمن، وفي كل عصر، ومع كل أمة، وفي كل قومٍ مؤمنين، يأتي هذا الاختبار، يميز الله الخبيث عن الطيب منهم؛ حتى يتجلى كُلٌّ من الصادق والكاذب، إلى غير ذلك.

ثم ليكن مثل هذا النوع من الناس منبوذاً، لا قيمة له لدى الناس، لا قيمة لموقفه لدى الناس، وعادةً ما يكونون أيضاً حتى عند الأعداء لا قيمة لهم، إذا أصبح لديهم لهم ولو قليلٌ من الأهمية، فهي بحساب ما كانوا عليه، العدو ينظر إليهم فقط من هذا المنظور: بحساب ما كانوا عليه، وإلَّا فلا شأن لهم ولا قيمة لهم عند أحد.

يجب أن يكونوا منبوذين، ثم ألَّا تتحول هذه الحالة إلى ظاهرة تتوسع دائرتها كظاهرة تخلخل الصف من الداخل، يجب أن يكون الداخل دائماً محصناً بالوعي، بالإيمان، بالبصيرة، باليقين، ألَّا يكون ساحةً مريضة، تنشط فيها الفئات الذين في قلوبهم مرض، فتلقى القابلية، تلقى التأثير، تلقى التجاوب، يجب أن تكون مثل هذه الحالة منبوذة؛ لأنها خرجت عن الموقف الصحيح، عن الاتجاه الصحيح، فلا يكون لها أي قابلية، ولا أي تأثير.

الله “سبحانه وتعالى” يقول في القرآن الكريم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء: الآية115]، من يتبع غير سبيل المؤمنين، بعد أن قد تبين له الهدى، وكان في الاتجاه الإيماني، وكان يتبنى الموقف الحق، ثم انحرف عن ذلك، وزاغ عن ذلك، وأصبح له موقفٌ مغاير، فهو إنسانٌ مخذول، خذله الله “سبحانه وتعالى”، ويسلبه التوفيق، {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}، يتركه الله في اتجاهه الخاطئ، في اتجاهه الذي انحرف إليه وزاغ إليه، ويخذله، ويسلبه أسباب التوفيق، وهو الخاسر، عاقبته جهنم، {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

كيف هي سبيل المؤمنين؟ سبيل المؤمنين يتبنون المواقف الحق، يثبتون عليها، مواقفهم من أعداء الله مواقف ثابتة، مبدئية، أساسية، مواقفهم الإيمانية مواقف ثابتة، لا يزيغون عنها، لا يتزحزحون عنها.

فمثل هذا النوع من الناس يجب أن نحمل الوعي تجاهه، وألَّا يلقى أي قيمة، وألَّا نكترث به، يبقى منبوذاً، لا قيمة له، لا أثر له، وننظر إليه النظرة القرآنية.

من الحالات التي قد تكون حالةً سلبية، تتطور أحياناً لتصل إلى مستوى الفرقة: حالات التذمر، والاستياء، والمشاكل العملية:

يعني: هناك حالات ليست بعد حالات زيغ، وخروج عن الموقف الحق، لكنها مشاكل عملية في الإطار الداخلي في الموقف، أو في العمل، أو في إطار المسؤولية، أو في الإطار العام، مشاكل تحصل، واقع الحياة هكذا: يحصل فيه أحياناً إشكالات معينة، أو اختلافات في الرؤى، أو سوء تفاهم في بعض الأمور، لا يجوز أن تتحول مثل هذه الحالة إلى حالة فرقة، إلى حالة ينشر فيها البعض ويعمم حالة التذمر، والاستياء، والعقد، بما يؤثر سلباً على الاتجاه العام، على الاهتمام بالقضايا الأساسية، بالقضايا المهمة، بالقضايا العظيمة، التي مسؤولية الناس فيها مسؤولية مقدسة، مسؤولية إيمانية، مسؤولية جهادية، فيجعل البعض من إشكالية جزئية معينة ما يصد عن الاهتمام بكل ذلك، أو يؤثر سلباً على كل ذلك.

هذه الحالات يجب التوجه لمعالجتها بأسلوبٍ عمليٍ، مجدٍ، سليمٍ، صحيحٍ، أخوي، هذا ما يجب، هذا ما يجب في مثل هذه الحالات، بدلاً من أن تصبح الحالة حالة يتحدث الناس عنها بطريقة سلبية، يعملون على أن تزداد كمشكلة، على أن تتفاقم كمشكلة، على أن تكبر كمشكلة، ثم تأتي عنها الاجتماعات واللقاءات التي هي في هذا الاتجاه، الاتجاه السلبي، الذي يفاقم من المشاكل، الذي يُكَبِّر السلبيات، الذي يزيد من الفجوة ومن حجم المشكلة.

الله “سبحانه وتعالى” حذَّر في القرآن الكريم من أن يتحول الأسلوب تجاه ذلك، أو تجاه حتى الأمور الشخصية والعقد الشخصية، إلى أسلوبٍ تخريبي، يُخَرِّب حالة الأخوّة، يصرف الناس عن الاهتمام بالقضايا المهمة والأساسية والمقدسة، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المجادلة: الآية9]، أحياناً تصبح هناك ظواهر منعزلة، يجتمع هؤلاء ويجتمع هؤلاء، ليتدبروا قضيةً معينة، أو يتحدثوا عن قضية معينة، لكن بطريقة سلبية، تصبح مثل تلك الاجتماعات الخاصة اجتماعات يتم فيها الحديث بطريقة سلبية، فيها الإثم، أو فيها العدوان.

البر هو في صلاح ذات البين، التقوى هي في صلاح ذات البين، البر والتقوى في كل ما يساهم على الحفاظ على وحدة أصحاب الموقف الحق، على أخوتهم، على تعاونهم، على تظافر جهودهم، على تطوير وتحسين أعمالهم، على حلِّ مشاكلهم بطريقةٍ مجديةٍ، أخويةٍ، نافعةٍ، مفيدة، فالبر والتقوى يجب أن يكون هو القاعدة الأساسية، العنوان الأساس، الأرضية التي ننطلق منها لمعالجة كل مشاكلنا، وكل همومنا، وكل خلافاتنا، فنصل إلى ما يرضي الله “سبحانه وتعالى”، وإلى ما فيه الخير والصالح العام.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