ثمرة الصمود .. ووقت الإيناع
بقلم / حمود عبدالله الأهنومي
لا يزال هناك متسعٌ من الوقت والجهد والعمليات العسكرية لوضع ملامح الفصل الأخير من هذه الحرب الضروس ضد شعب مؤمن أصيل استضعفه المستكبرون، كما لا يزال الوقت متسعا لصناعة الهزيمة المدوية لهم والتي ستؤسس لبلد مستقر ومستقل لعشرات السنين القادمة، وهذا ما ينبغي التفات المفاوض اليمني إليه.
يلاحظ أنه كلما حزب السعوديةَ أمرُ الحدود سارعت مع منظومة تحالف عدوانهم العالمي للضغط لإبرام هدنة كاذبة في الحدود فقط، بينما يجعلون أنفسهم في حلٍّ من أي التزامات داخل اليمن، رغم أن الهدنة السابقة آتت أكلها لمصلحة شعبنا اليمني البطل، وآلت إلى نتائج محمودة، سبق ذكرها في مقالة سابقة، ومع ذلك فإن هذا يوضح للمرة الألف أن الحدود هي نقطة ضعف هذا العدو والتي ينبغي تفعيلها إلى أعلى سقف.
اليوم وفي كل الجبهات .. المجاهد اليمني الجسور يتحدى الصعاب، ويقتحم المستحيلات، ويقهر جيوش العالم، ويتقدم كالأسد الهصور على مرأى ومسمع أحدث الطائرات المقاتلة، والرادارات العسكرية، وهو يبسط على عشرات الكيلوهات داخل جيزان ونجران وعسير، وإذا ما استمرت هذه العمليات على هذه الوتيرة فستطالعنا الأيام القريبة القادمة بأخبارٍ صاعقةٍ للعدو، تهينه، وتعري تعاليه وتصحِر كبره، وتقمع شرّته بشكل غير مسبوق.
أتصور أنه لم يأن الأوان لإبرام أيِّ اتفاق لا يلبي طموحات وآمال وتطلعات الشعب اليمني بشكل كامل، حيث لا زلنا في بداية موسم الحصاد، وما قد نتناوله من تسويات تكتيكية مريرة المذاق اليوم سيطيب لنا التفكُّه بها بعد شهر أو شهرين كانتصار استراتيجي، يضمن لنا السلامة والأمن عشرات السنين القادمة، وهذا أمر تشير إليه بوضوح الظروف الراهنة السياسية والعسكرية والأمنية.
فمن ناحيةٍ .. تمر السعودية بظروف ضاغطة ليست في مصلحتها، فخسائرها المالية في الحرب اليمنية فاقت جميع التصورات، وجبلُ جليدها من الاحتياطي النقدي يذوب بحرارة ثقب أوزونها في حرب اليمن، وقد بات صناع قرار العدوان وشركاؤهم ومستشاروهم يدركون أن استمرار الحرب كفيلٌ بإنهاء هذا التفوق المالي، الذي يعتبر المصدر الأول لجلب التأييد السياسي العالمي، وهو الأمر الذي جعل بعضا من محللي السعودية الاستراتيجيين والمقرّبين من دوائر القرار أن يدعو إلى انسحاب نظامه من مستنقع اليمن بدون مواربة، بل واعتبر ذلك شجاعة لا تقل عن شجاعة اتخاذ قرار العدوان على اليمن، معللا إياه بالخوف من مزيد الاستنزاف الذي تريده قوى إقليمية ودولية على حد قوله.
السعودية التي أبطرَتْها أموالُها، وفرعَنَتْها الإشارة الخضراء من سادتها الغربيين المستكبرين والمتاجرين، فأشعلت العالمَ الإسلامي بحرائق الحروب وعواصف الفتن، وأجرت أنهار الدماء البريئة، تترنّح اليوم في حدودها على اليمن، ولم تعد تلك الحروب فائضَ قذارةٍ لها يمكنها الاستغناء عنها في أي لحظة، بل بات لزاما عليها الاستمرار فيها إلى ما لا يعلم السعوديون وأولياؤهم أمدَه ومنتهاه، وجليٌّ أن في الاستمرار سقوطٌ حكم عائلتها المستبدة، السعودية التي تخوض حروبا سياسية وعسكرية وأمنية قمعية في كلٍّ من اليمن، والبحرين، وسوريا، والعراق، ولبنان، وليبيا، وإيران، ومصر، والجزائر، تستنزف نفسها ماليا بشكل متهور، لكنها في حربها على اليمن باتت تذوق الألم يوميا في جسدها المترهل، وتشعر بسيل الدماء من رأس أم حزمها وعباطتها واستهبالها.
