ثورة (21 سبتمبر) في ميزان الفكر
الصمود||مقالات||عبدالرحمن مراد||
كان العرب في القرن العشرين صورة مماثلة للماضي الذي جثم على صدورهم منذ القرن السادس عشر الميلادي يعيشون واقعا مريرا ومآسي كثيرة وأوضاعا معقدة سواء في الجانب المادي اليومي, أو الرمزي الحياتي، ووصل الركود والجمود إلى المقدس، والوجدان، واللغة، والتقنية، أي أن الواقع كان يتسم أو يمتاز أنه واقع مأزوم، تاريخه معطل وغير مكتمل، منذ سقوط بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي إلى القرن العشرين، وهو تاريخ يمتد لقرون لم يعرف العرب فيه طعم الاستقلال الحقيقي، ولا معنى الحرية الكاملة، ولم يصلوا إلى زمنهم التحرري الذي اتسم به النصف الأول من القرن العشرين إلا بعد حروب وأزمات ونضالات وتضحيات، وبعد هدر كبير للطاقات المادية، والبشرية، والثقافية، والرمزية, والنفسية، وبالرغم من كل ذلك إلا أن العرب لم يصلوا إلى مبتغاهم في التصالح مع التاريخ الذي يحقق لهم القدر الكافي من التوازن في العلاقات مع الآخر، أو في فك الإشكاليات بين قضايا شائكة مثل الأصالة والمعاصرة، والتراث والتاريخ، ولذلك لم تكتمل نهضتهم بفعل عوامل المستعمر وتداخله في صناعة واقعهم، فقد رحل المستعمر عن الديار العربية شكلا، وظل يتحكم بالمصير العربي وبمصادر الطاقة ضمنا، ولذلك نقول أن التاريخ قد مكر بالعرب ولم يتحقق لهم الاستقلال .
فالثورة الحقيقية هي التي تحمل مشروع دولة، ومشروع مجتمع، وتكون على قدر من التحرر من الغرب، ومن الماضي، لتبدع وتبتكر واقعا جديدا، يمتاز بالاستقلال والمعرفة، والخصوصية التي تكون تعبيرا عن العرب والمسلمين, وعن هويتهم الثقافية والحضارية، ذات رؤية في البناء الذي يقضي على الشتات السياسي، ويحاول إنجاز القوة الاقتصادية والديمغرافية في عالم أصبح ينمو بسرعة البرق في اتجاه التكتلات السياسية والاستراتيجية الكبيرة والفاعلة في القرارات الإنسانية الكبرى من حروب وسياسات وثقافات وغيرها من الأدوات القادرة على الإقصاء والإضعاف .
ولذلك ليس من الصواب تحليل الوعي المجتمعي اليوم ، من خلال مواقع طبقية أو إيديولوجية واحدة، لأنه سيكوّن قراءة منحازة ، فنحن نخطئ إذا استنتجنا أن الأفكار التي تحرك الفرد موجودة في الفرد وحده، فالتفكير يقوم به الناس في جماعات معينة، وضمن سياقات كانت قد طورتها لنفسها كأسلوب خاص في التفكير، وهو ما يمكن اعتباره تشكلًا لـ “هوية ثقافية”. وبعض المفكرين يرى أن الناس يعيشون في جماعات وليس كأفراد منفصلين، بل يتصرفون مع أو ضد بعضهم، ضمن جماعات متنوعة التنظيم.
ولا بد أن نعي أن الربيع العربي عمل على تفكيك النظام العام والطبيعي في بنية المجتمع وهو الأمر الذي عزز من الهويات التاريخية والثقافية وأنتج كيانات في ظاهرها الجدة والعصرنة، وفي كوامن جوهرها الامتدادات التاريخية التي تحاول إعادة التكيف مع الواقع الجديد، ولن تكون تلك الكيانات الجديدة إلا كيانات متصارعة تبحث عن الوجود والبقاء والحفاظ على القيمة والمعنى.
