عجز القوة أمام الحكمة.. التحدي الأمريكي اليمني نموذجاً
الصمود||مقالات|| هاشم شرف الدين
تبدو المحاولةُ الأمريكية لإقناع اليمنيين بالسماح للسفن الإسرائيلية بمعاودة العبور عبر مضيق البحر الأحمر واحدةً من أبرز التحديات الآنية التي تواجه الولايات المتحدة التي يصنفها الكثير في هذا العالم بأنها القوة العظمى. فأمريكا تُصدم اليوم باليمن الحر وشعبه العزيز، وهذا ما يجعل محاولتها ـ وإن اشتملت على الترغيب والتهديد والعدوان العسكري وغيره ـ غايةً في الصعوبة.
ففضلاً عن وجود تحدياتٍ سياسية وإقليمية واقتصادية وعسكرية تعترضها، فهناك تحدٍ أكثر صعوبةً لم تتمكن الولايات المتحدة من استيعابه بعد، وهو جوهرُ الشخصية اليمنية المنبثق عن هويتها الإيمانية. فالشخصية اليمنية لها خصائص فريدة تتجلى في تمسكها بدينها الإسلامي وبالقيم والمبادئ الإنسانية فهما يوجبان عليها الالتزام بها. لذا فإن اليمنيين يرون أنهم مسؤولون عن الدفاع عن المسلمين في فلسطين ودعمِهم في مواجهة الظلم والعدوان والحصار والاحتلال الإسرائيلي.
إن القضيةَ الفلسطينية محوريةٌ بالنسبة لليمنيين، فهم يرون فيها تجسيداً للعدالة والحق والتضامن الإسلامي. لذا، يتعاملون مع قضية السفن الإسرائيلية بحساسية بالغة، مدافعين عن مبادئهم الدينية وقيمهم الإنسانية.
إنهم عموماً ـ وأنصار الله فيهم تحديداً ـ لديهم موقفٌ سلبي من الولايات المتحدة الأميركية، فالعلاقة بين أنصار الله والولايات المتحدة تعكس توتراً كبيراً، حيث ينظرون إليها بعين الاستبداد والعدوان، ففضلاً عن موقفهم المسبق من عدوانها على أفغانستان والعراق ودول أخرى وشعوب، وفضلاً عن تحيزها المطلق للكيان الإسرائيلي، فهي من قادت تحالف العدوان العسكري والاقتصادي على اليمن منذ تسع سنوات، وتقف وراء استمرار معاناة الشعب اليمني وأزمته الإنسانية التي سبّبها العدوان حتى اليوم، وهي من قامت بانتهاك السيادة الوطنية لليمن من خلال القوة والتدخل في شؤونه الداخلية، وبما يتعارض مع حق الشعب اليمني في تقرير مصيره.
اما بشأن فلسطين فاليمنيون عموماً ـ وأنصار الله تحديداً ـ يعتبرون أن الولايات المتحدة تكيل بمكيالين في سياستها الخارجية، حيث تمنح لنفسها الحقَ بأن تُظهر تضامناً ودعماً للكيان الإسرائيلي في ظل ارتكابه جرائم الإبادة في غزة، بينما تنتقد وتدين وتعتدي على الدول الأخرى التي تتحرك للدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم. يرون أن هذه المعايير المزدوجة تؤكد تحيز الولايات المتحدة لصالح الكيان الإسرائيلي وتجاهلها لحقوق الفلسطينيين، وهذا يزيد من رفضهم أي دورٍ للولايات المتحدة في مواجهة اليمن ودفاعه المشروع عن غزة.
إنهم يرون أن تشكيل الولايات المتحدة لتحالفٍ بحري ـ لضمان مرور السفن الإسرائيلية دون اعتراض من قبل قواتهم البحرية ـ محاولةٌ فاشلة سيواجهونها من غير ترددٍ ودون أدنى شك. ويرون أن أي اعتداءٍ ينفذه هذا التحالف سيوفّر سبباً ليدافعوا عن وطنهم وحقوقهم ضد العدوان الخارجي والظلم الذي يتعرضون له. فيا لها من ورطةٍ تورطت فيها أمريكا.