بات النظام السعودي اليوم كالذي يتخبطه الشيطان من المس، ومعاركه الطائفية والمذهبية والسياسية خلقت له أعداء استراتيجيين في كل وجهة وفي كل جهة، يدعم الحكومة العراقية صوريا في حربها على داعش، وفي الوقت ذاته لا يترك ربيبته داعش من أن تنهزم، حتى يقضي أمرا كان مأمولا ومطلوبا لأمريكا في استنزاف الأطراف جميعا، وإن بصورة متعاقبة، وما نقلته صحيفة السفير اللبنانية قبل أيام عن منع الأمريكيين للجيش اللبناني من استهدافِ قائدٍ كبير من قادة جبهة النصرة في القلمون، دليل على أن أمريكا تقف بوضوح لتطويل آماد النزاع، وفترات الاستنزاف، وتعميق الجراح والآلام، وتبديد الثروات، حتى لا يتجه المسلمون والعرب وجهتهم الصحيحة، وحتى يبقوا أسر هذا الواقع الذي خططوا له ونفذوه بدقة عالية، ويوضح أن حربها على ما تسميه الإرهاب كذبة بلقاء مشهورة مشهودة.
السعودية كما تريدها أمريكا منشغلة اليوم بمعارك مختلفة، فهي معنية بمعركة حلب دعما للمعارضة في سوريا، وبمعركة الموصل إطالة في عمر داعش في العراق، فهي مع النظام ظاهرا في بغداد، ومع ربيبتها داعش باطنا في الموصل، وعليها أن تحلِب في الجهتين، وهي تستخدم جميع أسلحتها في لبنان، وترى نفسها معنية بمصر، بل حتى بإسرائيل ودعم اقتصادها بعشرات المليارات، دع عنك ما يؤودها من صراعِ أميريها (الـمحمدين) وأيهما ينال الحظوة لدى العم سام، الذي يبدو أنه لم يحسم أمره حتى الآن لبقية من الأهداف يريد تحقيقها، ودع عنك ما يصيبها من نوباتِ صراعٍ مستمرة ودائمة مع خدينتها في الفجور، إمارات العهر والشرور، على خلفية طموحها في الجنوب اليمني بما يتعارض مع ما تريده السعودية، وعلى خلفية موقفهما من مرتزقتهما هناك، وما تسببه لكليهما الجماعات التابعة لهما في اليمن، من الإخوان، والقاعدة، وداعش، والحراك الانفصالي من متاعب، وما يضيفه تعدّدُ غرف القيادات في الحرب على اليمن، جميعها تكشف حتمية فشل العدوان على اليمن في أقل الأحوال، أما إذا عرّجنا على سوق الاقتصاد السعودي ومؤشرات تدهوره، والتي منها تهاوي شركات عملاقة مثل سعودي أوجيه، وابن لادن، وغيرهما؛ الأمر الذي دفع دولة مثل الفلبين أن تضع هذه الشركات في قائمة الحظر، ثم إذا تذكرنا أن الوحش الذي تربيه السعودية ليفترس أعداءها كالقاعدة وداعش والإخوان كثيرا ما عاد ليأكل أمه، التي غذّته وربّته، فإن الوضع مفتوح على تردٍّ خطير، وانهيار وشيك لهذه الدولة التي ركبها الغرور، فاستأسدت بقلبِ فأرٍ، وغرورِ شيطانٍ، دعاها في حربها على اليمن إلى عذاب السعير.
أما المجتمع السعودي فقد ضُرِب وعيُه الهائب والمذعور من قبضة دولته الأمنية في مقتل، لا سيما وقد رأى جيشه الفرار لا يلوي على شيء أمام مقاتلين حفاةٍ طالما كانوا هم وشعبٌهم مثارَ هزئه وسخريته، المجتمع المنقسم عموديا والهش تماسكا والذي يكتشف كل يوم أن جميع الوعود التي أطلقتها حكومته برقُ خلّبٍ، ومواعيد عرقوب، وأنى لهم أن يحققوا ما زعموه من رؤية 2030م الداخلية وهم مستنزَفون في القضايا الخارجية، وعلى رأسها قضية اليمن؛ الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي يكفي مؤشِّرا على تدهوره أن دولةً عظمى مثل الهند قرّرت مؤخرا أن ترسل غذاء مواطناتها العاملات في السعودية من الهند إليها، وهي الدولة الأغنى في العالم من حيث الدخل القومي، وهي إهانة وتعبير عميق لنظرة دولية متحولة تجاه نظام غرق استراتيجيا في وحل كبريائه، وهلك في ضحالة تفكيره.