لقد أظهر المثقف العضوي «الأحزاب والمنظمات» فشلاً ذريعاً في صناعة واقع أجد يتوازى وأحلام وتطلعات الناس، ذلك لأنه يتمحور حول الأيديولوجيا ولم يتجدد، وتبعاً لذلك، فقد عجز عجزاً كاملاً عن ضبط إيقاع المفهوم وشاعت في ممارسته وتعاطيه وتفاعله مع الأحداث الفوضى (سقوط الأيديولوجيا) والفوضى لا تصنع مستقبلاً آمناً ومستقراً ولكنها تمهد الطريق للماضي لكي يتمظهر بمظاهر الثورية والتطلع، ولا تجد نفسها – أي الفوضى – إلا في موقف المبرر والمدافع، ومثل ذلك أصبح ملحوظاً ولا يمكن تجاهله، وغياب المثقف الحقيقي والفرد كان نتاج واقع تم تكريسه في الوجدان الجمعي لا يحتفي إلا بالشكل والأدعياء دون النفاذ الى جوهر الأشياء لذلك كان المهاد لثورة 21سبتمبر كضرورة تعيد نسق النظام العام والطبيعي إلى سياقه فقد فرضت الضرورة نفسها ومهدت لقيام الثورة .
وحتى تتمكن ثورة 21من سبتمبر من إحداث متغير في الصورة النمطية التي تسيطر على أذهان الجماعات والفرق ضد بعضها البعض في اطار مشروعنا الإسلامي علينا أن نحدث قدرا من تفريغ الطاقات الانفعالية بما يخدم فكرة التوحيد لا الشتات وبما يعزز من قيمة الأمة لا بما يضاعف من شتاتها ويعيق تقدمها ونهضتها ولذلك من الحكمة أن تدير حوارا توافقيا يلبي مقاصد الإسلام وفي السياق يذيب كتل الجليد بين الجماعات والفرق ويفتح بابا من التقارب والتوحيد في الطاقات حتى تكون عصية وصامدة في تقبل مشاريع الاستهداف التي تنال من الأمة ومن وحدتها ومن هويتها الحضارية والإيمانية والثقافية .
ولا بد من الاهتمام بدور المثقف الحقيقي، فغيابه دال على غياب البعد الحضاري، إذ أن ثمة تلازماً عضوياً بين البعد الحضاري والنهضة الفكرية والثقافية والإبداعية، وسياقات التاريخ تحدثت عن ذلك التلازم، فالبعد الحضاري لم يكن إلا نتيجة لمقدمات موضوعية ومنطقية، واستقرار الأوطان يظل رهن وعي نخبها، ويقظة الهويات التاريخية لن تكون إلا رهن الممارسات الخاطئة التي تقوم بها الأنظمة، لذلك فإن دعوات فك الارتباط التي شاعت في الخطاب السياسي ليست إلا نتيجة لمقدمات خاطئة، واتساع دائرة تلك الدعوات في اليمن، ضاعف من الشعور بالتفرد والاستقلالية ويضاعف من الإحساس بالضيق بالآخر، وهو الأمر الذي يصطلح عليه بـ«تجزئة الهوية الوطنية» ومظاهر تجزئة الهوية دالة على وجود خلل في المنظومة الاجتماعية والثقافية والسياسية، لذلك فتفعيل دور المثقف الفرد والنوعي وتفاعله الإيجابي ومشاركته قد تخفف من وطأة الأحداث وتحد من امتدادها وتساعد في لملمة المتناثر، لوعيه ولأهميته العضوية ولإدراكه لنتائج المقدمات والقرارات وهو الدور الذي لا بد أن تجهد ثورة 21 سبتمبر للقيام به حتى تبدع واقعا ثوريا يمتاز بالجدة ويعمل على تمتين عناصر النهضة ويتفاعل مع المستويات الحضارية المعاصرة .