لقد أثار الموقفُ اليمني الدهشةَ فتساءل الكثير في العالم: “من أين يستقي اليمنيون عموماً وأنصار الله تحديداً هذا المستوى من الشجاعة للوقوف ضد التحالف الدولي البحري الذي شكلته الولايات المتحدة لردعهم؟”
الإجابة تكمن في أنهم يستمدون شجاعتَهم من معتقداتهم القوية وعوامل تاريخية. قد تكون أهم هذه العوامل هي امتلاك الوعي العالي والتحلّي بروحية الجهاد والمقاومة الشعبية ضد الغزاة على مَـرِّ العصور.
فالشعب اليمني عُرف على مَـرِّ التاريخ بثباته وعزيمته في مواجهة الغزاة. إنهم يعتزون بتاريخهم المقاوم، ويؤمنون بأهمية الدفاع عن العدل والحق ومحاربة الظلم، ويلتزمون بقضيتهم ومبادئهم، ويؤمنون بأن النضالَ من أجل الحق يستحق كل التضحيات، ويعتبرون الاستقلال والكرامة والحرية أهدافاً لا يمكن التنازلُ عنها. إن هذا يمنحهم شجاعةً وقوةً لمواجهة التحالف الدولي البحري الذي أعلنته الولايات المتحدة مؤخرا.
ويتساءل الكثير أيضاً: “ماذا عن قدراتهم العسكرية، هل يمكنهم فعلاً مواجهةُ التحالف البحري؟
والإجابة هي نعم بالتأكيد، فهم يملكون قدراتٍ عسكرية تمكّنهم من مواجهته. لقد تطورت قدراتهم العسكرية خلال سنوات العدوان على اليمن. إنهم يمتلكون جيشاً جيداً مدربا مجهزا بالأسلحة اللازمة، من أهمها الصواريخ الباليستية والمجنحة والصواريخ والطوربيدات والألغام البحرية وغيرها ويمتلكون الطائرات المُسيّرة المتنوعة. ومما لا شك فيه أنهم سيستخدمونها لتوجيه ضرباتٍ دقيقة ضد القِطع البحرية المعتدية على بلدهم. هذا يعني أنهم سيحوّلون التحديَ الأمريكي إلى فرصةٍ لإلحاق هزيمةٍ مدوّية بالولايات المتحدة وتحالفها.
فعسكرة البحر الأحمر بتحالفٍ دولي والاعتداء على اليمن وقواته المسلحة سيدفع اليمنيين إلى منع السفن التجارية التابعة لأي دولةٍ مشاركة في هذا التحالف من المرور في البحر الأحمر، وهذا يعني أن أمريكا بتحالفها واعتدائاتها ستتسبب في إدخال العالم في متاهةٍ لا نهاية لها ستخلّف تبعاتٍ اقتصادية هائلة.
إن الخشيةَ من حدوث الأمر دفع ببعض الدول التي كانت أمريكا قد أعلنت مشاركتها في التحالف إلى التراجع وإعلان انسحابها منه عقب التحذيرات اليمنية بأن مشاركتها ستعرّض سفنها للمنع من المرور في البحر الأحمر أيضا.
لقد قلقت تلك الدول بشأن سلامة سفنها وأطقمها في ظل تصاعد التوتر الذي سيسببه هذا التحالف فقررت الانسحاب لحماية مصالحها. كما أنها قلقت من التكاليف الاقتصادية التي قد تواجهها نتيجة المشاركة في التحالف البحري، بما في ذلك تكاليف التشغيل والذخائر والصيانة لقطعها البحرية العسكرية المشاركة، والتعويض عن الخسائر التي قد تلحق سفنها التجارية، بالإضافة إلى التكاليف الإضافية التي ستنتج عن تحول سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح عندما تُمنع سفنها من المرور في البحر الأحمر، إذ سيتسبب ذلك في ارتفاع أسعار البضائع والخدمات في تلك الدول. لقد أدركت الحماقةَ الأمريكية ومخاطرَها الكبيرة ففضّلت عدم المشاركة في التحالف.