ومن جانب آخر .. وضعنا في اليمن يطّرد قوة يوما بعد يوم، ويأتي الاتفاق بين أنصار الله والمؤتمر لإنشاء مجلس سياسي أعلى لإدارة البلاد كصفعة عالمية وبمقاس كبير وعميق لقوى العدوان جميعا، أما حين ينتصب هذا المجلس قائما على قدميه فإنها الضربة السياسية المدمرة له، ولما تلقّفت اللجنة الثورية العليا الحاكمة هذا الاتفاق بالترحيب، فخرج الشعب اليمني سيولا بشرية هائلة لم تصدها حتى سيولُ الله ولا غيثه المدرار والمنهمر على رؤوسهم، فأعلنوا للعالم عن شعب قوي يقف خلف قيادته الثورية ليس في ساحات المظاهرات فحسب بل حتى في ميادين النار على خطٍّ ناري عسكري بطول مئات الكيلوهات وعشرات الجبهات، بالإضافة إلى تطور أداء مقاتلينا بشكل أعجز العالم عن فهم ما يجري في صحراء ميدي، وفج حرض المفتوحة، ويوما بعد يوم تتقدم قواتنا في جميع الجبهات الداخلية، ويتفاقم شرور صواريخنا البالستية على رؤوسهم بشكل متصاعدٍ ومفاجئ، وينذر بدخول معادلاتِ ردعٍ استراتيجية ستغيِّر موازين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط.
إن ظروفنا الموضوعية سياسية وعسكرية وأمنية واجتماعية تنبئ عن روحية النصر الأكيد، وهات حديثا عن ما يحفِّز رجالنا الأبطال على أن يحملوا أرواحهم وأكفانهم على أيديهم، فينطلقون كالأعاصير في العمق السعودي، يسابق أحدهم الموت، في مقابل ظروفهم الهابطة والمشار إليها سلفا – لتشير إلى أنهم يشعرون أنهم أبعدُ ما يكونون عن تحقيق أهدافهم الملعونة، وما كثرة صياحهم ونعيقهم ووجعهم وألمهم من تسخين جبهات الحدود إلا إشارة واضحة إلى مكمن الوجع، وبيت الداء، ونقطة الضعف والإعياء، ولا ينبئك عن هواجسهم اليوم مثلُ قلقِهم الكبير من تدهور الأوضاع الأمنية، إلى الحد الذي بات فيه اليمني المغترب هاجس صناع قرارهم، وهم يتساءلون: ماذا لو كان 1% من هؤلاء المغتربين مؤيدين للحوثيين، وإلى الحد الذي حملهم على الكشف في ليلة وضحاها عن ما أخفوه عقودا من الزمن من علاقتهم الثابتة والمستورة مع الكيان الصهيوني الرفيق الشبيه، والكيان اللقيط .
إن تلك الظروف وقدوم موسم الحج، واستمراره شهرين من الزمان، يوفر لليمنيين موسما طويلا للحصاد، ووقتا إضافيا للعب، يخوّلهم أن يزرعوا فيه في العمق السعودي ما شاؤوا من فسائل العزة اليمانية القعساء، وباسقات الكرامة الجريحة، ومورِقات الانتصار العظيم، وأن يجنوا فيها أضمن وأقوى المعادلات المنصفة والمنتصرة، وأن يهيئوا الإقليم والعالم للقبول الإجباري بملامح دولة يمنية مستقلة ومستقرة، مرهوبة الجانب ومقدّسة الجناب.
التوغل في الحدود بأقوى ما يطاق، وتدمير المعسكرات والمواقع، وقصف المنشآت الاقتصادية ومدنها في الجنوب السعودي بأقوى ما يمكن، وخلق أزمة اجتماعية ضاغطة في مدن ما بعد الحدود، والكشف عن أنواعٍ من المفاجآت الصاروخية الجديدة، كل ذلك وإن أقنع العالم الوقِح والمتواطئ بأن اليمانيين خرجوا عن طور العقل العالمي المادي البليد، والرزانة الغليظة والتافهة، والتي تعبِّر عنها الأمم المتحدة بقبحٍ وعريٍ غير مسبوقين، فإنهم بالضرورة لا بد أن يكونوا قد فهموا ما قاله أجدادنا سلام الله عليهم: “جنان يخارجك، ولا عقل يحنبك”.
بعد هذا كله .. أليس من الحكمة أن تُطوى صحف التسويات، وتطّرحَ أقلام الهدنات، وأن تفتَح صفحاتُ كتابِ جيزان ونجران وعسير ليكتُب عليها أبطالنا الأشاوس الفصل الأخير والمشرّف لهذه الحرب، واللائق بنذالة العدوان، وأصالة شعب الحكمة والإيمان، وحينها يمكن لنا بهدوء أن نتحدث عن تثبيت معالم وملامح دولتنا اليمنية العادلة والمستقلة والمستقرة، ولحربٌ ضروس تأخذ مداها الطبيعي، ونحن لا زلنا فيه على الموت أصبر، خيرٌ وأبقى من اتفاق غير ناضج، ويؤسس لحرب قادمة، ولا إخال ذلك النصر النظيف والمشرف بعيدا أيها الشعب الذي قهر المستحيل.