لقد أعطى هذا مؤشراً قوياً على أن قوةَ الحكمة اليمانية راجحة، وأن اليمنيين قد يلحقون هزيمةً بأمريكا القوة العسكرية الاقتصادية العظمى. هذا ما فهمه العالم، فقد عكس انسحاب الدول من التحالف البحري تأثيرَ اليمنيين وقدرتهم على إحداث تغييرٍ في الديناميكيات الإقليمية، ومنحهم قوةً إضافية وعزّز موقعَهم في المناقشات والمفاوضات المستقبلية. في المقابل خسرت الولايات المتحدة معركةً سياسيةً فقد ظهرت صانعةً لمشكلةٍ دوليةٍ كبرى وعاملةً على توسيع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فيما ظهر اليمنيون على أنهم جزءٌ من الحلِ العادل للقضية الفلسطينية.
بالطبع، شعرت الولايات المتحدة بالإحراج نتيجة لتلك الانسحابات من التحالف، وزاد من إحراجها استمرارُ اليمنيين في منع سفن الكيان الإسرائيلي أو المرتبطة به، فهو يعكس تحدياً لنفوذ وهيبة الولايات المتحدة في المنطقة والعالم ويضع تساؤلاتٍ حول قدرتها على فرض السيطرة وحماية حلفائها ومصالحها، فمضت في استخدام قوتِها العسكرية الهائلة. أرسلت حاملات طائراتها إلى البحر الأحمر ومضيق باب المندب، واعتدت على زوارق القوات البحرية اليمنية في المياه الإقليمية اليمنية، لكن اليمنيين أكدوا بأن عملياتِهم في البحر ستتواصل. لقد أعلنوا في الواقع أن قوة الولايات المتحدة ليست دائماً كافيةً لتحقيق أهدافها في المشهد الدولي.
إذن، سيتعيّن على الولايات المتحدة أن تعتبر هذه الواقعةَ وتبعاتِها درساً قيّماً يدفعها إلى النظر بعناية في استراتيجيتها وتقييم قدرتها الفعلية على فرض إرادتها على دولٍ أخرى كاليمن.
وسيتعين أيضاً أن تستوعب جيداً أنها عندما تكون أمام حكمة اليمنيين فعليها التفكير مليّاً قبل الاعتداء عليهم، وأن تحترم تمسكهم بهويتهم الإيمانية والتزامهم بالقيم العربية وتجسيدهم للمبادئ الإنسانية.
عليها أن تدرك أن عجز القوة لا يعني الهزيمة النهائية، بل يعني الحاجة إلى التزام العدالة واحترام حقوق الشعوب، والتخلي عن نهج فرض إملائاتها على الدول بالقوة العسكرية أو الاقتصادية.
عليها أن تغيّر استراتيجياتها الشريرة المتبعة لإيجاد حلٍ عادل وسلمي للقضية الفلسطينية، وأن تدرك أن عصرَ هيمنتها قد ولّى إلى غير رجعة، وأن حضورَها الدولي سيتعرض لهزاتٍ أخرى مالم تدرك أهميةَ التوازن الدولي وتؤمن بقيمةِ التعاون الدولي كسبيلٍ أمثل لتحقيق الاستقرار والسلام في العالم وإيجاد حلول مستدامة للتحديات الدولية المعقدة. فهي إن لم تدرك ذلك سريعاً فاليمنيون بقوةِ حكمتهم سيتكفّلون بجعلها تدركه خلال الأيام القادمة.